عندما ترتعِد الإمبرياليّة في أفريقيا.. تجربة “توماس سانكارا” | صحيفة السفير

عندما ترتعِد الإمبرياليّة في أفريقيا.. تجربة “توماس سانكارا”

اثنين, 16/01/2017 - 12:29

كسب فاضل بارو الآن، وهو أحد القيادات المركزية لحركة السنغال الشبابية «يونا مار» (ضُقنا ذرعًا)، صيتًا ضمن الناشطين في أرجاء إفريقيا. في 2011، أطلق فاضل بارو وحركة «يونا مار» محاولةً شعبيّة لمنع رئيس السنغال حينها «عبد الله واد» من تعديل الدستور بحيث يساعده على كسب الترشّح مرةً أخرى للرئاسة. وتمّ اعتقال فاضل بارو وعشرات الناشطين الآخرين لعدّة إيام في جمهورية الكونغو الديموقراطية لانتقادهم مساعي الرئيس المخالفة للدستور للاحتفاظ على سلطته.

 

فاضل بارو في الوسط مُرتديًا قمصيه المعروف

في ظهوره العلني، يلبس بارو قميصه المفضّل: في صدر القميص صورة لـ«توماس سانكارا»، القائد الثوريّ الراحل لبوركينا فاسو، وأعلاها جملة: «لا زلت هُنا».

فاضل بارو ليس وحيدًا في تعظيمه لـ«توماس سانكارا»، فبينما ظلّ سانكارا ذو شعبيّة كبيرة لدى الشباب في أرجاء أفريقيا منذ فترة معيّنة، ففي السنوات الأخيرة انبعث الاهتمام بمِثال سانكارا وأفكاره؛ بالخصوص في بوركينا فاسو نفسها.

اغتيل سانكارا في انقلابٍ عسكريّ أوقف حركةً ناشئة هدفت للتغيير التقدّمي والعدالة في بوركينا فاسو عام 1987، أمّا شعبيّة سانكارا النامية فهي مرتبطة بسخطِ الشعب البوركينابي الذي أسقط الرئيس «بليز كومباوري» – النقيب المسؤول عن مقتل سانكارا – في تمرّدٍ شعبيّ شهرَ أكتوبر 2014.

تشي غيفارا الأفريقيّ

في شهور المظاهرات التي قادت لإسقاط الرئيس «كومباوري»، كانت الرموز المرتبطة بـ«سانكارا» في كلّ مكان تقريبًا؛ فقد حمل المتظاهرون صُوَرَه، وصوته المُسجّل كان يدوّي من مكبّرات الصوت، واقتباساتٌ من خُطبِه كانت تُدرَج في الهتافات الشعبيّة، فحتّى قيادات المعارضة السياسيّة المُعتدلة كثيرًا ما ختموا خُطبهم بالشعار الرمزيّ لحكومة سانكارا الثوريّة: «الوطن أو الموت؛ سوف ننتصر!» (La patrie ou la mort, nous vaincrons!)

لعب قادة الأحزاب المُعارِضة الرئيسيّة دورًا مهمًّا بدايةً في الدعوة لمظاهرات – وقلّه منهم «سانكاريّون» فأكثرهم لديهم وجهات نظر مختلفة – ولكن دوائر الناشطين والشبكات الاجتماعيّة الثقافيّة هي من نهضت وواجهت قوى أمن النظام، إذ ضحّى عشرات المتظاهرين بحياتهم أثناء ذلك.

تعتبر كثيرٌ من هذه المجموعات، مثل جمعيّة «مكنسة المواطنين» (أو «المواطنون الكانِسون»)، توماس سانكارا كأحد قدواتها الأبطال. فحين سار المتظاهرون تجاه مبنى «التجمّع الوطني» في يوم 30 أكتوبر (قبل أن يُحرِقوا المبنى)،ارتفعت شعارات سانكارا المعروفة مثل: «حين ينهض الشعب، ترتعد الإمبرياليّة»، وأشارت «الجزيرة» لكون العديد من المتظاهرين الشباب قد استلهموا من قِبل روح «تشي غيفارا الإفريقيّ» بينما أعلنت «لوموند» الباريسيّة اليوميّة أنّ إسقاط كومباوري هو «انتقام أبناء توماس سانكارا».
وبعد أسبوعين من هرب كومباوري من البلاد، تشكّلت حكومة انتقاليّة لتنظيم انتخاباتٍ جديدة بحلول أكتوبر 2015، وتألّفت هذه من أطراف متنوّعة: تكنوقراطيون وعساكر وشخصيّات من المجتمع المدني وقليلٌ النشطاء الراديكاليين، من ضمنهم عددٌ من مؤيّدي السانكاريّة.

