من تاريخ الأنظمة في موريتانيا (شهادات، مذكرات ومعالجات).. الحلقة الرابعة | صحيفة السفير

من تاريخ الأنظمة في موريتانيا (شهادات، مذكرات ومعالجات).. الحلقة الرابعة

أربعاء, 17/08/2016 - 13:32

الحركة الوطنية من الرومانسية إلى الواقعية

الزعيم الوطني: أحمد لد حرمه

نشأ أحمد في بيت علم وكان ثاقب الذهن مشبعا بالثقافة العربية والإسلامية.

انخرط باكرا في النشاط السياسي، عمل معلما ثم ترجمانا.

كان في سجال دائم مع الإدارة الاستعمارية وكانت هذه الإدارة تنوي إبعاده إلى النيجر.

بعد الإصلاحات السياسية أصبح لموريتانيا الحق في انتخاب نائب يمثلها في البرلمان الفرنسي.

أعلن أحمد ولد حرمه عن ترشيح نفسه تحت ألوان الفرع السنغالي للاشتراكية العمالية ذات الميول اليسارية الذي يتزعمه "لمين كي".

في السنة الموالية 1947 انتخب رئيسا للجمعية الإقليمية بعد أن انتزع أنصاره غالبية أعضائها العشرين.

وقد نجح الزعيم الوطني في مغازلة مشاعر ذوي الميول العربية حين تبنى فكرة ربط المستعمرة الموريتانية بمحيطها العربي والمغاربي، وقد تبلورت هذه الإرادة كنهج عقائدي طبع مواقفه كنائب في البرلمان الفرنسي حتى أدى به الأمر إلى الاستقالة من عضوية "الفرع الفرنسي من العالمية العمالية" عندما وافقت على إنشاء إسرائيل.

تبوأ هذا الرجل مكانة عالية في نفوس الكثيرين حتى غدا رمزا لحركة وطنية شديدة الرومانسية ترفض أنصاف الحلول وتناهض الاستعمار.

كان إلى جانب أحمدو ولد حرمه رجال مبدئيون وكان من ضمنهم الشيخ محمد فال ولد البناني.

وعلى ذكر هذا الأخير فقد كان عالما وشاعرا ونسابة. كان أيضا متصوفا زاهدا تقيا كثيرا ما يبكي من خشية الله حسبما رواه لي من أثق بهم. مارس التعليم منذ الثلاثينيات وكان مستقلا في آرائه، له ميول عربية وإسلامية.

ناضل إلى جانب صديقه أحمدو ولد حرمه وكان مقربا جدا منه.

عمل منذ أواخر الخمسينيات مستشارا بالسفارة الفرنسية ببيروت وبذلك كان أول دبلوماسي موريتاني، واكب إعلان الاستقلال وعين مستشارا للرئيس المختار قبل أن ينتقل إلى رابطة العالم الإسلامي التي كان من بين مؤسسيها في مكة المكرمة سنة 1963م وكان أيضا صديقا للملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود.

توفي رحمه الله في 5 أكتوبر 1996 وعمره 92 عاما.

وكرد على هذا المنحى التحرري الذي يكاد أن يفلت زمام الأمر من يد الإدارة المستعمرة ويسحب البساط من تحت أقدامها كان لابد أن ينشأ في موازاة ذلك تجمع سياسي أقل عداء لفرنسا.

وانسجاما مع هذا الخيار ظهر تكتل سياسي يتمتع طبعا بتأييد السلطات الفرنسية ويحمل اسم "الحزب التقدمي الموريتاني".

 

الاتجاه الواقعي: سيد المختار انجاي

عقد هذا الحزب مؤتمره التأسيسي في مدينة روصو 1948م بحضور العديد من الزعامات التقليدية وغالبية أعضاء سلك المترجمين الذين يمثلون الطبقة الراقية في المجتمع آنذاك لكونهم يشكلون جسر تواصل بين الإدارة الفرنسية وسكان البلاد، وأعلن الحزب بكل وضوح عزمه على مواجهة النائب "أحمدو ولد حرمه" وتصميمه على تأييد السلطة الفرنسية ونتيجة لبروز هذا الاتجاه الجديد ولما يتمتع به من فرص النجاح في العمل السياسي مستقبلا بادر الزعيم الوطني "حرمه" بجمع مؤيديه في حزب جديد أسماه "حزب الوفاق الوطني".

