الحروب.. | صحيفة السفير

الحروب..

أربعاء, 10/08/2016 - 10:10

شاهدت منذ عدة أيام، فيلما سينمائيا داميا، يتحدث عن حروب قديمة، تدور في غابات، ووسط أحراش موحشة، ولأسباب لا يمكن أن تعد أسبابا بأي حال من الأحوال، مثل صراع على مجرى نهر صغير، يمكن أن تشرب منه القبائل كلها، وتستحم فيه أيضا، بلا صراع. مثل حب فتاة عادية، بلا لمحة مميزة، وبهلاهيل الفتيات المتوفرات في الغابة كلهن، لكن الصراع كان عليها، وربما على لا شيء مطلقا، فقط كم من الشر يريد أن يتدفق.

داخل الفيلم، ظهرت محاولات من كبار اكتسبوا حكمة ما بعد أن شاخوا، ولم يعد باستطاعتهم سفك دم، دعوا إلى السلام بين القبائل المتحاربة، ودعوا إلى دفن عظام الموتى المتناثرة هنا وهناك، وبداية عالم جديد، يسع الجميع ويمكنهم أن يعيشوا داخله بلا صراع، ولا دم، لكن الطرح رغم جاذبيته، وإثناء الجميع عليه، لم يطبق أبدا، ذلك أن معظم من ابتسموا عند ذكر السلام، هبوا بعد وقت قصير ليغتالوا السلام، وينشبوا الحرب مرة أخرى. وهذه المرة كان السبب الذي ذكر، هو أن من طالبوا بالسلام، أساءوا لأرواح الأسلاف، الذين اخترعوا الحرب.. والإساءة للأرواح العظيمة، لا يمكن تمريرها.
انتهى الفيلم السينمائي المتخيل بالطبع، بسيناريو وحوار متماسك، وإخراج جيد، واتضحت رسالته التي بدت لي رسالة عصرية، رسالة صيغت بمفردات زمن الغابات البعيد، لتخاطب زمن التكنولوجيا الحديثة، حيث وصل الإنسان إلى أقصى درجات الرفاهية في كل شيء وصار بإمكانه أن يتحكم حتى في درجات غيظه وغبطته، إن أراد، وعلى الرغم من ذلك لم تنته الحروب، لم تنته قط، وأجزم أنها ازدادت فتنة وبهاء، وأصبحت معشوقة للجميع. المتظرفون يحاربون، المعتدلون يحاربون، النائمون، المستيقظون، النساء، الأطفال، الكل يحارب الكل، ولا يعرف أحد أبدا، لماذ يحارب أصلا؟، ولمصلحة من يحارب؟ وأولئك الذين يغادرون أوطانهم، حاملين نوايا الحرب وشرورها، ومتوجهين لبلاد أخرى، ليزرعوا نواياهم، في تربتها الآمنة، ويمدوا الشر وأبسطته: لماذا أصلا نوايا الشر؟ ولماذا السفر؟ وما شعور المقتول حين يقتل؟ والقاتل حين يقتل، ويقتله آخر بعد زمن؟ وما ذنب المدن التي استغرق إعمارها قرونا، وتحال إلى بقايا مدن في أشهر أو أيام؟ وما شعور السيطرة على هذه المدن، من قبل طرف منتصر؟ أي ما شعور المنتصر حين يسيطر على خرائب؟
على محطة أخرى في التلفزيون، شرائط فيديو لمقاتلين، مهلهلين، وبؤساء، وعلى وجوههم ابتسامات نحيفة عجفاء، يرفعون علامة النصر بأصابع مرتعشة، من جوع أو خلل في الغدد لا أدري؟ وهم يدخلون مدينة محررة من فئة أخرى، كانت احتلتها، وعاثت فيها زمانا، كما يقول التقرير المصاحب للفيلم. أدقق في منظر المدينة، البيوت الخرائب والشوارع المقفرة، المطموسة بفعل ركام البيوت، السوق التي لم يبق فيها دكان واحد، ليشهد أن ثمة سوقا كانت هنا، والمستشفى الذي كان بلا لافتة حتى، وبالطبع بلا أطباء ولا تمريض، وقطعا بلا مرضى، لأن المرضى المفترضين من سكان تلك المدينة، إما ماتوا وإما ماتوا مرة ثانية وثالثة ورابعة، وإما هاجروا وتركوا اللظى الحراق في مدينتهم، ملتحقين بلظى حراق في مدن أخرى، يطاردها المحتلون، والمنتصرون على حد سواء ولا يبقى منها سوى العدم.
