"السفير" تقتحم معاقل الفقر في لعصابه: بين شبح المجاعة والأمراض.. وأخطار التنصير!! | صحيفة السفير

"السفير" تقتحم معاقل الفقر في لعصابه: بين شبح المجاعة والأمراض.. وأخطار التنصير!!

ثلاثاء, 08/01/2019 - 12:53

تقع ولاية العصابة على بعد حوالي 600 كم إلى الجنوب الشرقي من العاصمة انواكشوط، وتشمل ثلاث مناطق كانت تعرف تاريخيا بأسماء مختلفة، وهي ارقيبة وآفطوط ولعصابة؛ وقد أطلق الفرنسيون على هذه المناطق مجتمعة اسم "دائرة لعصابة".

وتضم الولاية خمس مقاطعات هي: كيفه (عاصمة الولاية) وكنكوصه، وبو امديد، وكرو، وباركيول. ويزيد عدد سكانها على 242 ألف نسمة، وهي ولاية رعوية بامتياز.. وتضم هذه الولاية -التي تتوسط خريطة موريتانيا- أكثر جيوب الفقر اتساعا، حيث تشتد العزلة وتنتشر الفاقة والأمراض ومظاهر البؤس، في غياب البنى التحتية والكوادر والتجهيزات الطبية، وتدني مستويات المعيشة، وانتشار ظاهرة التقري الفوضوي، وتدهور الوسط الطبيعي، وشح المياه الصالحة للشرب، وانتشار الحرائق الرعوية بمعدلات غير مسبوقة.. وسط شكاوى متنامية من منظمات ترفع شعار العمل الخيري، لنشر المسيحية في صفوف الشرائح الأكثر هشاشة كالنساء والأطفال..

تشكل المنطقة الممتدة بين مقاطعتي باركيول وكنكوصة بولاية لعصابة الغالبية العظمى لما يعرف بمثلث الفقر في موريتانيا؛ وهو ما يجعل الولاية بأكملها إحدى أكثر ولايات الوطن تضررا من هذه الوضعية؛ خاصة إذا ما نظرنا لحجمها الديمغرافي وارتفاع نسبة من يعيشون منهم تحت خط الفقر.. وكذا إلى اتساع رقعتها الجغرافية وما تعانيه بلدياتها وقراها المختلفة من عزلة خانقة..

وسواء أتعلق الأمر ببلديتي بولحراث والغبرة في مقاطعة باركيول ذات الطابع الزراعي، أم ببلديات هامد وابلا جميل وتناها في مقاطعة كنكوصة ذات الطابع الرعوي، فإن المشهد العام يظل متطابقا، وهموم السكان ومعاناتهم هي ذاتها في كل قرية وتجمع سكاني..

الوضعية الغذائية في المنطقة مأساوية حسب تعبير جميع من تحدثوا إلى "السفير" في هذه الربوع الشاسعة.. ولا يبدو أن تدخلات الهيئات العمومية والدولية التي يجري الحديث عنها باستمرار داخل أروقة الإدارات المركزية في انواكشوط، أو في مكاتب المصالح الجهوية في كيفه، أو عبر وسائل الإعلام الرسمية، قد بلغت أيا من الأهداف المعلنة لها أو التي كانت سببا في وجودها أصلا..

وقد كانت الخطة الاستعجالية التي أعلنت عنها الحكومة أواخر السنة الماضية نموذجا حيا لفشل الخطط والبرامج التي أحيطت بحملات دعائية واسعة في الوصول إلى أكثر جيوب الفقر في هذه المناطق عزلة وتضررا..

ذلك أن ما يعرف بالمخازن القروية للأمن الغذائي عبارة عن بيوت خالية -في أغلبها- من أية حبوب، ولا شيء يدل على أنها مخازن غذائية سوى اللوحات الدعائية المثبتة في واجهاتها، والتي كلف إنجازها أكثر من قيمة ما بداخل تلك الغرف كما تقول مسؤولة أحد بنوك الحبوب في بلدية بولحراث؛ وهو انطباع تتقاسمه كل العلائلات الموجودة في القريات العشوائية الممتدة على جنبات الأودية والطرق الصحراوية التي تشق مناطق مقاطعة باركيول..

في هذه المناطق لا ذكر لأي من برنامج الغذاء العالمي أو مشروع مكافحة الفقر في جنوب آفطوط وكاراكورو، الذي أنشئ أصلا لمحاربة الفقر في هذه المنطقة كما هو واضح من تسميته..

المعاناة تزداد كلما تغير الموقع وزادت المسافة.. الكل يستنجدون بالدولة لانتشالهم من براثين المجاعة وأغلال العزلة..