أشاد ميشيل كافاندو – الدبلوماسي المتقاعد القائم بدور رئيس الفترة الانتقالية – بـ«نموذج» الثورة الداعي لـ«النموّ الإيغاليتاري» (egalitarian development model)، ومجّد رئيس وزرائه المقدّم يعقوب إسحاق زيدا «هويّة النزاهة التي حملناها بفخر منذ ثورة أغسطس 19833»، وتمّ إنشاء برلمان انتقالي جديد أيضًا، يقوده «شريف سي» وهو محرّر صحيفة مستقلّة معروفٌ بإعجابِه بـسانكارا.

يحملُ خصومُ كومباوري القدامى الذين يربطون أنفسهم علنًا مع إِرثِ سانكارا الآن سلطةً أخلاقيّة معتبرة، عززتها الذاكرة الحيّة لسانكارا لدى الشعب البوركينابي، فقد دفع هؤلاء ومعهم ناشطون آخرون تجاه إصلاحاتٍ جوهريّة في النظام السياسي والاجتماعيّة وتجاه العدالة في أكبر قضايا انتهاكات حقوق الإنسان والفساد تحت حكم كومباوري.

فقد تمّ عادة فتح التحقيقات حول مقتل الصحفّي الاستقصائي نوربيرت زونغو عام 1998 (والذي يعتقد أنّه قُتِل من قِبل حرس كومباوري الرئاسي)، ولأول مرّة، تمّ إطلاق تحقيقٍ قضائيّ في قضيّة اغتيال سانكارا نفسه.

على الرّغم من ظروف مقتل سانكارا، فأفعاله وأفكاره التي قام بها في حياته هي ما يجذب اهتمام الناس اليوم. ويتبيّن لنا صمود إرثِه أكثر حين نضع بعين الاعتبار الفترة القصيرة جدًا التي أمسكت فيها حكومته الثوريّة بالسلطة: منذ أغسطس 1983 حتّى أكتوبر 1987.

في استذكارهم للماضي، يتّفق الكثير من الشعب البوركينابي – سواءً أأحبّوا تلك الحكومة أم لا – أنّها جلبت تغيّراتٍ إيجابيّة للبلد أكثر مما حصل في خمسٍ وعشرين عامًا سبقتها من الاستقلال الوطني.

أرض منتصبي القامة

حين استولى «المجلس الوطنيّ للثورة» على السلطة تحت سانكارا في شهر أغسطس 1983، وصف الإعلام الأجنبي هذا الاستيلاء عمومًا بالانقلابٍ عسكري – مثله مثل أيّ انقلابٍ آخر في أرجاء أفريقيا.

كان سانكارا نقيبًا في الجيش وعديدٌ من زملائه (من ضمنهم كومباوري حينها) كانوا ضبّاطًا، ولكنّهم أسقطوا الطغمة العسكريّة الحاكمة السابقة (military junta) كجزءٍ من ائتلافٍ سياسيٍ واسع تضمّن العديد من المجموعات السياسيّة اليساريّة وبعض النقابات العمّاليّة والحركة الطلّابيّة وغيرهم من الناشطين المدنيّين، وكان «المجلس الوطني للثورة» وحكومته مؤسّساتٍ هجينة جذبت مشاركين من القطاعات الاجتماعيّة المتنوّعة وجبت دعمًا قويًا ونشِطًا من الشباب والفقراء وغيرهم من المُهمّشين من قِبل النظام السابق.

وأوضح المجلس الوطنيّ الثوري الشباب (إذ أنّ سانكارا كان عمره ثلاثة وثلاثون عامًا فقط في وقتها) منذ البداية أنّ هدفهم ليس فقط القيام ببعض التعديلات في قمّة سلطة البلاد، وإنمّا أرادوا أن يحوّلوا البلاد جوهريًا – إذ أنّها أحد أفقر دول العالم وأقلّها نموًا. ولكيّ يؤكّدوا قطيعتهم مع هذا الماضي، غيّروا اسم الأمة من «فولتا العليا»، وهي تسمية الاستعمار الفرنسي القديمة، لمسمّىً يشدّد على الهويّة الأفريقيّة: «بوركينا فاسو»، أو «أرض منتصبي القامة» أو «أرض الشُرفاء».

