إدارة التحول الاقتصادي في الصين بعد 1978، و الانتقال من فلسفة "البناء بالهدم" إلى "الهدم بالبناء".. | صحيفة السفير

إدارة التحول الاقتصادي في الصين بعد 1978، و الانتقال من فلسفة "البناء بالهدم" إلى "الهدم بالبناء"..

جمعة, 06/10/2017 - 12:49

في مقال سابق لنا نشر بهذا المنبر تحث عنوان "التحولات الاقتصادية و تأثيرها على المالية العمومية في الصين "، اشرنا فيه إلى أن مسلسل الإصلاح الاقتصادي في الصين و الذي انطلق فعليا بعد 1978  قد أحدث هزات عنيفة في المجتمع، و باقي هياكل الدولة والاقتصاد، لكن هذه التحولات كانت بالرغم من ما أحدثته من أثار، تحولات هادئة وسلسة و لم تثر قلاقل اجتماعية، و لم تهدد السلم الاجتماعي، و استقرار التوازنات الماكرو اقتصادية للصين..و ذلك راجع إلى الفلسفة التي انتهجها الصينيون في الإصلاح بعد 1978 ..

ذلك، أن ما يميز التجربة الصينية بعد 1978، هو انتقال فلسفة النظام السياسي من فكرة " البناء بالهدم " والتي مثلت عنوان الحقبة الماوية، إلى فكرة "الهدم بالبناء" في مرحلة ما بعد 1978. فكلا الفلسفتين تتفقان على ضرورة بناء اقتصاد ومجتمع جديد، وهدم معالم النظام القديم . إلا أن الاختلاف الأساسي هو أن الأسلوب الأول يبدأ بهدم القديم قبل بناء الجديد، بينما الأسلوب الثاني يعتمد مبدأ التدرج، فهو ينطلق من فرضية مفادها أن البناء التدريجي للنظام الجديد يعد في ذاته مدخلا لهدم النظام القديم. و لتوضيح هذا الأسلوب سأحلل منهجية الحكومة الصينية في الانتقال من الاقتصاد المنغلق إلى الاقتصاد المنفتح (أولا) وهو ما سيقودنا باتجاه البحث في الخصائص المميزة لعملية إدارة الانتقال من الانغلاق إلى الانفتاح (ثانيا)  .

أولا- سمات إدارة عملية الانتقال من الانغلاق إلى الانفتاح الاقتصادي

قبل عام 1978، كانت سيطرة الصين عمليا وثيقة على الاقتصاد، و التفاعلات التجارية والمالية  مع بقية دول العالم محدودة. لكن بعد 1978، شرعت الصين في الإصلاح الاقتصادي وبدأت تنفتح على بقية دول العالم. فاستطاعت تحقيق انجازات جد ايجابية، فإجمالي حجم التجارة في عام 1978 لم يتعدى حوالي 20.7 بليون دولار، قام بها حفنة من شركات التجارة الخارجية. كما أن جميع معاملات النقد الأجنبي قام بها "بنك الصين" المملوك للدولة، وكانت الصين لا تقترض من بلدان أخرى، ولا تستقطب الاستثمارات الأجنبية المباشرة. لكن بعد عام 1978، تم البدء في وضع سياسات للإصلاح، وأخذت الصين تنفتح تدريجيا على بقية العالم، وهو ما مثل جزءا في إستراتيجية إصلاح البلد.

وفي اقل من ثلاثة عقود، أصبحت الصين تنعم باقتصاد قائم على السوق، مع اندماج تدريجي في الاقتصاد الدولي. فحجم التجارة نمى بمقدار 70 مرة، و حصة التجارة من GDP نمت بخمس أضعاف. كما أن نصيب البلد من التجارة العالمية انتقل من 0.8 ٪ عام 1978الى  7.7 ٪ عام 2005 إلى أزيد من 13 ٪ في العام 2016. والبنوك الأجنبية انتشرت في جميع أنحاء الصين الساحلية ، كما سجلت   الصين نجاحا كبيرا في جذب(FDI)، إذ تلقت حوالي ربع مجموع الاستثمار الأجنبي المباشر المتدفق نحو البلدان النامية خلال السنوات العشر الأخيرة.  إذ سجلت مبلغا قياسيا قدره 69.6 بليون دولار في عام 2016،و بلغت استثمارات المباشرة المتجهة من ثاني أكبر اقتصاد في العالم إلى الخارج في حزيران 2016 نحو من 73 مليار دولار.