بوادر المجاعة

ورغم أن المنطقة لا تعاني من أزمة حقيقية في المياه -كما يوضح حاكم مقاطعة باركيول- بفضل الحملات السابقة التي استهدفت القضاء على مرض دودة غينيا؛ إلا أن بعض القريات التي شيد أكثرها بصورة عشوائية تعاني من نقص حاد في مياه الشرب، كما هو حال قرية أودي النص التابعة لبلدية الغبرة؛ ففي هذه القرية أقام أحد الخصوصيين بئر ارتوازية لا تكاد تغطي الحد الأدنى من حاجيات السكان على محدودية عددهم..

طوابير من مئات الحاويات تحيط بالمضخة ساعات طوالا يتركها الناس في انتظار أن تدر البئر ماء خلال الليل، أو في الصباح الباكر.. ويدفع الباحثون عن ماء يروي ظمأهم مبلغ 20 أوقية مقابل 20 لترا من الماء..

وغير بعيد من البئر الارتوازية الخصوصية، أقامت إحدى التعاونيات السنوية بستانا لزراعة الخضروات بجانب بئر تقليدية تمكنّ من تعزيزها بالاسمنت المسلح..

ويعاني هؤلاء النسوة من نضوب البئر التي أصبحت تحتاج لحفر أكثر عمقا ولصيانة تزيل عنها أطنان القمامة والنفايات التي تراكمت بداخلها مع مرور الزمن..

كانت حياة سكان المناطق التابعة لمقاطعة باركيول مرتبطة بالزراعة المطرية.. ومع أن أمطار الموسم المنصرم كانت جيدة من حيث الكمية إلا أن هطولها بمعدلات مرتفعة دفعة واحدة أدى إلى انجراف التربة وإتلاف ما بذره مزارعو المنطقة، حسب من التقيناهم من هؤلاء..

ولم تكن حظوظ الماشية بأحسن من حظوظ الحقول الزراعية؛ إذ أدى غلاء المواد الاستهلاكية في انواكشوط وكيفه إلى وصولها معدلات قياسية في هذه المنطقة الوعرة.. مما ساهم في انهيار القدرة الشرائية للمنمين الذين يدفعهم فقر المراعي أصلا وارتفاع أسعار الأعلاف إلى النزوح بمواشيهم للانتجاع في مناطق أخرى، مثل كنكوصة وأراضي جمهورية مالي..

ويشكو سكان بلديات باركيول وقراها من تدني أسعار الماشية بشكل يستحيل معه بيعها بأسعار تكفي لاقتناء المواد الاستهلاكية الأساسية التي تجاوزت كل الحدود، برأي أحد الرعاة صادفناه عند نقطة للمياه وهو يسقي قطيعا من الغنم..

مأساة بلديات منطقة ما يعرف بـ"آفطوط" وتجمعاتها السكانية المتناثرة بشكل عشوائي، تتجلى في مظاهر سوء التغذية المنتشر بين السكان، وخاصة في صفوف الأطفال؛ وهي ظاهرة تلعب العزلة دورا محوريا في اتساعها واشتداد وطأتها..

ذلك أن الظروف المناخية والصحية المتدنية في هذه المناطق تجعل البضائع والمواد التي تصل بشق الأنفس إلى من يقطنون داخل جيوب الفقر هذه، معرضة للتلف، في ظل انعدام المحاصيل الزراعية وانقطاع تموين مخازن الغذاء القروية بشكل شبه دائم؛ وهو ما جعل هؤلاء فريسة سهلة أمام المنظمات الدولية التي تغريهم بالتكفل بتغذية أطفالهم وبناء مرافق لهم، كالمدارس والآبار.. وتعكس الكفالات الغذائية التي أقامتها منظمة "الرؤية العالمية" البريطانية داخل القرى النائية لصالح الأطفال مستوى تدني المعيشة الذي وصلت إليه هذه الشريحة الهشة والحساسة.

ففي هذه الكفالات تقدم لأطفال القرى المتضررة وجبات يومية من "النشاء" في ظروف أقل ما توصف به أنها مزرية.. فكميات دقيق القمح يتم طهوها -من قبل نسوة مكتتبات لهذا الغرض- في العراء داخل قدور يتم إشعال النار تحتها بالأخشاب التي يتم جمعها من المنطقة ضمن كتل من الدخان المتصاعد، قبل أن تسكب في أوعية واسعة تفتقر لأبسط مقومات النظافة، لتوزع فيما بعد على عشرات الأطفال المتزاحمين حول القدر، بمعدل فنجان لكل طفل، لا يصل في أغلب الحالات إلى نصف لتر..