إذن، ممن تحررت تلك الخرائب؟ ومن سيستفيد من تحريرها، وغدت الآن بلا أعداء؟
الفيلم الذي يصور، بشاعة التاريخ القديم لإنسان ما قبل الطفرات التكنولوجية، والعلم والمعرفة، هو الفيلم الذي يصور البشاعة نفسها لإنسان عصر التكنولوجيا. لا فرق سوى أن السنوات تباعدت، والذي حدث في الماضي عد تاريخا، وما يحدث الآن يعد حدثا عاجلا، والحدث الشبيه به في الغد، سيعد حدثا مستقبليا. لا شيء وفقط اختلاف في التسمية وزمن الحدوث.
على قناة أخرى، غرق، وتفجير، ودهس، وإطلاق نار عشوائي على آمنين في الشوارع، والأسواق، والكنائس، آمنين لم يتعلموا مع الأسف الشديد أن لا أمن في الدنيا منذ زمن بعيد، والذي يحمل كيسا للتسوق في يد، عليه أن يحمل روحه في اليد الأخرى، ويكون مستعدا لتسحب منه في أي وقت، وأي مكان. الذي يسافر، من المفترض أن لا يدقق في تصميم المطارات وأناقة موظفي الخطوط الجوية المختلفة، وفي الطائرة من المفترض أن لا يستجيب لابتسامة مضيفة، ولا يتصفح كتاب الأسواق الحرة، بحثا عن عطر أو أسورة من الذهب لإهدائها لمن يحب.. الدنيا بلا حب، ومنذ زمن طويل، بلا حب، وكل الذي صاغته القصائد، وترملت بسببه قلوب الشعراء، وكل الذي نقلته التواريخ، كان وهما، ووهما كبيرا. الشيء المطلق هو الكره، وقيس كره ليلى، وقيل أحبها، وقيس الآخر كان يمقت لبنى، وقيل أحبها أيضا، وكل الطقوس والرسومات التي تلازم معنى الحب، مثل القلب الأحمر، والقبلة الحمراء، هي أيضا تلازم طقوس الموت. الأحمر هو الدم، والقلب المطعون بسهم الحب، هو نفسه المطعون بسهم مميت، في ذلك الفيلم الذي يصور إنسان الغابات وبأسلحة متطورة جدا في زمن تطور كل شيء.
قناة ثالثة ورابعة، وكل ما فيها عاجل، تتشنج فيه حلوق التقارير.. صراع، موت، دمار، نصر، والوجوه المبتسمة نفسها، تتحدث عن الدمار، وتدمر بلا حساب وبلا انتباه إلى أن الخرائب المحررة، ليست مؤهلة لتكون محور ابتسامة. لمحت في قدمي أحد المحاربين صندلا مقطعا، شاهدت الجوع في بطنه، وأكاد أجزم أنه الإنسان الأول نفسه، الذي لن يعرف أبدا لماذا هو هكذا؟ ولماذا هو هنا، وليس في مكتب أو حقل أو أي صنعة مسالمة، بعيدة عن الحرب.
أظننا نحتاج لتأهيل الإنسان أولا، لتعليمه أن الإنسانية ليست مظهرا، أو هيكلا يسير على قدمين، وإنما سلوك.
الإنسانية أن تتقي بصدرك قذيفة موجهة لجارك، لا أن تلقي أنت القذيفة.

 

أمير تاج السر/كاتب سوداني