عودة الإستعمار بإرادة عربية: “حَلـَبْ” تعيد إنتاج الفشل العربي | صحيفة السفير

عودة الإستعمار بإرادة عربية: “حَلـَبْ” تعيد إنتاج الفشل العربي

ثلاثاء, 23/08/2016 - 14:59

عودة الإستعمار قد تكون عملية قهرية عدوانية كما حصل للعراق. وقد تكون حنيناً لأزمنة الخنوع والإستسلام والضعف بالنسبة للبعض، وقد تكون نتيجة للفشل والإنهيار الكامل لمنظومة الدولة الوطنية بالنسبة للبعض الآخر. ولكن أن تكون إستجابَة لدعوَةِ النظام الحاكم في بلد ما لقوةٍ خارجية لإحتلال بَلـَدِهِ فهي إختراع عربي عزَّ نظيره في أي مكان آخر في هذا العالم، وهي تأكيد على فشل الدولة الوطنية وإقراراً بأن تلك الدولة لا تحظى بأي إحترام أو قدسية في نظر حاكمها وأنها عبـارة عن مزرعة خاصـة به. وهذا الموقف هو ما يدفع أي من أولئك الحكام للإستعانة بقوى خارجية لإحتلال البلد التي يحكمها إذا ما شعر بالتهديد لوجوده وذلك مقابل الضمانة بإستمراره في حكم تلك البلد. وهـذا على ما يبدو الأمر الذي دفع بشار الأسد مثلاً للإستعانة بقوى خارجية مثل روسيا وإيران  لحماية نظامه، مقابل السماح لهم بإستباحة الأرض وإنتهاك السيادة الوطنية السورية. ونفس الشيء ينطبق على حكام عرب آخرين في علاقتهم مع قوى إستعمارية أخرى مثل أمريكا وتركيا وأوروبا وإسرائيل.
إطالة عمر نظام بشار الأسد وبقاءه في الحكم هي المعركة الوحيدة التي حسمتها روسيا منذ تدخلها العسكري في سوريا. أمَّا الهدف الأكبر والأهم والمتمثل في إستقرار النفوذ الروسي في سوريا أو بحديث أدق إحتلال كامل الأرض السورية فهو هدف ما زال قيد التنفيذ وبخلاف ذلك يصبح تقسيم سوريا أمراً لا مفر منه.
إن عدم قدرة روسيا حتى الآن على حسم أي معركة أخرى في سوريا لا يعني الفشل ، كون الجهة الوحيدة التي فشلـت فشلاً ذريعـاً هي الدولة السورية ونظام الحكـم فيها. فالدولة تم تدميرها وتدمير بنيتها التحتية وقتل مئات الآلاف من مواطنيها وتشريد ملايين آخرين منهم. ونظام الأسد فشل لأنه لم يستطع البقاء إلا بعد أن إستعان بقوى أجنبية وفتح أبواب سوريا أمامها مما ساهم في تدويل الصراع فيها. وبعد أن كان النظام هو الطرف الوحيد الذي يمثل نفسه بنفسه في الصراع داخل سوريا ، أصبح هناك طرف أجنبي يمثله وهو روسيا. أما بالنسبة للمعارضيين للأسد ونظامه فهنالك أكثر من جهة أجنبية وعربية تمثلهم. وهكذا اختلط الحابل بالنابل ودفعت سوريا وشعبها الثمن. ومع أن بعض العرب يحاول الإدعاء بأن روسيا دولة صديقة وأن الوجود الروسي في سوريا له دوافع وطنية وأن أمريكا هي الشيطان إلا أن الواقع يؤكد أن كليهما شيطانان.
ما يجري الأن هو محاولة أمريكية واضحة لإغراق روسيا في المستنقع السوري وتحويل ما بدا كنزهة إلى حرب تستنزف طاقاتها. وتزداد أهمية هذا الإستنزاف إذا ما قررت روسيا أن تستعمل وجودها في سوريا كنقطة إنطلاق نحو دولٍ مجاورة مثل تركيا أو لبنان مما سيضع دولة مثل الولايات المتحدة أمام تحدٍ لحماية مصالحها قد يدفعها إلى إستعمال مزيد من القوى المحلية لإستنزاف القوة الروسية في حال أحجمت هي نفسها عن مواجهتها مباشرة. وحرب الإستنزاف تتطلب في كل الأحوال مزيداً من الوقت وتصعيداً للمعارك حتى تأخذ مفعولها وتسبب الحد الأقصى من الخسائر والآلام. وقد يبدو إصطلاح “الإستنزاف” قديماً ولكنه ما زال فتـاكاً ومدمراً للجهة المُستـَهْدَفة. وقد إستعملته الدول الكبرى ضد بعضها البعض في مراحل كثيرة وفي نزاعات دولية مثل فيتنام وأفغانستان حيث تبادلت أمريكا والإتحاد السوفياتي الأدوار في إستنزاف بعضهما البعض.
روسيا تتصدر الآن الأحداث في سوريا وبالتحديد في منطقة حلب، علناً ودون أي مواربة أو تغطية. فهي تتكلم بإسم سوريا وتأخذ القرارات وتعطي التصريحات دون الإشارة حتى إلى النظام أو إلى الحكومة السورية ودون تدخل أي مسؤول سوري. إن عدم الإشارة لبشار الأسد ونظامه في سياق الحديث عن حلب وما يجري فيها مؤخراً إنما يعكس الحقيقة المُرّة بأن روسيا قد إبتدأت بالتعامل العلني معه بصفته نظاماً خاضعاً تماماً لنفوذها ولا رأي أو فعل له إلا إذا إرتأت هي ذلك. إن حسم الوضع في حلب عسكرياً لصالح روسيا سوف يعزز من موقفها التفاوضي مع تركيا ويجعل منها المفاوض الوحيد القادر على تقديم تنازلات أو ضمانات لتركيا بالرغم من أن هذا الحسم سوف يضع تركيا في موقف يرغمها على مساومة الروس من مركز الضعف . أما إذا فشل الروس في حسم المعركة في حلب لصالحهم فإن ذلك سوف يُضْعـِف موقفهم ويقوي موقف تركيا وقد يرغم روسيا على المضي في عملية تقسيم سوريا وإنشاء دولة كردية في الشمال بهدف إضعاف الموقف التركي والنجاة من حرب الإستنزاف.
معركة حلب وشمولها لكل الأطراف المتصارعة ووحشية ما يجري فيها من قتل وتدمير يؤكد على أهمية هذه المعركة بالنسبة لكل الأطراف. فهذه المعركة ستكون هي المدخل الحقيقي للتفاوض بين روسيا وتركيا وحسم مخرجات الصراع في سوريا. مطالب روسيا معروفه وأهمها إيصال الغاز الروسي إلى أوروبا عبر الأراضي التركية ووقف الدعم التركي للمعارضين لنظام الأسد ، أما تركيا فمطلبها الرئيسي هو منع قيام دولة كردية في شمال سوريا ، وهذا يعني حكماً عدم تقسيم سوريا وهو ثمن قد يكون عالي التكلفة بالنسبة لروسيا خصوصاً إذا كان يعني إستمرار إستنزاف روسيا في باقي الأراضي السورية . أما العقدة الثانية فهي بقاء بشار الأسد في الحكم والحديث هنا لا يدور حول النظام السوري بل حول بشار الأسد شخصياً. وهو ثمن قد تكون روسيا أو تركيا قادرة على دفعه فيما لو أصر الطرف الآخر على موقفه، وكان هنالك أسباب موجبة لذلك مثل تعزيز التحالف الروسي – التركي ونقله إلى مستويات أعلى من التنسيق والتعاون الإستراتيجي.
روسيا ليست معنية في الحقيقة بنظام الأسد بقدر ماهي معنية بإستعمال سوريا كنقطة بداية وإرتكاز لترسيخ وجودها في منطقة الشرق الأوسط. وتعتبر دعوة الأسد لها للتدخل بمثابة “العـُذر المُحِلّْ” لـِفِعْلِ ذلك. مستقبل سوريا كدولة وكشعب لا قيمة له أمام طموحات روسيا الشرق أوسطية ووصولها إلى المياه الدافئة بشكل دائم من خلال قواعد بحرية ثابتة سواء في سوريا أو في غيرها . سوريا قد لا تكون نقطة النهاية ولكن المنطلق لتحقيق الأهداف الروسية الإستراتيجية في الشرق الأوسط . وهذا يعتمد إلى درجة كبيرة على مدى إستعداد الولايات المتحدة وأوروبا للقبول به إذا ما حصل وإلى أي مدى ، وهذا يتوقف إلى حد كبير على درجة التماس بين تلك المخططات والمصالح الإستراتيجية الأمريكية. ومؤشرات التقارب الأخير بين تركيا وروسيا قد تضع نقاط التماس تلك على المحك. فإستبدال التحالف التركي – الأمريكي بتحالف تركي – روسي بالإضافة إلى خطورة الموقع الجيوبوليتيكي لتركيا ووجود قاعدة “انجرليك” الأمريكية الضخمة على أراضيها والتي تحتوي على مخزون من الأسلحة الذرية الأمريكية قد يدفع الولايات المتحدة إلى إتخاذ مواقف أكثر تشدداً تجاه طبيعة وحجم الوجود الروسي في سوريا بهدف وضع محددات لذلك التواجد وليس بالضرورة إلغاءه.
وهذا يعيدنا إلى السؤال الرئيسي الذي يجب أن يسعى الجميع للإجابة عليه بأمانة: هل هنالك حقيقة أي فرق أو إختلاف بين نظام عربي تدعمه روسيا وبين معارضي ذلك النظام واللذين تدعمهم أمريكا؟ مَنْ الأفضل لإستعمار العرب روسيا أم أمريكا؟
سؤال مضحك في ظاهره ومبكي في باطنه . فالعجز الذي وصل إليه العرب جعلهم يستعينوا بقوى استعمارية دولية ثم يفاضلوا بينها متناسين أنها جميعاً سيئة ، فالمفاضلة هي في السوء حصراً إذ لا يوجد إستعمارأفضل من إستعمار آخر بل يوجد إستعمار أسوأ من إستعمار آخر.
إمتاز العالم العربي مؤخراً بقدرته على تبرير أو إستيعاب كافة أشكال الإستعمار ومنها الإحتلال المباشر كما في العراق وسوريا والتدخل المباشر كما في ليبيا واليمن والتحالف والصداقة الملعونه ذات البعد السياسي والإقتصادي كما في علاقة باقي الأقطار العربية مع أمريكا والغرب. وقد تمادي الإنحدار العربي إلى الحد الذي جعل العديد من الدول العربية تتسابق في الإعلان الطوعي عن صداقتها لإسرائيل أو تحالفها معها تحت شعار محاربة التزمت الإسلامي كما تمثله إيران أو الإرهاب الديني كما تمثله داعش متناسين أن الحركة الوهابية الصديقة  للغرب هي أساس التزمت والإرهاب الديني بأشكاله المختلفة.
على العرب أن يعوا أولوياتهم جيداً وأن يعرفوا كيف يفاضلوا بين القوى الخارجية ضمن متطلبات المصلحة العربية. الإستعمار هو الإستعمار سواء أتى من أمريكا أو من روسيا. والإتحاد  السوفياتي الذي عرفه العرب كدولة صديقة قد إختفى وروسيا ليست الإتحاد السوفياتي بل هي أقرب إلى أمريكا في الإهتمام بمصالحها أولاً وأخيراً. وقد يفسر البعض الفرق من خلال تقييم مدى تطابق أو تعارض السياسة الروسية مع المصالح العربية. وكذا الحال بالنسبة لأمريكا الصديق والممول والحامي لإسرائيل منذ نشأتها، والصديق في الوقت نفسه للعديد من الأنظمة العربية.
بالرغم من مظاهر الفشل والإنهيار والتفتت العربي، هنالك صحوة قادمة، وهناك نور من بعد الظلام الدامس حتى وإن كان ذلك النور شـَفـَقـَاً باهتاً في الأفق البعيد . لكن الأمور بحاجة إلى جهد استثنائي وإرادة خارقة وتصميم لا يَرْقى إليه أي شك حتى يتمكن العـرب من تجاوز عواقب ما جرى ويجري لهـم. على العرب رفض الحكم المستبد والإرتقاء فوق الوطنية الضيقة المستندة إلى مكاسب مادية ومنصبية ووظيفية . هنالك صحوة بين الأجيال العربية الجديدة على مستوى الوطن العربي والتي تسعى إلى تأكيد عروبتها في مجالات متعددة قد لا تكون السـياسية أهمـها . وهذه المجالات على بساطتها العفوية مثل الفن والغناء والأدب ووسائل التواصل الإجتماعي تعكس استعداد فطرياً وعفوياً لتأكيد الهوية العربية وللتفاعل مع قضايا عربية إقتصادية واجتماعية وإلى حد أقـل سياسية. وهذا الوضع يشكل نقطة الإرتكاز لإعادة بناء موقف عربي  جديد بهدف إنقاذ وحماية الأقطار العربية من محاولات التمزيق والتقسيم والإفناء القطري كوسيلة لإلغاء الإنتماء القومي.
الديموقراطية والحكم المدني هما المدخل إلى المستقبل. وطالما بقي العرب في خدمة الحاكم الظالم المستبد، فإن مستقبلهم محكوم عليه بالدمار والفناء. والإنتقال إلى الحكم المدني الديموقراطي هو ما يجب أن تسعى إليه الشعوب العربية للخروج من محنتها.

 

د. لبيب قمحاوي
مفكر ومحلل سياسي