نهاية مؤقتة للتعاسة: كان المكان الذي رمتنا فيه تلك الشاحنة – والحمد لله أن بقي منا ما يرمى – هو المكان الذي يتوجب علينا أن نسجل فيه دخولنا ومن حسن الحظ أن الشخص المداوم كان يعرف العائلات التي نبحث عنها وكانت إحداها على بعد خطوات من المكان بل إنه هو نفسه تعرف على رفاقي من خلال أسماء العائلات وبعد أن سجل أسماءنا اصطحبنا إلى أقرب تلك العائلات وكانت خيمة الشيخ ولد محمد سعيد وهو على صلة قرابة بالمجموعة فرحب بنا بحرارة حتى قبل أن يعرف صلة القرابة تلك وكأنه كان على علم بقدومنا إذ أن كل شيء كان جاهزا من شاي وشرب وأكل وحتى الملابس لتغيير ذلك الشيء الذي نلبسه والذي كان قبل تلك الرحلة أزياء تقليدية نظيفة ، وكان الشيء الذي أعتقد أجهد ذلك السيد هو كمية الماء والشامبو الكافية للتخلص من كل غبار "لحمادة" الذي علق بشعر رأس كل واحد منا والذي كان يكفي لنسج خيمة وأظن أنه في صباح اليوم الموالي فينا من وجد صعوبة في التعرف على صاحبه الذي كان البارحة أشبه ما يكون بضب الصخور ويراه قد عاد يشبه البشر.
في مساء ذلك اليوم خرجنا رفقة مضيفنا لزيارة بقية العائلات التي يرتبط أصدقائي بصلة قرابة بها وكنت كلما قدمنا لأفراد تلك العائلات وتعرفوا على الكل باستثنائي شعرت بعدم الارتياح لإحساسي بأني غريب بالرغم من الترحيب الذي سمعته من الكل وقرأته في قسمات وجوه الكل والذي كنت أفسره كنوع من الشفقة قبل أن أدرك أن الأمر جزء من منونات الشخصية لهؤلاء الناس الذين سينسونني الأهل والأصحاب بكرمهم ، ومن المواقف التي ساعدتني على الاندماج وخففت عني ذلك الشعور بالغربة في محيطي العائلي الجديد في مجتمع لازالت القبيلة رغم تحريمها رسميا هي المحدد الأساسي لمكانة الشخص هو تعرفي على الأب الفاضل البخاري ويد آده رحمه الله الذي ظل يحتفي بي بعد أن عرف أن جدي لأمي (اليدالي ولد أحمد تلمود) هو صديقهم الذي كان دائم الانتجاع إلى الصحراء خلال فصل الشتاء وكان له الكثير من الأفضال عليهم ، وكذلك تعرفي في مرحلة لاحقة على العالم الجليل محمد عبد القادر(حمه) ولد حيبلتي الذي ما إن رآني أول مرة حتى عرفني بالشبه مع عمي (محمد يحي ولد أكاه) الذي قال بأنه درس معه سنين طويلة في محضرة أهل محمد أحمد سالم الشهيرة .
بعد ما يقرب من أسبوع قضيناه في مخيم الداخلة محاطين بكل ترحيب من طرف تلك العائلات ، عدنا كما هو مفترض مع الطريق نفسه إلى الرابوني ولكن هذه المرة في شاحنة أقل إزعاجا من السابقة فقد كانت شاحنة جي أم سي (GMC) المعروفة بثباتها وتحديها للطرق الوعرة وكانت وهي تسير بنا كأنما تقول لصاحبتنا السابقة "ليس كلما يرقص على أربع عجلات يعتبر شاحنة" ، وبعد أقل من خمس ساعات أوصلتنا إلى وجهتنا دون أن ينظر أي منا إلى صاحبه ويخاله ضب حجارة فوجدنا في انتظارنا سيارة لاندرو فير أقلتنا مباشرة إلى معسكر"12 أكتوبر" المقام على بعد أربعين كيلومترا من الرابوني وسبعة عشر كيلومترا من مخيم السمارة وذالك من أجل أن نبدأ فترة التدريب العسكري .
كان ذلك المعسكر يومها عبارة مجموعة من الخيام مقامة على أرض جرداء وعلى طرفها توجد غرفة مبنية من الطين تستعمل مقرا للحراسة وكاستقبال للقادمين الجدد فأنزلنا السائق عند تلك الغرفة ومنها كنا متشوقين للالتحاق بالمتدربين الذين كنا نراهم وهم يجوبون تلك الأرض المنبسطة ويقومون بحركات منسقة وبين الفينة والأخرى يزلزلون الأرض بضرب أرجلهم عليها فيبعثون الحماسة في أنفسنا .
لم يطل تشوقنا كثيرا ففي المساء فاجأنا شخص يحمل كرسيا وآلة حلاقة يدوية وهو يأمرنا بأن نتبعه ثم وضع الكرسي في الهواء الطلق و(عينك ما تشوف إلا النور) فقد بدأت آلة إبراهيم الحلاق تفعل الأفاعيل في شعرنا والريح تعصف بيه بعيدا فتتحول جماجمنا في لمح البصر إلى ما يشبه الكلى قبل أن تشوى .
يتواصل ............