"السفير" تقتحم معاقل الفقر في لعصابه.. "كيفه" عاصمة ولاية العزلة وعشوائية التقري! | صحيفة السفير

"السفير" تقتحم معاقل الفقر في لعصابه.. "كيفه" عاصمة ولاية العزلة وعشوائية التقري!

اثنين, 07/01/2019 - 15:38

بدأت مدينة كيفه تشهد -منذ سنوات- نموا متسارعا من الناحية الديمغرافية والعمرانية.

وقد أدت هذه النهضة إلى تزايد حاجيات المدينة من المرافق العمومية والخدمات الحضرية الأساسية.. ويصر سكان عاصمة ولاية لعصابه على التأكيد على أن مدينتهم بدأت تنافس العاصمة السياسية للبلد من حيث النشاط والحيوية، ومن حيث توفر جميع التجهيزات والأثاث ومعالم التطور الحضري مما أدى -في نظر هؤلاء- إلى موجة هجرة عكسية من انواكشوط نحو كيفه..

في مدينة كيفه تتعايش مظاهر العصرنة بآخر ما جلبته من صيحات الموضة، مع السمات الأساسية للحياة البدوية، والتقاليد الضاربة في تاريخ هذه البلاد.. وفيها تتزاحم شاحنات النقل وعابرات الصحراء والسيارات الخفيفة، مع عربات تجرها الحمير.. وفيها -أيضا- يتعايش السكان مع مواشيهم، مثلما يتعايشون مع أسراب الغربان التي اختارت العيش في هذا التجمع الحضري الواقع في قلب موريتانيا، عند منتصف طريق الأمل الرابط بين أقصى غرب البلد وأقصى شرقه..

على بعد 600 كيلومتر شرقي مدينة انواكشوط، العاصمة السياسية لموريتانيا، وفي قلب سلسلة لعصابه الجبلية، تنتصب مدينة كيفه، عاصمة ولاية لعصابه.. مدينة يعود تاريخ إنشائها إلى سنة 1907 حيث أطفأت -قبل أشهر- شمعتها المائة..

 وتمتاز بانتشارها الأفقي الذي جعل منها ثانية المدن الكبرى في موريتانيا -بعد انواكشوط- من حيث المساحة؛ وكذا بارتفاع معدلات درجة الحرارة التي تبلغ مستويات قياسية أثناء الصيف..

أول ما يلفت انتباه القادم إلى مدينة كيفه هو انتشار اللافتات واللوحات الدعائية في مختلف شوارع المدينة -وخاصة عند ملتقيات الطرق الرئيسية- إلى جانب أسراب الغربان السوداء ذات الصدور البيضاء، وهي تحلق في سماء المدينة أو تراقب الحركة داخلها من فوق أعمدة وأسلاك الكهرباء أو سطوح المنازل.. وتشكل ظاهرة انتشار الغربان إحدى خصوصيات عاصمة ولاية لعصابه؛ حيث يروي السكان قصصا -لا تخلو من بعض الطرافة- حول تعامل الغربان معهم، وإصرارها على مشاركتهم كل شيء حتى غذاءهم اليومي..

فعند انبلاج فجر كل يوم، يستيقظ سكان مدينة كيفه على وقع نعيق الغربان، الذي يسبق -أحيانا- أذان الفجر في المساجد.. وتحكي إحدى السيدات هنا أنها كانت تجلب اللحم من السوق إلى منزلها حين اختطفه أحد الغربان يبدو أنه كان يراقبه من فوق شجرة قريبة؛ وهي حادثة يجمع العديد من ساكنة المدينة على أنها باتت أكثر من عادية.. ويعتقد بعض هؤلاء أن النعيق الذي يدوي كل صباح في أرجاء كيفه، ربما يكون دعوة لربات البيوت لحثهن على الإسراع بالذهاب إلى السوق وجلب اللحم ومتطلبات الغداء؛ وهو ما يتيح الفرصة لهذه الطيور للسطو عليهن في الطريق أو عند الدخول إلى بيوتهن..

من المظاهر المثيرة للانتباه في مدينة كيفه –كذلك- تمسك العديد من العائلات بمواشيها داخل المدينة؛ حيث لا يحل الليل حتى يحل خوار البقر محل نعيق الغربان، وتتجمع القطعان أمام المنازل تنتظر أن تلتقي بعجولها ومن يحلب منها ما تدره من ألبان؛ لتنطلق صبيحة اليوم الموالي في رحلة جديدة للبحث عن الكلأ والماء.