وطبقا لجل الذين التقتهم بعثة "السفير" إلى ولاية لعصابة فإن المنظمة ترفض التعامل مع أولياء الأطفال بشأن أوضاعهم أو تعامل المنظمة معهم.. ويؤكدون أن الحاجة الماسة إلى الغذاء والماء والدراسة، اضطرت العائلات إلى تسليم أطفالها لهذه الهيئة التي تتحمل عنهم عبء تغذية هؤلاء الأطفال.. ولا يخفى ذوو الأطفال شكوكهم بشأن الأهداف البعيدة لمنظمة الرؤية العالمية.. بل إن العديد منهم يؤكدون أن الأطفال يتلقون هدايا تقول المنظمة إنها مرسلة من "فاعلي خير" أوروبيين تعرض عليهم الهيئة قائمة الأطفال وصورهم فيختارون من بينها من يتكفلون به عن بعد..

ومما يرويه ذوو الأطفال -خاصة من الأمهات- أن الأطفال المتكفل بغذائهم ورعايتهم، تلقوا هدايا لا تخلو من بعد تبشيري؛ من ذلك مثلا أن بعضهم يقدم لهم بعض الحلوى.. كتب على أغلفة كميات منها "عيسى" وهي حلوة المذاق، وأخرى تحمل اسم "محمد" وهي ذات طعم شديد المرارة!..

غير أن أيا من الجهات الرسمية لم تتدخل لإيقاف هذه الحملة التبشيرية المكثفة، ولو من باب تقديم بدائل للسكان؛ تغنيهم عن "خدمات" هيئات أجنبية يصعب تصور تجشمها عناء اقتحام متاريس الفقر والبؤس رحمة وشفقة بأطفال ونساء أزرى بهم إهمال وتقاعس مسؤوليهم ومنتخبيهم..

وفيما يتحدث السكان عن حملة واسعة يقوم بها بعض موظفي "الرؤية العالمية" من الموريتانيين والأفارقة المسلمين لتكذيب ما يشاع من دور تنصيري لهذه الهيئة من خلال التأكيد على أنهم لو لم يكونوا متأكدين من سلامة نهجها، لما استمروا في العمل معها؛ تواصل جهات محلية محسوبة على التيار الإسلامي في موريتانيا حملة جاهدة لنشر الوعي في صفوف السكان حول أخطار ما تقوم به المنظمات التنصرية وخبث أساليبها..

وقد دعا شيخ محظرة أهل نوح في بولحراث، في لقاء خص به "السفير" (ننشره لاحقا) السلطات الموريتانية العليا إلى حماية أبناء البلد من أي مسعى للنيل من قيمه الإسلامية السمحة؛ خاصة عبر تأمين الأطفال من خطر التنصير أيا كان مصدره.. مشيرا إلى أنه سمع ما يتردد بشأن ما تقوم به منظمة "الرؤية العالمية" بشكل متواتر دون أن يجد له دليل إثبات ماديا..

وبدوره صرح عمدة بلدية الغبرة دحمودي ولد العبقري، لـ"السفير" أن من الصعب التأكد من الطابع الخيري البحت لهذه المنظمة الغربية؛ خاصة وأنها رفضت إشراك البلدية في موضوع الإشراف على كفالاتها المثيرة للجدل.. رغم أن أي تدخل يستهدف مكافحة الفقر والجوع يفترض أن يمر عبر الهيئات العمومية الوطنية -والبلديات على وجه الخصوص- حتى يعم نفعه وينعكس إيجابيا على واقع السكان؛ أما أن تتعمد الجهة التي تقوم به إحاطة عملها بالسرية الكاملة، فهو ما لا يمكن اعتباره بريئا.. يقول ولد العبقري.

انهيار البيئة والصحة العمومية

يعزو كثيرون تدهور الأوضاع الغذائية بشكل حاد هذه السنة في ولاية لعصابة إلى تدهور المراعي التي تعتمد عليها الثروة الحيوانية، أهم ركيزة اقتصادية في الولاية..

فقد قضت الحرائق هذا العام على أزيد من ثلثي المراعي؛ وهو معدل غير مسبوق، يرده المنمون وعدد من المنتخبين المحليين إلى إهمال قطاع الزراعة والبيطرة، وغياب التدخل الجدي من قبل القطاع المكلف بالبيئة..

فطبقا للمعلومات التي حصلت عليها "السفير" من مصادر عليمة في الميدان، لا تتوفر ولاية لعصابة بأكملها على أكثر من جرافة واحدة أوكلت إليها مهمة شق طرق واقية من الحرائق.. وقد تدخلت الجرافة في وقت متأخر ولم تنجز غير خطوط طرقية ضيقة لا تكفي لحماية المراعي الشاسعة في مناطق مقاطعة كنكوصة وحدها..

