عندما احتَلت اسرائيل الاراضي العرَبية في 5 يونيو 1967 م بِماّ فيها الأراضي المِصرية في بِضعَة ساعات فيما سُمىَّ بالنَكَسة كانَّ الجَيش المِصري بين اختيار أن يتحول الى ميليشيات انتقامية عشوائية أو أن يبقىّ كما هو جَيش وطني مسئول عَنْ كامل مُقدرات الشَعب وأمنه وبنيتهِ التحتية بِصَرف النَظر عَنْ الاخطاء السابقة التي آلت الى الهَزيمة وفي مُقدَمتها الشعبوية والخُطَب الرنانة واستعداء الكيان الصهيوني المدعوم مِنْ أكبر قوة عسكرية في العالم دونّ الوقوف عَلى أرض صَلبة وخطط دفاعية وهجومية مدروسة ومحسوبة.
بدءت مصر مُعاودة العمليات العسكرية المؤثرة في سيناء تجاه العدو الصهيوني عَلى استحياء عام 1969 م أي بَعد عامين مِنْ النكَسة فيماّ سُميَّ بِحَرب الاستنزاف وذلكّ لأسباب تتعلق أكثر بالحِفاظ عَلى الروح القِتالية للجنود والروح الوطَنية للشعب ولكَنها لَمْ تنخَرط في مواجهة عسكرية مُباشرة مَعَّ الكيان المُحتل قَبل حَرب اكتوبر المجيدة عام 1973 م.
ذلكَّ عَلى الرغم مِنْ امتلاك الجيش المصري في ذلكَّ الوقت القُدرة عَلى توجيه ضرَبات ميليشياوية موجعة لجيش الاحتلال الاسرائيلي على غِرار ماّ تفعلهُ الان حماس وحزب الله لكنْ دونَّ القُدرة عَلى تامين العمق المصري الذي كان مكشوفا بصورة شبه كاملة للطيران الاسرائيلي بعد ما حدث في النكسة .
لَمْ تجرؤ مصر عَلى اتخاذ قرار الحَرب المُباشرة مَعَّ اسرائيل قَبل اكتمال بناء حائط الصواريخ بمُساعدة الاتحاد السوفيتي الذي أمنَّ العمق المصري بصورة كبيرة بالاضافة لاتخاذ اجراءت اخرى لتامين المنشأت الحيوية مثل السد العالي .
حقيقة انتصار الجيش المصري عام 1973 على العدو الصهيوني ليسَّ فقط لعبوره خط بارليف المنيع أو تقدمهُ بِضعَة كيلومترات في الاراضي المحتلة في شبه جزيرة سيناء أو اجباره اسرائيل على التوقيع على معاهدة السلام واستعادة جميع الاراضي المصرية وانما لقدرته على تامين العمق المصري في ذروة الحرب بصورة كبيرة وعدم استباحة اسرائيل لمقدرات الوطن وشعبه مثلما هي تفعل الان في فلسطين منذُ 7 أكتوبر 2023 م ولمدة أكثر من أربع شهور متتالية, ومثل ما فعلته مراراً وتكراراً في لبنان بعد أسر أوقتل عناصر حزب الله لبضعة جنود اسرائيلين.
"كرئيس للولايات المتحدة وكأمريكي وكريتشارد نكسون, فانني أحترم هؤلاء الذين يحاربون ويضحون بأنفسهم..فأنتم حاربتم جيداً ونحنُ نحترم هذا. انا أُعني القتال والقتال الجيد...الروح نفسها..ويجب أن أعترف بصفاتي الثلاثة بأنكم قمتم بكل هذا بصورة جيدة" هكذا كانت كلمات نكسون الرئيس الأمريكي الأسبق لاسماعيل فهمي وزير الخارجية المصري الأسبق.
لم تهاجم مصرأهداف مدنية للعدو الصهيوني. لم تسعى لخطف النساء والاطفال والعجائز على الرغم من خسة العدو لذلك حظيت مصر باحترام العالم اجمَع وليس فقط الرئيس الامريكي واعتراف عالمي بمشروعية حربها لتحرير أرضها.
مثال اخر للجيوش الوطنية مع الفرق الكبير في نقاط جوهرية بينه وبين الجيش المصري وهو الجيش السوري:
سؤال رُبما يسأله كثيرين: لماذا لا يهاجم الجيش الوطني السوري القوات الاسرائيلية المُحتلة الجولان منذ عام 1967 م على الرغم من امتلاكه امكانيات تفوق امكانيات حماس وحزب الله؟!
