السياسات الاجتماعية في الصين ،" نيوليبرالية" بخصائص صينية... | صحيفة السفير

السياسات الاجتماعية في الصين ،" نيوليبرالية" بخصائص صينية...

أحد, 01/10/2017 - 14:27

من يحلل طبيعة وبنية النمو الاقتصادي القائم على التصنيع في الصين، يلاحظ أن النمو السريع لم يكن تلقائي بل نتاج لسياسات مواكبة، وهذه السياسات حرصت على ضمان تامين خلق "دورة حميدة للنمو"، عبر الاستثمار الكثيف في البنية التحتية، وتشجيع الادخار المحلي والأجنبي على الاستثمار في القطاع الصناعي. لكن على الرغم من نجاح السلطات الصينية في حفز النمو، إلا أن النمو السريع تولدت عنه  تحديات جديدة، ومن تم دخلت الصين في حالة من انشطار الإصلاحات، فكل إصلاح تتولد عنه سلسة من الإصلاحات اللاحقة .

وهذه الخاصية لم تقتصر على السياسات العمومية في المجال الاقتصادي، بل شملت حتى السياسات الاجتماعية، و التي عملت بدورها على تدعيم سياسة النمو الاقتصادي السريع. وهو ما سيحاول هذا المقال معالجته بقدر من التفصيل.

فالصين على غرار البلدان الأخرى، لم تسلم من تأثيرات العولمة، ولمواجهة تحديات الرأسمالية العالمية، و لدعم تنافسية الاقتصاد الصيني،عملت  الصين على الحد من أعباء الرعاية الاجتماعية، التي تتحملها في الأصل  مؤسسات الدولة. إذ تم تبني استراتيجيات الخصخصة وتنشيط الأسواق،  و إعادة تحديد العلاقة بين الدولة والسوق، وغيرها من القطاعات الغير "دولاتية" في إدارة وتمويل السياسة الاجتماعية .

فهذا  الأسلوب يهدف إلى تقليص التزامات الدولة الصينية،  في مجال  الرعاية الاجتماعية بإدخال شركاء جدد. وبالمثل، فانه يضفي الطابع المؤسسي للروابط بين الدولة والمجتمع (أي   تعبئة المصادر والجهات الفاعلة غير الحكومية، للمشاركة في توفير وتمويل السياسة الاجتماعية / العامة ) . وهو ما يولد موارد إضافية للدولة لتمويل وتوفير الخدمات الاجتماعية .

ومن ثم ، فإنه ليس من المستغرب أن الاستراتيجيات و السياسات العمومية في المجال الاجتماعي، أصبحت تسوق على أنها "سلعة عامة" كما يتم  تسويق سلع   الشركات  للجمهور، بدلا من الاعتماد فقط على البيروقراطية الحكومية في توفير السلع و الخدمات العامة، وهذا ما يعرف  "بالتنسيق الايجابي" حيث يتم البحث عن  تحقيق أقصى قدر من الفعالية والكفاءة للسياسات العامة.

 وذلك بإشراك  تشكيلة واسعة من "أطراف ثالثة" (مثل المصارف التجارية، المستشفيات الخاصة،والشركات الصناعية، والجامعات ، ووكالات الخدمات الاجتماعية وغيرها من المنظمات الاجتماعية..) في تقديم الخدمات والسلع العامة. ولذلك، أصبحت الدولة في علاقاتها بالمجتمع تلعب دور التنسيق والتوجيه بدلا من القيادة.  

و في هذا السياق المفاهيمي الأوسع، سنحاول رصد التحولات التي مست أدوار الدولة الصينية   من خلال تحليل  السياسات الاجتماعية لحقبة ما بعد 1978. بالتركيز على السياسات الاجتماعية في الحقبة الماوية (أولا). و أدوار الدولة بعد 1978(ثانيا).

أولا : السياسة الاجتماعية في الحقبة الماوية

في الفترة " الماوية"  تم التركيز على تحقيق الجانب الإنساني، وإنتاج المواد الأساسية وتطوير مؤسسات الرعاية الاجتماعية، لتوفير السلع الأساسية والاجتماعية إلى مواطني جمهورية الصين. وعند النظر في صياغة السياسات الاجتماعية في الصين خلال هذه الحقبة، يجب أن نأخذ في عين الاعتبار أن البلد تبنى رسميا الأيديولوجية الاشتراكية، وأصبح ينظر للنظام الاجتماعي الجديد بوصفه انعكاس لانتصار الاشتراكية.

ففي الفترة "الماوية"  تم إلغاء الملكية الخاصة، وكان يفترض أن يتم القضاء على الاستغلال و عدم المساواة. بعد أن اكتمل العمل الجماعي في المناطق الريفية ، فالفلاحين أصبحوا أعضاء في "الكومونات " Commune، لكسب الحق في العمل ، وبالتالي وسيلة العيش.

فالسياسة الاجتماعية  خلال هذه الفترة، تميزت بعدد من السمات الايجابية، كالتمسك بالمثل العليا للاشتراكية والمساواة، توفير  الاحتياجات الأساسية للناس ، والحفاظ على الاستقرار الاجتماعي. والدولة هي المسئولة عن تقديم الرعاية والخدمات الاجتماعية، والسياسات الرامية إلى الحد من أوجه التفاوت في مستويات المعيشة، والاستهلاك بين الأفراد، خاصة في المناطق الحضرية بالصين .علاوة على ذلك، فإن الدولة تدير نظام الرعاية الصحية، والتعليم ، و المرافق الثقافية التي لا يمكن العثور عليها في الريف.