وبدأ مشوار المنافسة بين قطبي الحركة الوطنية المطالبين بالاستقلال وبرز "سيد المختار بن يحي انجاي" في مواجهة ممثل "حزب الوفاق" في انتخابات 17 يونيو 1951م ونجح زعيم الحزب التقدمي واتضحت رغبة فرنسا في تطويق حركة "أحمدو بن حرمه" بتقديمها المساعدة للطرف الآخر لكن ذلك لم يثن عزم الحركة الوطنية عن مواصلة النضال وتعزز موقفها أكثر مع تأجج الكفاح السياسي في بلدان المغرب العربي ونجاح ثورة الضباط الأحرار في مصر وهبوب رياح التغيير على العالم الثالث.

أمام تنامي الوعي الوطني في عموم إفريقيا ونظرا لتفاقم المشكل الجزائري بادرت فرنسا إلى منح الأقاليم التابعة لها استقلالا ذاتيا بعد أن قررت إعادة النظر في المشروع الفيدرالي الجامع ثم أصدرت القانون الإطاري سنة 1956م الذي يقر إنشاء مجلس حكومي تنتخبه الجمعية الإقليمية ويرأسه المندوب الفرنسي الذي لا زال يحظى بصلاحيات كبيرة. وعلى إثر هذه التطورات وعملا بمقتضى التوجه الجديد تم انتخاب الجمعية الموريتانية الأولى في مارس 1957م وظهرت حكومة جديدة في مايو 58 من ذات السنة وتم تعيين الأستاذ المختار بن داداه نائبا لرئيسها، وكانت تشكيلة الحكومة على النحو التالي:

أحمد سالم ولد هيبه
صمبا ديوم داديي
الدي ولد سيدي باب
محمد المختار ولد أباه
جان ساليت
سيد أحمد لحبيب
موريس كومباني

وأجري تغيير على هذه الحكومة دخلها بموجبه كل من حمود ولد أحمدو والديين وبا مادو صمبولي خلفا للدي ومحمد المختار وجان ساليت.

نشأ حمود ولد أحمدو في بيت عريق، تربى على الشيم الموريتانية الأصيلة.

عمل معلما ثم ترجمانا، واكب إعلان الاستقلال، تقلد مناصب سامية في البرلمان والحكومة فكان بلا منازع أهم شخصية سياسية واجتماعية على مستوى الحوضين في العقود الأربعة الأخيرة وهو اليوم مرجع في التاريخ والسير وعلم الاجتماع.

وعلى ذكر أحمد سالم ولد هيبه فقد كان وقورا ميسور الحال كثير الإنفاق قوي الشكيمة نافذ حافظا للعهد.

قادته ضرورات العمل إلى مختلف أرجاء البلاد فجابها طولا وعرضا وشاءت الأقدار أن يستقر به المقام في تكانت سنة 1928 وسحرته بسكانها وجبالها وأوديتها فاختارها موطنا ثان سنة 1945 كان ذلك دون أن يقطع الأواصر مع ذويه ومرابع صباه.

أتذكر أنه في بداية الستينات حين حصل ما حصل واعتزل "سيد المختار" العمل السياسي كان من بين القلائل الذين ظلوا على صلة به حافظين للعهد.

لقد أورث هذا العهد الوفاء لابنه "الشيباني" من بين فصائل أخرى وظل هذا الأخير يتعهد "سيد المختار" بالزيارة والرعاية.

ذات مرة كنت أعود "سيد المختار" في آخر أيامه في "منفاه الاختياري" في "آندر" وجدت معه الشيباني قادما من دكار حيث يعمل مفوضا ساميا لمنظمة استثمار نهر السنغال وبينما كنا نتبادل أطراف الحديث حول بعض الذكريات والأمور العامة، التفت إلي سيد المختار وقال "إنه يحاول أن يكون مثل أحمد سالم لكنه لن يستطيع ذلك أبدا" ليس هذا تقليلا منه لشأن الشيباني لكن للتأكيد أن أحمد سالم كان يحتل في نفسه مكانة خاصة.