الاجابة بوضوح شديد هي أنَّ الجيش الوطني السوري بصرف النظر عن اشياء كثيرة وتفاصيل اخرى هو جيش وطني مسئول عن كامل تراب الوطن ومقدراته ويريد أن يفوت الفرصة على اسرائيل باستباحة باقي أراضيه مثلما تفعل في فلسطين ولبنان. هو فقط يدعم حماس وحزب الله وعملياتهم خارج حدود وطنه.
يمكنك ان تتهم الجيش السوري بأي شئ. بالضعف, بالفشل, باجهاضه الثورة السورية ودعمه لحكم عائلة الاسد ولكنه في النهاية جيش وطني يُدرك مسئوليته تجاه مقدرات الوطن وليس ميليشيا ويتصرف بناء على قدرته.
من ناحية أخرى الميليشيات مثل حماس وحزب الله هي مجرد ميليشيات شَعبوية وهي اداة لأجندات خارجية مُتداخلة لا علاقة لها بالمصلحة العليا للأوطان فلا تكترث ان دكت اسرائيل بلادهما دكاً وهو ما صرح به على سبيل المثال بوضوح شديد الامين العام لحزب الله حسن نصرالله مطلع هذا القرن بعد اسر جنديين اسرائيلين فقط من قِبَل عناصر حزبه قبل أن تستبيح اسرائيل البنية التحتية اللبنانية عندما قال" اذا كانت اسرائيل تعتقد انه بتدميرها البنية التحتية اللبنانية وقتل المدنيين ستحرر الجنود الاسرى فهي واهمة!"
حتىَ كتابة هذه السطور ومنذُ السابع من اكتوبر الماضي واسرائيل مدعومة بصورة شبه كاملة من الغرب مادياً ومعنوياً واعلامياً وهي تُهاجِم غزة براً وبحراً وجواً مُخلفة عشرات الالاف من القتلى والجرحى كثير منهم من النساء والاطفال وتدمير شبه كامل للبنية التحتية ومأساة انسانية مروعة .
الحقيقة ليس هناك شك في اجرام دولة الكيان الصهيوني , واستخدامها لنصوص دينية تُفسرها بطريقتها لتبرير جرائمها كعادة الارهابيين من جميع الأديان. وليس هناك شك في مُشاركة الغرب في هذه الابادة الجماعية لشعب فلسطين الأعزل بالدعم المعنوي والمادي والاعلامي الغير مُتناهي لدولة الكيان الصهيوني الارهابية ولكن من ناحية أخرى لا نغفل دور منظمة حماس في توريط الشعب الفلسطيني في هذه المأساة الانسانية المروعة وتقديمها مصالحها وأجندتها الخاصة المُختلطة باجندات دول خارجية دون القدرة على تحقيق الحد الأدنى لأمن للشعب الفلسطيني والحفاظ على بنيته التحتية.
المُضحك المُبكي بعد كل هذا الدمار والمأساة الانسانية لغزة يتحدث البعض عن انتصار حماس!
لقد كان مشهد الاسرى الاسرئيلين المُختطفين من قِبل حماس من النساء والاطفال والعجائز مشوهاً لعدالة القضية الفلسطينية وساوى بين الجاني"دولة الكيان الصهيوني" والضحية"الشعب الفلسطيني" وأعطى ذريعة للارهاب الصهيوني بارتكاب جرائمه. وكان مدخلاً للتقارير الاعلامية الغربية الكاذبة التي تتحدث غن قطع رؤوس العشرات من النساء والاطفال الاسرائيليين.
أيضاً استخدام حماس للمستشفيات لانطلاق عملياتها ومراهنتها على أخلاق غير موجودة في أدبيات الكيان الصهيوني مثلما هي غير موجودة في أدبياتها واعطائها اسرائيل الفرصة لضرب المستشفيات هوّ قمة الخِسَة وهو دليل على انسلاخها من أدنى مسئولية تجاه الشعب الفلسطيني .
ان الطريق لتحرير الاوطان يبدأ من الحقيقة ومصراحة النفس ولن يكون ابداً بالخطب الرنانة والعمليات العنترية وهو ما فعلته مصر بعد نكسة يونيو 1967م وتحويلها النكسة لانتصار مجيد في أكتوبر 1973.