أما شوارع المدينة فتتسم بحركة دائبة لشاحنات محملة بالمواد والبضائع المختلفة، قادمة من انواكشوط -باتجاه الشرق وأخرى تأتي من جمهورية مالي وبعض البلدان الإفريقية، محملة بأطنان الخشب وأعلاف الماشية أساسا..

حركة ونشاط يزداد تركزا واكتظاظهما بفعل عربات الحمير التي تحمل براميل الماء، أو البضائع، أو الأشخاص..

ومن اللافت أن من أكثر المواد حضورا على تلك العربات أكياس الإسمنت ومواد البناء، رغم غلاء أسعارها حتى في انواكشوط التي تجلب منها أصلا..

ومن المميزات المثيرة للانتباه -أيضا- انتشار الهواتف المحمولة، التي لا يكاد يمر أي شخص هنا إلا وهو يحمل أحدها، أو يتحدث عبره؛ ولعل ذلك ما يفسر وجود شركات الاتصالات الثلاث في هذه العاصمة الجهوية.. مع نشاط لافت لفرع شركة "ماتال"..

نهضة عمرانية مكثفة

القادم إلى عاصمة ولاية لعصابه لا بد أن يلاحظ التطور البارز الذي تشهده الحركة العمرانية في هذه المدينة.. عمارات جديدة شيدت بالإسمنت المسلح، وفق أحدث النظم المعمارية في البلد؛ وبيوت لا يمكن اكتشاف أي فرق بينها وبين بيوت أرقى أحياء مقاطعة تفرغ زينه بانواكشوط.. وتتعايش هذه المنازل الفخمة مع المساكن الشعبية والمتوسطة التي تقف شاهدة على مراحل التطور التي مرت بها مدينة كيفه منذ تأسيسها قبل أزيد من قرن من الزمن.. هذا إلى جانب الأسواق القديمة والحديثة، وعشرات المراكز التجارية، والمرافق العمومية الشاهدة على مستوى الوعي الحضاري لسكان ثانية العواصم الجهوية -بعد انواكشوط- من الناحية الديمغرافية على الأقل..

ويمثل جامع كيفه بمئذنته الشامخة، وسعة مساحته، وشكله العمراني المتميز، وألوانه الخضراء والصفراء، أبرز معلم عمراني في المدينة.. وقد شيد الجامع في الجزء الغربي من المدينة على نفقة مركز الدعوة والإرشاد السعودي؛ لكنه أغلق مع إغلاق المركز سنة 2004 أثناء حملة استهدفت -آنذاك- أهم الهيئات الدعوية والخيرية في البلد، ضمن ما عرف بحملة "مكافحة الإرهاب" التي أطلقها نظام الرئيس الأسبق معاوية ولد سيد أحمد الطايع..

وتتمتع كيفه بنزل ضخم هو نزل "استراحة الضيف" يقع في الناحية الجنوبية الشرقية، ويتوفر على العديد من الغرف والخيام، والأثاث التقليدي والعصري، إلى جانب معرض دائم لمنتجات الصناعة التقليدية المحلية..

ويبدو أن نهضة كيفه العمرانية ما تزال في بدايتها؛ إذ يتضح من خلال ورشات البناء المنتشرة في جل أحياء المدينة، ومن كميات الإسمنت والحديد التي تنقلها الشاحنات من انواكشوط، وآلاف قطع الخشب التي تفرغها يوميا الشاحنات القادمة من مالي؛ والحركة اللافتة للعربات بين أسواق الإسمنت وأدوات البناء.. أن عاصمة لعصابه ماضية بحزم وإصرار في كسب معركة البناء والعمران..