وبما أن الدولة لعبت دورا بالغ الأهمية، في إدارة السياسة الاجتماعية، والرعاية الاجتماعية، فقد اتبعت أسلوب استبدادي، فالهيكل الإداري ووسائل التدخل تميزت بالخصائص التالية:

مركزية مفرطة للسلطة والموارد،
 العلاقات بين مختلف مستويات الإدارة يطبعها التسلسل الهرمي.
اعتماد سياسة البيروقراطية في اتخاذ تدابير الإنفاذ.

ثانيا: تغيير نماذج السياسات الاجتماعية في الصين في فترة ما بعد 1978

  الإصلاح الاقتصادي الذي انطلق في 1978، أدخل تغيرات هيكلية في الجانب  الاجتماعي. ويشمل التحول الهيكلي"التحول المؤسسي"، بمعنى الانتقال من درجة عالية من المركزية والتخطيط الاقتصادي والاجتماعي إلى نظام اقتصاد السوق،  كما يشير التحول المؤسسي   إلى حدوث  تغيير اجتماعي عميق إذ  تم الانتقال  من مجتمع زراعي مغلق إلى مجتمع صناعي متحضر و منفتح تحركه آلية  السوق.

هذه التحولات أدت إلى تغييرات ليس فقط في الهيكل الاقتصادي والاجتماعي،  وإنما في أدوار الدولة  بداخل المجتمع -لاسيما في مجال  السياسة الاجتماعية- . فمنذ بداية الإصلاح كانت الإشكالية الملحة التي تواجه النظام الصيني، هي إيجاد حل لمعضلة تزايد احتياجات الناس للعمل، والحاجة لتحسين الظروف المعيشية، إلى جانب  تخلف القوى المنتجة. وفي محاولة لجعل المؤسسات المملوكة للدولة، أكثر كفاءة من الناحية الاقتصادية وأكثر تنافسية، اتخذت خطوات هامة في اتجاه الخصخصة وتسويق السياسة والرعاية الاجتماعية.

فالقيادة الشيوعية  بعد حقبة "ماو"، أدركت  جيدا أن الرعاية الاجتماعية التقليدية، ونموذج السياسة الاجتماعية التي يجري تنفيذها غير مجدية . لذلك، اتجهت القيادة الجديدة إلى تبني  فكرة الدولة الحديثة.  فالدولة ينبغي أن تتصرف "كوسيط أو مساعد" في السياسة العامة و الإدارة العامة، وتماشيا مع هذا الدور الجديد ينبغي أن تحدد الدولة الإطار التنظيمي المناسب لإدارة السياسة الاجتماعية /العامة.

فالتمويل الفعلي،   وتقديم الخدمات الاجتماعية و/ السياسة العامة، ينبغي أن يلعب فيها السوق والجهات غير الحكومية دور أكبر. في حين أن الدولة هي المسئولة عن إنشاء "شبكة أمان" لمساعدة المحتاجين والضعفاء. وهكذا ، فانه ليس من المستغرب أن ينظر إلى ممارسات واستراتيجيات الإصلاح عموما، على أنها تنفيذ لأجندة  الليبرالية الجديدة في تصورها لطريقة تحقيق الرفاه الاجتماعي. واستخدمت هذه الأجندة  لإصلاح السياسة الاجتماعية في الصين، على الرغم من أن القادة في مرحلة ما بعد 1978 ، لم يستخدموا مصطلح "الخصخصة"، لكن الدولة قد خفضت بالفعل من تمويل السياسات الاجتماعية والرعاية الاجتماعية.

فالدولة في تنفيذها لسياسات الاجتماعية الحالية، قد تراجعت عن بعض الممارسات التقليدية ك " الدولة الأبوية " و" الاعتماد المفرط على الدولة ". فالرعاية الاجتماعية والفوائد السخية  التي استفاد منها  العاملين في الدولة في فترة "ماو"، أصبحت تمثل الآن عبء ثقيل على  الدولة .و الجدير بالذكر، أن الإصلاحات التي استهدفت السياسات الاجتماعية في الصين بعد 1978 ، ارتبطت  بالتحول  من الحكم  المركزي إلى اللامركزية. حيث تم القيام بإصلاحات إدارية لتنظيم الوزارات على المستوى المركزي وعلى مستوى المحافظات، بهدف  تحسين كفاءة وفعالية الإدارة العامة في الصين. كما تم تحديد اختصاصات ومسؤوليات مختلف الأجهزة الحكومية ، وتعزيز سيادة القانون. وخلافا لعهد "ماو"، عندما اتخذت الدولة على عاتقها كل المسؤوليات في السياسة الاجتماعية. فان القادة في مرحلة ما بعد "ماو" حاولوا إعادة تحديد العلاقات بين الدولة والسوق و المجتمع.

ومن خلال تحليل فلسفة السياسة الاجتماعية في الصين بعد 1978، يبين بوضوح أن الدولة تستطيع أن توظف   السوق، وغيرها من الجهات الفاعلة الغير حكومية، لتخفيف الأعباء عن   الدولة، في مجال توفير الخدمات و السلع العمومية. و اعتماد مثل هذه السياسة يعزز من قدرة الدولة على التوجيه والتنظيم، وإدارة الموارد المالية المتاحة بما يخدم  الاقتصاد والمجتمع . وسنحاول تفصيل ذلك في القادم من الأيام إن شاء الله تعالى ... و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون ...

 

 

د.طارق ليساوي

*إعلامي و أكاديمي مغربي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي