نظرا للمعاناة التي عايشها العشرات من ابناء موريتانيا في سجون جبهة البوليساريو عقب حرب الصحراء في سبعينيات القرن الماضي، والذين قضى معظمهم في ظروف غامضة، تنشر "السفير" ابتداء من اليوم وعلى حلقات مذكرات الاسير السابق ورئيس جمعية ذاكرة وعدالة محمد فال ولد القاضي ولد أكاه، والتي حملت عنوان: "السير جنوبا باتجاه الشمال"..
من هنا بدأت الحكاية :
كنا ثلاثة أصدقاء ( أنا ، أحمد بزيد ولد بده ، و دحان ولد عبد الدايم ) وكانت تربطنا علاقة صداقة أكثر من حميمة ، تعرفنا على بعضنا البعض خلال المرحلة الإعدادية حيث كنا ندرس في فصل واحد ، وبالصدفة كنا نسكن في نفس الحي من المقاطعة الأولى في انواكشوط ، مما سهل علينا عملية المراجعة الليلية بشكل جماعي ، وبالتالي كنا لا نفترق إلا قليلا الشيء الذي جعل علاقتنا تتحول إلى علاقة أخوة حقيقية ، حتى أننا كنا نحزن لحلول العطلة التي ستفرق بيننا ولو لأيام ، وعندما انتقلنا إلى المرحلة الثانوية كنا نعد الحصص الدراسية كي نلتقي خلال الاستراحة ، حيث كان كل منا يدرس في اختصاص مختلف على الآخرين ، فقد توجهت أنا إلى شعبة العلوم الطبيعية ( D ) ،وأحمد بزيد ولد بده إلى شعبة الآداب ( A ) ، بينما توجه دحان ولد عبد الدائم إلى شعبة الرياضيات ( C) ، ولم نكن نتصور أن يأتي اليوم الذي نقبل أن نبتعد عن بعضنا البعض إراديا ، ثم يصبح البعاد قسريا ، لأبدأ أنا وأحد هذين الصديقين رحلة من العذاب يصعب تصورها أو تصديقها ، ولم نكن نتصور أن تنتهي إلى ما انتهت إليه من سجن وتعذيب على يد إخوتنا الذين سلكنا طريق العذاب تلك لنصرتهم . في المدرسة كنا نتبادل في السر بعض الجرائد القليلة التي كانت تتحدث عن البوليساريو كثورة رائدة في المنطقة ، وبعض الأغاني الثورية التي تمجد تلك الثورة ، وفي الليل كنا نسترق السمع لإذاعة صوت الصحراء التي كانت تبث من الجزائر ، وشيئا فشيئا تبلورت لدينا فكرة عمل أي شيء لمناصرة إخوتنا في محنتهم ، ولم تكن الظروف ملائمة سوى للعمل السري الذي يقتصر على دعوة من هم محل الثقة لاجتماعات عادة ما يكون عدد الحاضرين لها محدودا ويتم فيها الاضطلاع على جديد المنشورات عن البوليساريو ، وكانت تعتمد بشكل أساسي على جريدة " الصحراء الحرة " وأعداد قديمة من " مجلة 20 ماي " ، وقد لعبت تلك النشاطات على بساطتها دورا في التعريف بالبوليساريو في الوسط الطلابي في ذلك الوقت ، بالإضافة إلى أن ثقافة الثورة والتمرد التي كانت السمة البارزة في الوسط الشبابي في الكثير من دول العالم ذات الأنظمة الأحادية قد لعبت دورا كبيرا في جعل شرائح واسعة من الشباب الموريتاني يرى في البوليساريو نموذجا ثوريا يمكن أن تكون بداية لتغيير جذري في المنطقة يحقق للشعوب أهدافها في الوحدة والعدالة والمساواة . ومع الإطاحة بالرئيس الموريتاني المختار ولد داداه (أبي الأمة رحمه الله) سنة 1978, وخروج موريتانيا من حرب الصحراء الذي توج فيما بعد باتفاق 5غشت 1979, شهدت البلاد موجات هجرة للشباب الموريتاني باتجاه مخيمات البوليساريو لو قدر لها أن استمرت بنفس الوتيرة لكانت موريتانيا أفرغت من شبابها في فترة قياسية, وكانت طريق الهجرة تلك تعكس تصميم أولئك الشباب على الوصول إلى هدفهم - مهما كانت مشقة ووعرة الطريق – وهو الالتحاق بإخوانهم الصحراويين والعمل معهم جنبا إلى جنب دون أن يكون لديهم علم بالثمن الذي سيدفعونه فيما بعد. كانت تلك الطريق تبدأ من انواكشوط و تنتهي في المخيمات مرورا بالسنغال ، غامبيا ، غينيا بيساو ، غينيا ، مالي ، والعاصمة الجزائرية ، وبالنسبة لي فقد بدأت الرحلة - بحلوها ومرها - من اليوم الثامن من شهر ابريل 1979 وكان يوم عطلة حيث خرجت للقاء الأصدقاء كالعادة لنذهب الى شاطئ البحر، وكان موعدنا في كوخ بأحد الأحياء العشوائية بانواكشوط يعرف باسم ( كبة ميندز) ، وهناك وجدت صديقي العزيز دحان ولد عبد الدايم في انتظاري ، بينما لم يحضر احمد بزيد الذي لم يكن ليخلف لنا موعدا فاضطررنا لإلغاء الرحلة إلى البحر، وانتظرنا حتى المساء ليدخل علينا الغائب المنتظر (احمد بزيد) فجلس إلى جانب دحان ، وكنت أنا أجلس في الطرف المقابل لهما من المجلس ولاحظت الدموع تسيل من عيني الصديق دحان وهو يتحدث بصوت منخفض فعرفت أن في الأمر خطبا ما ، لذلك انتقلت من مجلسي لانضم إليهما من أجل معرفة ما يدور بينهما ، وحين سألتهما رد علي دحان والدموع تنهمر من عينيه بأن أحمد بزيد سيلتحق بالبوليساريو، ودون تردد قلت موجها كلامي لأحمد بزيد : وأنا سأرافقك ، ثم طلبت منه أن يمهلني أياما حتى أتدبر مصاريف الطريق فاخبرني بأن هناك من سيتكفل بكل مصاريفنا ، سألته عن موعد السفر فأجاب بأنه سيكون غدا أو بعد غد ، وأن هناك آخرين سيرافقوننا . انفض المجلس وتوجهت رفقته إلى حيث تسكن الأسرة لآخذ ملابسي وأوراقي وعندما اقتربنا طلبت منه ان ينتظرني في الشارع المقابل حتى لا يثير وجودنا الشكوك ، ولحسن حظي وربما لسوئه لم أجد في المسكن سوى أختي الكبرى وهي نائمة وبجانبها ابنها الصغير الذي لم يتجاوز عمره الأربعين يوما ، وأذكر أني بعد أن جمعت ملابسي وأوراقي وهممت بالخروج ألقيت عليه نظرة فوجدت عينيه مفتوحتين وكأنه فضح أمري ثم خيل إلي أنه يريد بنظراته أن يسألني لم احمل حقيبتي وأذهب ؟ فأحسست بالألم لأني على وشك فراقه ربما إلى الأبد ، لكني تذكرت قصة الأطفال الصحراويين الذين كان يروج لنا بأنهم يقتلون بقنابل النابالم فهان علي أمر الفراق وانحنيت لأطبع قبلة وداع على جبينه الصغير ثم رحلت . يتواصل ............