ولإدارة عملية التحرر الخارجي، وضعت الصين نظاما شاملا لمراقبة الصرف يغطي جميع عمليات ميزان المدفوعات. وهو ما مكنها من السيطرة الفعالة على التدفقات رأس المال و مكنها عمليا من مجابهة الأزمات المالية التي عصفت بالنمور الأسيوية في 1997 ، و الأزمات الموالية، وأهمها الأزمة المالية العالمية للعام 2008، و هذا النجاح هو نتاج للمبادئ الحاكمة والناظمة لعملية إدارة التحولات الاقتصادية، و هو ما سنحاول تناوله في القسم الموالي .

ثانيا- خصائص عملية التحول من الانغلاق إلى  الانفتاح

في منتصف عام 1978 أقدم الحزب الشيوعي الصيني على استعراض دروس ثقافة الثورة. فوصل إلى فلسفة أو حكمة  مفادها  "أن الممارسة هي المعيار الوحيد لاختبار الحقيقة" “Practice is the sole criterion to test truth”، مما ساعد السلطات على تخطي عقبة  الرؤية الايدولوجيا الشيوعية لتدبير الشأن الاقتصادي.

هذه الفلسفة الأساسية هي التي استرشد بها صناع القرار في كل مسلسل الإصلاح والتحرير. وأهم ما يميز فلسفة التحرير الخارجي في الصين أنها ترتكز على قاعدتين: " التجريب" و"التدريج" Experimental and Gradual . فالنهج التجريبي مكن الصين  أولا، من استخلاص الدروس من التجارب السابقة، ثم المرور إلى وضع أو تكييف المؤسسات و نظام الإدارة بما يتناسب واحتياجات كل مرحلة من مراحل التحرير، فالعديد من المراقبين الاقتصاديين يصفون الإصلاح والانفتاح في الصين بأنه كان  تدريجي.

 و يعرف التدرج بأنه" سياسة الاقتراب من الهدف المنشود عبر مراحل تدريجية "، وبموجب هذا التعريف، فإن مصطلح التدرج لا يعكس بشكل جيد خصائص عملية الإصلاح والتحرير في الصين. وذلك لسببين  :  ألف- أن الإصلاح والتحرير في  الصين لم يكن مخطط له بشكل مسبق،  بمعنى أن لا أحد كان يعرف نتائج الإصلاحات. باء- هو أن ما يقرب من جميع تدابير التحرير كانت بالدرجة الأولى عبارة عن اختبار، سواء في موقع محدد، أو في صناعة معينة. قبل المرور إلى تعميم  التجربة -في حالة نجاحها- على نطاق أوسع أي على المستوى القومي. هذه الأدلة التجريبية المستقاة من التجربة ساعدت على  بناء الإرادة السياسية القوية المؤمنة بجدوى الإصلاحات  .

النهج التجريبي ودورة سياسات الإصلاح بعد 1978

فعملية التحرير أحيانا كانت تتخذ طابع جذري وليس تدريجي. مثل تحرير قطاع الخدمات في إطار منظمة التجارة العالمية في عام 2001 ، حيث تم الإصلاح بشكل متطرف  . وأيضا ، من الدلائل على تجريبية الإصلاح في الصين  هو أنه  بفعل  النتائج المخيبة للآمال تباطأت عملية التحرير خلال  فترتين (1987-1991 و 1997-2000).

لذلك، فان "النهج التجريبي" هو أفضل بديل لوصف عملية التحرير في الصين.و في هذا الصدد  قال (  Deng Xiaoping دنغ شياو بينغ ) في عام 1985، إن الإصلاح والانفتاح هو موضوع كبير جدا  وبدون تجربة لا يمكن للمرء أن يتعلم. و الأمثلة على النهج التجريبي في الإصلاح والتحرير الخارجي عديدة: منها تحرير (FDI) في أربع مقاطعات في عام 1980 ، وفتح مراكز تبادل العملات الأجنبية في مدن مختارة ...