وقد أدت الحرائق التي اندلعت خلال الأشهر الستة الماضية إلى إتلاف مساحات شاسعة وخلفت أضرارا بالغة في المواشي وحتى الأرواح البشرية.. وصلت النيران في حالات عديدة إلى بعض القرى حيث اشتعلت أعرشة كانت تسكن بها بعض العائلات..

وطبقا لمصادر خاصة فإن الجرافة الوحيدة في الولاية متعطلة منذ فترة ولا زالت تنتظر إصلاحها، الذي يكلف -حسب مصدر قريب من الإدارة الجهوية للزراعة والبيطرة- مبلغ سبعة ملايين و500 ألف أوقية..

ورغم تنوع أسباب الحرائق الرعوية وتعددها إلا أن أغلب المهتمين بالموضوع من جهات رسمية وبلدية وشعبية يجمعون على أن بقايا النار التي يتركها الرعاة في أماكن توقفهم بعد طهو الطعام أو إعداد الشاي تشكل أول أسباب الحرائق؛ بينما يأتي حرق الأخشاب بهدف إنتاج الفحم في المرتبة الثانية حسب المصادر ذاتها..

التلف الحاصل في مراعي ولاية لعصابة جراء الحرائق الرعوية، دفع المنمين إلى النزوح بمواشيهم عن المنطقة باتجاه الأراضي المالية، مما حرم السكان في القرى والتجمعات من أهم مصدر للغذاء لديهم، في ظل ارتفاع متزايد في أسعار المواد الأساسية.. وفي هذا الإطار تجاوز سعر كيس ال"فارين" في بعض الأماكن 8.000 أوقية وسعر القمح 9.000، وسعر كيس الأرز 9.500 أوقية بينما تجاوز سعر زيت الطبخ 500 أوقية لحاوية 20 لترا..

هذه الوضعية انعكست على الظروف الصحية للسكان؛ مما زاد من انتشار حالات الإسهال الحادة والمزمنة..

وتفتقر بلديات مقاطعتي باركيول وكنكوصة إلى الخدمات الصحية المتخصصة.. إذ يكفي أن نعرف أن باركيول لا يتوفر على قابلة، وإنما على عدد قليل من المولدات والمساعدات دون وسائل وتجهيزات وأمصال تفي بحاجيات الحوامل عند الوضع؛ إلى جانب افتقار المنطقة لسيارات الإسعاف..

وضعية أدت إلى لجوء العائلات لحمل النساء عند المخاض بسيارات أجرة -إن توفرت- باتجاه عواصم المقاطعات أو باتجاه عاصمة الولاية، وفي جل الحالات تعجز الأسر عن إيجاد سيارة من أي نوع لنقل الحوامل، فتضطر إلى حملهن على الحمير عبر طرق وعرة تمتاز بكثرة الأودية وعمقها وانتشار الهضاب والصخور.. وهو ما يعرضهن للسقوط أحيانا وإلى نزيف حاد، من النادر أن تنجو منه الحامل وجنينها..

ويشكو عمد البلديات في منطقة آفطوط من التسيب الحاصل على المستوى المركزي في قطاع الصحة.. حيث أهملت مناطقهم تماما في مجال تحويل القابلات اللائي يفضلن البقاء في انواكشوط ويرفضن التحويل إلى هذه المناطق النائية؛ وكأنهن متطوعات أو يفرضن على الوزارة الانصياع لرغباتهن وأمزجتهن..

وهكذا يتوفر مستوصف السبخة في انواكشوط على 108 قابلات فيما توجد بمستشفى الشيخ زايد بدار النعيم 26 قابلة.. ولا يخفى حجم الفائض في هذه الأرقام مقارنة بولاية لعصابة؛ علما بأن المراكز الطبية في العاصمة لا تستقبل من حالات الولادة ما يتطلب 10% من هذا العدد..

وقد سجل مستشفى كيفه الجهوي خلال السنة المنصرمة 2630 ولادة لمن نجحن في الوصول إليه من الحوامل..

من أكثر الأمراض انتشارا في ولاية لعصابة حمى الملاريا والإسهالات وارتفاع الضغط، وتعزو مصادر طبية محلية الإسهال والملاريا إلى تلوث مياه الشرب في معظم المناطق، وإلى انتشار البعوض بشكل متزايد.. بينما يرى البعض أن حالات ارتفاع الضغط ناجمة أساسا عن استهلاك لحوم البقر أكثر من غيرها، مع عوامل أخرى من قبيل ارتفاع نسبة الملوحة في المياه، والتقلبات المناخية المتسمة بارتفاع درجات الحرارة..

 

من إعداد: السالك ولد عبد الله - م. عبد الرحمن ولد الزوين

 

السفير: العدد: 686 

الصادر بتاريخ: 16 مايو 2008