وتتوفر العاصمة الجهوية لولاية لعصابه -أيضا- على مرافق عمومية تفتقر غالبية مقاطعات عاصمة البلد إلى بعضها.. من ذلك -على سبيل المثال- مركز استطباب كيفه الذي أجمع كل من تحدثوا إلينا على جودة خدماته وكفاء طاقمه الطبي.. ويعتبر مبنى البلدية أحد أهم المعالم العمرانية المحلية إلى جانب سوق التوفيق الجديدة، والجسور المشيدة فوق الأودية التي يجتازها طريق الأمل.. وتوجد في كيفه إدارة جهوية للصحة، ومندوبية لوزارة الزراعة والبيطرة، وأخرى للوزارة المنتدبة لدى الوزير الأول المكلفة بالبيئة، ومندوبية جهوية للتهذيب الوطني، وممثلية جهوية للمفوضية المكلفة بالحماية الاجتماعية والأمن الغذائي.. ويلاحظ حضور فاعل لبرنامج الغذاء العالمي، وصندوق الأمم المتحدة للسكان.. وكذا منظمة "الرؤية العالمية" غير الحكومية.. وفيها -كذلك- فروع لأهم المؤسسات المصرفية في البلد؛ وخاصة بنك التجارة والصناعة، وبنك موريتانيا الوطني، والبنك الموريتاني للتجارة الدولية.. كما توجد في عاصمة ولاية لعصابه لجنة تنفيذية جهوية لمحاربة "السيدا" وهيئات عديدة من المجتمع المدني؛ وبها صندوق شعبي للادخار والقرض، وممثلية لمؤسسة تحويل الأموال العالمية، ومركز للتكوين والتدريب المهني، ومعهد للتعليم الأصلي تابع لوزارة الشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي.

ومن أهم المشاريع والبرامج التنموية الوطنية العاملة في ولاية لعصابه، برنامج مكافحة الفقر في جنوب آفطوط وكراكورو، ومشروع التنمية الريفية الجماعية، ومشروع دعم البلديات..

وسنتطرق لأهم هذه الهيئات والمشاريع -بتفاصيل أكثر- خلال الحلقات المقبلة من سلسلة تحقيقاتنا وريبورتاجاتنا الميدانية، بحول الله.

أزمة في الماء والكهرباء

تعاني مدينة كيفه من حرارة طقس المنطقة الجبلية التي تحتضنها.. وقد أدت هذه الوضعية إلى تنامي الحاجيات المحلية من الماء الشروب، في ظل النمو المتزايد للمدينة.. واستمرت السلطات تبحث عن حل شامل ونهائي لهذه المشكلة الحادة إلى غاية سنة 2004، حيث تم تدشين شبكة للمياه الحضرية؛ لكن هذا الحل لم يف بحاجيات المدينة وسكانها من الماء.. وما لبثت تلك الشبكة أن أثبتت عجزها عن توفير الماء الشروب لجميع أحياء كيفه؛ الأمر الذي كشف عن سوء في التقدير وغش واضح في تنفيذ المشروع الذي ولد آمالا واسعة لدى السكان.

ولجأت المصالح المختصة إلى اعتماد سياسة لترشيد الموارد المائية المتوفرة، لدرجة أن تلك المصالح تعمد إلى وقف ضخ الماء عن الحنفيات المنزلية لساعات طوال، بحيث لا يتوفر السكان على الماء خلال ساعات الليل والصباح، ليعود الضخ عند منتصف النهار..

وضعية لم يجد السكان بدا من التأقلم معها، عبر تخصيص جل أوقات توفر الماء لملء حاوياتهم وتزويد خزاناتهم بما يكفي من ماء للبقاء على قيد الحياة.. ويشكو بعض سكان كيفه من ارتفاع معدل الملوحة في الشبكة الحضرية، خلال بعض الأوقات..

وأدت أزمة المياه إلى عودة انتشار ظاهرة بيع الماء في براميل على العربات..

ارتفاع درجات الحرارة في كيفه لم يولد مزيدا من الحاجة إلى الماء فحسب؛ وإنما أدى –أيضا- إلى لجوء الكثير من الناس لأجهزة التبريد والتكييف.. خاصة في ظل النهضة العمرانية المتسارعة في المدينة.

بيد أن هذا النوع من الكماليات -التي تحولت إلى أساسيات هنا- يتطلب طاقة كافية لتشغيل الأجهزة والمعدات.. وهي طاقة لا تتوفر هذه الأيام في عاصمة ولاية لعصابه، التي بدأت عدة أحياء فيها تعرق في ظلام دامس نظرا لسياسة المناوبة التي تنتهجها شركة الكهرباء الموريتانية، ضمن محاولتها السيطرة على ما لديها من طاقة كهربائية لا تبدو كافية لتلبية حاجيات المدينة من الطاقة الكهربائية..

لقد أصبح سكان مدينة كيفه يعيشون اليوم تحت رحمة ارتفاع درجات الحرارة، وأخطار الملاريا التي لا يملك الميسورون منهم من الكهرباء ما يشغل مكيفاتهم لطرد البعوض الذي يجلبها؛ مما دفعهم للنوم فوق سطوح منازلهم داخل ناموسيات مشبعة؛ فيما يضطر الأقل حيلة إلى محاولة النوم تحت خيام مفتوحة من كل الجهات أو في العراء، مع ما يترتب على ذلك من أخطار، أقلها شأنا تعرضهم للسطو..

وحدها المراكز العمومية الإدارية والأمنية والصحية ما تزال بمنأى عن أزمة الكهرباء..

ويخشى عدد من أطر كيفه أن تتراجع النهضة التنموية والعمرانية والخدماتية التي قطعت أشواطا مهمة في عاصمة ولايتهم، بفعل رداءة مستوى التغطية الكهربائية والمائية؛ خاصة وأن تلك النهضة بلغت ذروتها مع تزويد المدينة بشبكة مياه حضرية، وشبكة للكهرباء.. ولا يخفي بعض هؤلاء قلقهم من أن يكون في الأمر تسيب وسوء تسيير متعمد من طرف بعض القيمين على هذه الخدمات العمومية الأساسية..

عاصمة الفقر والعزلة

لا تعكس مظاهر العصرنة والنشاط الاقتصادي والعمراني في مدينة كيفه صورة الواقع المسيطر على الغالبية العظمى من البلديات والقرى التابعة لمقاطعات ولاية لعصابه.. ذلك أن مقاطعات كرو، وبو امديد، وكنكوصه، وباركيول -بالإضافة إلى مقاطعة كيفه المركزية- تضم بلديات وقرى تعاني من الفقر المدقع والعزلة الخانقة، وتفتقر لأبسط مقومات الحياة..

وتشكل مقاطعة باركيول أكبر جيب للفقر في الولاية -إلى جانب مقاطعة كنكوصة- وتمثل بلدية هامد التابعة لمقاطعة كنكوصة والمتاخمة لحدود جمهورية مالي أكثر معاقل الفقر عزلة وانتشارا لظاهرة التقري العشوائي التي لا تقل خطورة عن العزلة.

معاقل اتخذها الفقر موطنا، وتمترس فيها خلف عزلة كاملة، وشح للمياه، وغياب للخدمات الصحية الأساسية، وانهيار في مستويات التعليم، وإهمال ملحوظ من قبل القطاعات الحكومية المختصة، والمشاريع التنموية، والبرامج الجهوية والمحلية التي يؤكد حال السكان -قبل سؤالهم- أنها لا تعرف طريقا إلى هؤلاء..

مدينة كيفه عاصمة لولاية تحتضن حوزتها الترابية بلديات ما يعرف بمثلث الفقر في موريتانيا..

بلديات الملكه، وأغورط، لكران، كوروجل، وانواملين: تتبع مقاطعة كيفه المركزية..

بلديات كنكوصه، ساني، تناها، ابلا جميل، هامد: تتبع مقاطعة كنكوصه..

بلديات بو امديد، لفطح، احسي الطين: تتبع مقاطعة بو امديد..

بلديات باركيول، الرظيظيع، دغفك، لعويسي، كلّير، لبحير: تتبع مقاطعة باركيول..

بلديات كرو، أودي اجريد، كامور الغايره: تتبع مقاطعة كرو..

رحلة "السفير" داخل ولاية لعصابه شملت -إلى جانب عاصمة الولاية- مقاطعتي باركيول وكنكوصه، حيث تتناول سلسلة التحقيقات هذه مختلف جوانب الحيات داخل العديد من القرى والتجمعات السكانية في هاتين المقاطعتين المصنفتين ضمن مثلث الفقر.. واللتين تمثلان نموذجين للولاية من خلال اعتماد الأولى على الزراعة المطرية، واعتماد الثانية على التنمية الحيوانية..

ويقدر عدد سكان ولاية لعصابه بما يقارب ربع مليون نسمة.. وتوجد نسبة مهمة من أبناء الولاية في المهجر؛ خاصة في إفريقيا، والخليج العربي، وجنوب شرق آسيا وأمريكا الشمالية..

ويؤكد العديد من السكان المحليين أن لهذه الجالية النشطة الدور الأكبر في إعمار المدن الرئيسية في الولاية، وتوفير بعض النقاط المائية والتجهيزات الزراعية والرعوية للسكان..

 

من إعداد: السالك ولد عبد الله - م. عبد الرحمن ولد الزوين

 

السفير: العدد: 684 

الصادر بتاريخ: 14 مايو 2008