واتّخذت سياسة البلاد الخارجيّة انعطافه حادّة بعيدًا عن الانحياز لفرنسا وغيرها من القوى الغربيّة وتجاه الحركات والحكومات الوطنيّة الراديكاليّة الثوريّة والمناهضة للإمبرياليّة في أرجاء «العالم الثالث». دعم المجلس الوطنيّ للثورة علنًا وفِعلًا المناضلين الجنوب أفريقيين لأجل الحريّة – وأوّل جوازٍ أصدرته بوركينا فاسو تحت مسمّاها الجديد أًصِدر رمزيًا لنيلسون مانديلا الذي كان حينها لا يزال مسجونًا في جنوب أفريقيا حين كانت تحت نظام الأبارثهايد.

ودعمت حكومة سانكارا الحركات المختلفة التي عارضت الهيمنة الفرنسيّة مباشرةً، وأعلن سانكارا أثناء رحلاته لأمريكا اللاتينيّة تأييده لـ«فيديل كاسترو» وتبنّى كذلك نضال الثوريين النيكارغويين في مقاومتهم للتدخّل الأمريكيّ. وفي داخل أفريقيا، ناصر سانكارا ورفاقه نموذج الوحدة الأفريقيّة مبنيةً على الشعوب المُعبّأة – وليس فقط الحشو الكلامي كما كانت حالة أغلب حكام القارّة الذين احتفظوا عمومًا بعلاقاتٍ قويّة مع حلفائهم الغربيين.

فمن غير المفاجئ إذًا أنّ المجلس الوطني الثوري أثار عداوة فرنسا والولايات المتحدة وغيرها من الأمم القويّة. حاولت الدول الأفريقيّة العميلة لهذه الأمم – بالخصوص الدول المجاورة: ساحل العاج ومالي وتوغو – أن تزعزع استقرار حكومة سانكارا، وساعدوا الضبّاط العسكريين المعارضين على القيام بتفجيرات، وفي عام 1986 خاضت مالي ضدّ بوركينا فاسو حربًا قصيرة.

دولة مُرمّمة وشعبٌ مُحشّد

لم تكن راديكاليّة بوركينا فاسو للاستهلاك الخارجي فقط، فمجلس سانكارا الحاكم أوضح أنّه على الرغم من أنّ التغييرات ستتطلب بالضرورة سنوات عدّة، فهو لن يكتفي بإصلاحاتٍ تدريجيّة، فتعهّد سانكارا أنّ «المهمّة العليا» للثورة هي «إعادة البناء التامّة لآليّات الدولة بأكملها، بقوانينها وإدارتها ومحاكمها وشرطتها وجيشها».

بالإضافة لإعادة هيكلة القضاء والجيش ومؤسسات الدولة الأخرى، هاجم مجلس سانكارا الحاكم الفساد والاستهلاكيّة السافرة لنُخبة الأمة. أصبح التوفير والنزاهة شعارا المرحلة، وأدخلت محاكمات علنيّة أعدادًا من كبار الشخصيات للسجن في قضايا اختلاس واحتيال. كشَفَ سانكارا عن كلّ ممتلكاته، وأبقى أبناءه في مدارس عامّة ورفض أقرباءه الذين أتوا له باحثين عن وظائف في الحكومة.

وكانت هنالك تغيّرات أكثر جوهريّةً، فالمجلس الوطني الثوري هدَفَ لتطوير نموذجٍ سياسيّ جديد عن طريق تعزيز وتشجيع الروابط القويّة ما بين الدولة بعد إصلاحها والمواطنين المحشّدين حديثًا. وفي أول بثٍّ إذاعيٍّ لسانكارا كرئيس، ناشد الجميع «رجالًا ونساءً، شبابًا أو شيوخًا» بأنّ يشكّلوا منظّماتٍ شعبيّة عُرفِت بمسمّى «جمعيات الدفاع عن الثورة»، إذ تُنتخب هذه الجمعيات مباشرة مِن قِبل مجالس عموميّة مفتوحة أمام كلّ سكّان الحيّ أو القرية التي تمثّلها، مما أدّى لانتشارها بسرعة في أرجاء بوركينا فاسو. كانت اللجان المحليّة شعبيّة حقًا، إذ ملأها أناسٌ من مكاناتٍ اجتماعيّة متواضعة، ليس القلّة المُتعلّمة فحسب.

بدأ التحشيد العماليّ الجمعي بعد أسابيع قليلة من استحواذ سانكارا على السلطة؛ وبينما أتت الدعوات الأوليّة من السلطات المركزيّة، فقد تمّ تنظيمها على المستوى المحلّي في البداية من قِبل جمعيات الدفاع عن الثورة عادةً.