و على العموم،  فنجاح الصين في العبور من اقتصاد وثيق الانغلاق إلى اقتصاد  مفتوح. كان نتيجة للعوامل التالية و التي على البلدان العربية أخدها في الاعتبار، لاسيما و انها تتجه نحو تحرير صرف عملاتها الوطنية :

إعطاء الأولوية الأولى لسياسة الاستثمار الأجنبي المباشر. فضلت الصين منذ بداية الانفتاح  تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر على سائر التدفقات الرأسمالية. فالاستثمارات الأجنبية المباشرة تمثل 118 ٪ من إجمالي التدفقات الصافية المسجلة في الحساب المالي بين 1982 و 2005. هذا النمط من الاستثمار الأجنبي ساعد على الحد من تعرض الاقتصاد للصدمات الخارجية مثل الأزمات الإقليمية  التي اجتاحت المنطقة الآسيوية بين عامي 1997-98. بالإضافة إلى مساهمته الواضحة  في تمويل الاستثمار والاستهلاك على نحو سلس. كما ساهم في تحفيز النمو الاقتصادي عن طريق نقل التكنولوجيا، والوصول إلى الأسواق والمهارات والمعارف الإدارية. كما أن الاستثمار الأجنبي في الصين، حفز الإصلاح الاقتصادي من خلال المشاركة في إعادة هيكلة المؤسسات المملوكة للدولة وزيادة المنافسة في السوق.
استراتيجية توقيت تحرير تدفقات رؤوس الأموال:  عملت الصين على انتهاج إستراتيجية لتعامل مع التدفقات المالية سواء باتجاه البلاد أو خارجها، فكانت الإصلاحات مواكبة لدورة تدفق رأس المال. بمعنى أنها  تتغير تبعا لتوسع أو انكماش تدفقات رأس المال . فالصين اتبعت توقيت سلس لتحرير تدفقات رؤوس الأموال وذلك لتقليل من مشاعر الانزعاج التي قد تؤثر سلبا على السوق . كما عملت الصين على  تسريع تحرير تدفقات النقد الأجنبي إلى الداخل، وتعزيز الرقابة على تدفق رؤوس الأموال إلى الخارج، كلما سجل ميزان المدفوعات فائضا أو تقلصا .
 تسلسل التحرر الخارجي Sequence of external liberalization .  تكشف عملية التحرر الخارجي للصين، بشكل واضح أنها ركزت في البداية على سياسة استقطاب الاستثمار الأجنبي المباشر، وقد نفذت هذه التجربة في مرحلة أولى ومبكرة على صناعة محدودة (الصناعة التحويلية) وفي حيز جغرافي محدد ( المنطقة الساحلية) .
 كما الانفتاح تزامن مع جهود الدولة لبناء البنية الأساسية للسوق، و عندما أقامت الصين البنية الأساسية للسوق وإدخال إدارة الشركات الحديثة إلى قلب المؤسسات المملوكة للدولة في منتصف التسعينات. تم تحرير الاستثمار الأجنبي المباشر ليشمل المناطق الداخلية وليمتد إلى صناعات جديدة . وعندما أنشأت الصين نظام مصرفي شامل وارتفاع احتياطيات الصين  من  النقد الأجنبي، بدأت الصين  في تحرير الصناعات المالية والتدفقات الرأسمالية.

وفي الوقت نفسه، بذلت السلطات جهودا كبيرة لتطهير الجهاز المصرفي المحلي، باتخاذ جملة تدابير شملت : عقلنة تدبير وتنظيم النظام المالي، تعزيز الرقابة الداخلية، وتحسين حكم الشركات، ومعالجة الأصول المعدمة وحقن السوق برأس المال الكافي. وتعزيز القدرات في مراقبة ورصد المخاطر المرتبطة بتدفقات النقد في عملية التحرير المالي .  

لقد بذلت الصين جهودا كبيرة لإقامة نظام حذر للمراقبة، يساعد من جهة على تعزيز الحوافز الممنوحة للمصارف الخاصة وباقي المشاركين في الأسواق المالية. ومن جهة ثانية تقوية  نظام المراقبة الحذرة الذي يساعد على خفض المخاطر المرتبطة بتدفقات رأس المال، وذلك انطلاقا من تعزيز قدرة النظام المالي على الصمود أمام تقلبات الأسواق المالية ، و لعل هذه الأمور هي المهملة في صياغة السياسات النقدية، بالعديد من البلدان العربية وفي مقدمتها المغرب و مصر، الذين أقدما على تحرير صرف عملاتهما، بانفصال عن الإصلاحات الموازية التي تدعم التوازنات الماكرو اقتصادية و تقوي الاقتصاد الوطني المنتج للسلع و الخدمات و للقيمة المضافة عموما، فتحرير في ظل اقتصاد يعتمد على الواردات و الاستهلاك و ضعف الإنتاجية هو بداية الطريق نحو الخراب و التضخم الاقتصادي ..و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون...

 

د.طارق ليساوي

*إعلامي و أكاديمي مغربي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي