الهند.. قصة دولتين | صحيفة السفير

الهند.. قصة دولتين

جمعة, 26/01/2018 - 14:34
د. وائل عواد

عندما كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في مدينة دافوس دعا زعماء العالم للاستثمارالمباشر في الهند بقيمة 100 مليار دولار أمريكي واليوم ومع احتفالات الهند بعيد الجمهورية تحتضن العاصمة دلهي زعماء مجموعة دول جنوب شرق اسيا (الاسيان) احياء للذكرى الخامسة والعشرين للعلاقات الهندية مع نمور اسيا .كل ذلك في محاولة من  رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بناء دولة قوية اقتصاديا وسياسيا وعسكريا لكي تلعب الهند دورا حيويا في الشؤون العالمية .
الهند القوة العظمى الصاعدة حققت انجازات في العديد من المجالات وتربطها علاقات متينة مع دول العالم خصوصا الدول المتقدمة التي تسعى للاستفادة من الانفتاح الاقتصادي للحكومة الهندية وسوقها الاستهلاكي الضخم.
غير ان النمو الاقتصادي مازال بطيئا والبنية التحتية تحتاج الى الكثير من الاستثمارات والحكومة تسعى جاهدة لخلق الوظائف والقضاء على البطالة وخفض التضخم المالي .كل ذلك ضمن نظام ديمقراطي مؤسساتي  الذي تتميز به شبه القارة الهندية وهي الديمقراطية الاكبر في العالم.
على الجانب الاخر حكومة الظل في الشارع الهندي بدأت تظهر أكثر للعلن في التحكم بحرية الراي والتعبير و يخالف الاعراف والتقاليد الهندية المنصوصة في الدستور الهندي والتي تساوي بين جميع المواطنين بغض النظر عن عرقه وجنسه ومذهبه ودينه واثنيته.
اخر مظاهر هو الفوضى،فيلم هندي مثير للجدل يدعى (بادمافاتي ) ويتحدث هذا الفيلم عن قصة تعود للقرن الرابع عشر لملكة هندوسية تدعى (بادما فاتي ) قام الامبراطور المغولي المسلم علاء الدين خيلجي بقتل زوجها الملك ومحاصرة مملكتها ورفضت الاستسلام . وتقول الرواية أن الملكة الفاتنة بادمافاتي ، فضلت حرق نفسها وهي قصة مشابهة لما قامت به الملكة زنوبيا في سوريا التي حاصرها الرومان وفضلت الانتحار على الاستسلام والخضوع  للامبراطورية الرومانية.
حاول المخرج الهندي الشهير (سنجي ليلى بنسلي ) ان يخرج فيلم عن هذه الشخصية مستوحاة من رواية واشعار  كتبت في القرن السادس عشر تتحدث عن هذه الملكة الاسطورة. لكن ذلك لم يرض ابناء طبقة الراجبوت، الذين يعدون من اتباعها، باعتبار ان هذا الفيلم اساء لشخصيتها وقصة حياتها  وأن أحد المشاهد تتحدث عن علاقة  حميمة مع الامبراطور علاء الدين خيلجي ،وهذا غير صحيح، وذهب البعض للتدخل بملابسها وحشمتها إلى ماهنالك …الأمر الذي دفع بناشطين من الهندوس المتطرفيين لمنع عرض الفيلم والتدخل بالنص والاخراج وسرد الرواية ،حسب فهمهم، حتى ان اسم الفيلم قد عدل واصبح مادافات. المأساة معظم هؤلاء المثيرين للشغب لم يشاهدوا الفيلم ولاعلم لهم بالخلفية التاريخية للملكة !
المثير للجدل أن الأمر يتعلق بحقبة المغول  وكتب العديد عن الملكة واختلفت الروايات وبقيت جزء” من التاريخ على الأرشيف غلى أن أراد المخرج المميز بانتاج فيلم وهو المعروف بانتاجه واخراجه وابداعه في التصوير الفني حيث تكاد تكون معظم أفلامه لوحات فنية حية.
المحتجون حرقوا باصات نقل عام وللمدارس وحطّموا شبابيك الباصات المليئة بالتلاميذ واصيب البعض منهم وكانوا في حالة من الخوف والهلع مما دفع بالسلطات الامنية الى اعتقال عدد من انصار التنظيم الهندوسي المتشدد.وقامت معظم الحكومات المحلية في الولايات الهندية التي سمحت بعرض الفيلم من تشديد الامن والحراسة  وامتنعت ولايتين من عرض الفيلم وهما ولاية غوجرات الغربية وراجستهان وسط البلاد .وكانت المحكمة العليا الهندية  قد سمحت بعرض الفيلم وطالبت السلطات بتوفير الامن والحماية  وفرض سيادة الامن والقانون .بعض الولايات قامت باغلاق المدارس والجامعات خوفا” من اندلاع أعمال عنف وشغب .
 وتفاوتت ردود الفعل حول الفيلم و ازداد الجدل حول التدخل في حرية التعبير والراي وماهي الحدود السموح بها للاحتجاج والتعبير عن مواضيع مثيرة للجدل .
ووالهند تشهد ازدهارا” للمجتمعات المدنية والجمعيات غير الحكومية  التي تشجع على الحوار والتفاهم والتسامح وتكامل العلاقة بين المجتمع والدولة .لكن الصراع بلغ أوجه مع تسلم حكومة حزب بهارتيا جاناتا زمام السلطة وأصبح الفرد هو الكل بالكل والبعض منه ياخذ القانون بيده ويفسره على كيفه مما يعيق دور السلطة من القيام بدورها وايجاد مرجعية قانونية للتعامل  مع الأزمات وضبط المجتمع المتعدد الطوائف والأعراق .
الخوف هنا من ان تسيطر هذه العقلية الانقلابية على مجرى الحياة السياسية في الهند وتهدد مستقبل الاستقرار في شبه القارة  وبالتالي تهدم اعمدة  الديمقراطية  ومؤسساتها وهذا سوف ينعكس سلبيا” على الابداع والتميز عند الفرد ويشّل قدرات المجتمع بأكمله مما يولّد حالة من الركود والخمول وتفشي الجهل.
ومع احتفالات الهند بعيد الجمهورية الثامن والستين ، يوم الجمعة المصادف 26 من كانون الثاني يناير، وتتحمل الحكومة الهندية المسؤولية الكاملة  نشر الوعي والقيم والمسؤولية  .
تدخل الهند عصرا” جديدا” في صراع بين السلطة الشرعية والسلطة الفوضوية وبقدر ما تسّرع في معالجته وكبح انتشاره بقدر ما تحافظ على اعمدة الديمقراطية التي بنيت عليها الهند منذ الاستقلال وتلزم المواطن الهندي ليس فقط احترام  القانون  بل الالتزام به ايضا” وإلا فإن الفوضى ستقود للتسلط والهند بغنى عنها .