وأثناء السنين الأولى، اتخذت المجتمعات المحليّة المُعبأّة على عاتقها صفيفًا من المشاريع: تنظيف المدارس وساحات المستشفيات، رصّ الشوارع وبناء سدودٍ صغيرة للحصول المياه الشحيحة أو توجيهها في قنوات بغرض ريّ المزارع، وحين يتمكّنون من تأمين مواد بناء، عمِلوا على بناء مدارس ومراكز مجتمع ومسارح ومرافق أخرى. تجاوزت جهود السكّان أحيانًا إمكانيّات الحكومة – وعلى سبيل المثال، تمّ بناء عدد مدارس يتجاوز ما تستطيع الحكومة توفيره من الموارد والعمّال.

وهذا الحراك، علاوة على ذلك، لم يكن مُحتكرًا لدى جمعيّات الدفاع عن الثورة؛ ومع أنّ علاقتها مع النقابات العمّالية الراسخة كانت معقّدة وأحيانًا متوتّرة، انبثقت أعدادٌ من منظّمات الدعم الذاتي الاجتماعيّة في أرجاء البلاد، كثيرٌ منها لا تربطها أي صلة مباشرة مع الحكومة المركزيّة.

كان سانكارا صريحًا بشأن معتقداته الإيديولوجيّة: ماركسيّ، غير متزّمت (دوغماتي). وبحكم أنّ بوركينا فاسو كانت شديدة الفقر، بقدرة صناعية ضئيلة وطبقة مأجورة صغيرة جدًا، فقد التزم سانكارا بعدم إلصاق تسميات «الاشتراكيّة» أو «الشيوعيّة» على العمليّة الثوريّة، وإنما قام عوضًا عن ذلك بتأطيرها كـ«ثورة مناهضة للإمبرياليّة» تُركّز على محاربة الهيمنة الخارجية وتشييد أمّةٍ متّحدة وبناء قدرات الاقتصاد الإنتاجيّة ومعالجة أكثر المشاكل الاجتماعيّة الملّحة لدى الشعب مثل الجوع والمرض والأميّة المنتشرة.

ومعّ أنّ الفقر ظلّ واقعًا مؤلمًا لأغلب الناس، ففي أثناء الأربع سنوات القصيرة من حكم المجلس الوطني للثورة، بدأت الأوضاع المعيشيّة تشهد تحسينات بسيطة: فقد تمّ إنشاء عيادات صحيّة جديدة في أرجاء البلاد ومئات المدارس الجديدة وتدشين حملة محو أميّة ودعمٍ أكبر للفقراء والمزارعين، وبجانبها تقشّف صارم لمسؤولي الدولة (بالخصوص البيروقراطيين رفيعي المستوى)، ومعها زيادة الإنفاق العام على التعليم بنسبة 26.5% للفرد ما بين 1983 و1987، وزيادة الإنفاق على الصحة بنسبة 42.3% للفرد.

استمرّت بعض الدول الغربيّة في توفير المساعدات لجهود بوركينا فاسو التنمويّة، ولكنّ الكثيرين – بسبب خشيتهم وريبتهم من سياسات الحكومة – قلّلوا من تمويلهم. وفي مناخٍ سياسيّ كهذا، شدّد سانكارا وزملاؤه على حاجة بوركينا فاسو بتحقيق الاكتفاء الذاتي الاقتصادي قدر المستطاع، وتفادوا القبول بمساعدات النمو التي أتت بالتزاماتٍ وشروط سياسيّة. «نحن نعلّم أننا يجب أن نعتمد على أنفسنا»، قال سانكارا.

وبالخصوص في بلدة قاحلة كهذه، فالاعتماد على الذات يعني أيضًا اتّخاذ سياسات تحافظ على الاستدامة البيئيّة، فتمّ حفر مئات الآبار الجديدة وبناء خزّانات للحفاظ على مصادر المياه الشحيحة في البلاد، وتمّ تعليم المزارعين كيفيّة مكافحة تآكل التربة وكيفيّة إنتاج أسمدة عضويّة، ومعها تمّ غرس ملايين الأشجار في الريف. وبهذا الاهتمام بالبيئة، كان سانكارا متقدّمًا بشكلٍ ملحوظ على أغلب القادة الأفريقيين الآخرين.

كان سانكارا أيضًا سابقًا لعصره في تشديده على حقوق المرأة، فكثيرٌ من البرامج الاجتماعيّة والاقتصاديّة تضمنّت إجراءاتٍ خاصّة مثل فصول محو الأميّة للنساء، وبرامج تدريب الأمومة في القرى الريفيّة وتوفير الدعم للجمعيات التعاونية والرابطات التجارية النسائية. وأنشئت قوانين أسريّة جديدة تحدّد حدًا أدنى لسنّ الزواج وتؤسس للطلاق على أساسِ توافق متبادل وتعترف بحقّ الأرامل بوراثة أزواجهنّ وإزالة المهر. وسَعت حملاتٌ عامّة تجاه محاربة ختان الإناث والزواج الإجباري وتعدّد الزوجات.

وفي وقتٍ لم تتخذ فيه إلّا نساءٌ قليلات مناصبً سياسيّة أو إداريّة عالية في أرجاء أفريقيا الأخرى، عيّنت حكومة سانكارا النساء كقضاة ومفوّضات ساميات للأقاليم وكمديراتٍ لمشاريع الدولة، وفي كلٍ من حكومتيّ سانكارا الأخيرتين في 1986 و1987، كانت هنالك خمسة وزراءٍ من النساء، أي حوالي خُمس عدد الوزراء (إحداهم كانت جوزفين أويدراوغو – وهي حاليًا تخدم كوزيرة عدلٍ في حكومة الرئيس كافاندو الانتقاليّة).

كانت التجربة الثوريّة البوركينابيّة مثل غيرها من التجارب الثوريّة في أفريقيا وخارجها، فقد برزت خلافات ضمن القيادة المركزيّة، وكان بعض رفاق سانكارا تابعين إيديولوجيًا لستالين وماو وأنور خوجة الألبانيّ، ولم يكونوا قلقين كما كان سانكارا بشأن الانتهاكات التي ارتكبتها بعض لجنات الدفاع عن الثورة، ولم يكن لديهم تسامح مع المعارضة ومالوا لتفضيل القهر والقوّة، من ضمن ذلك اعتقال النقابيين الجريئين في معارضتهم.

انجذب هؤلاء المتعصّبون تدريجيًا تجاه كومباوري – وزير الدفاع الذي كان محافظًا سياسيًا ومؤيّدًا للرئيس الفرنسي في دولة ساحل العاج المجاورة.

أهميّة سانكارا المستديمة

في 15 أكتوبر 1987، نفّذ أتباع كومباوري انقلابًا اغتالوا فيه سانكارا واثنا عشرةً من مساعديه، صُدِم الشعب البوركينابي وأصيب بالذعر، وانهار الحشد الشعبي بين ليلةٍ وضحاها. ألغى نظام كومباوري في آخر المطاف أغلب السياسات والبرامج التقدّمية لعصر سانكارا وأحبطها.

يحاول بعض خصوم سانكارا اليوم أن يقللوا من شأن إرثه، مجادلين أنّه أثناء الفترة التي حكم فيها حصلت انتهاكاتٌ وقمع، ويتّهمون أتباعه بتكريس «خرافةٍ» منمّقة. مشروع سانكارا الثوريّ لم يكن مثاليًا ولا يجب تأليهه. الجيش استمرّ من بعده بلعبِ دورٍ جامح ومتماديٍ، وتُذكر جمعيّات حماية الثورة لانتهاكاتها أكثر مما تذكر لدورها الإيجابيّ في تحشيد المجتمعات المحلّية، والسلطات لم يكن لديها تسامُح مع المعارضة السياسية.

ولكنّ جمعًا من الشعب البوركينابي لا يزال يتذكّر الخطوات الجبّارة لعهد سانكارا في محاولته لتحسين صحّة الناس وتوفير التعليم، ومبادرات التنميّة المُبدعة، وإجراءات محاربة الفساد النشطة، والسياسة الخارجيّة التقدّمية وتشديد ذلك العهد على العدالة الاجتماعيّة وحقوق المرأة وتمكين الشباب. ونتيجة ذلك هي أنّ أفكار سانكارا تكسب الآن إعادة نظرٍ شعبيّة، وهي تستحقّ ذلك.

ليس توماس سانكارا مجرّد شخصيّة مفعمةٍ بالحيويّة من الماضي أو مناضلًا في سبيل الحريّة نقرأ عنه في كتب التاريخ، وإنما هو «أسطورة حيّة»، حسب تعبير إحدى أكبر صحف بوركينا فاسو اليوميّة، «فأفكاره لا تزال تحشّد جماهيرًا بأعدادٍ لا تُصدّق».

افريقيا عربي