لا تبدو كورونا كائنا عنصريا كإيبولا وحمى غرب النيل، كأنها قد بُعثت لتعيد تشكيل قارة “بانجيا” من جديد. فلا الغرب يحظى بهيبته ولا الشرق بسحره ولا المحيطات بقدرتها على الإخفاء، كورونا تعيد تذكير بني الإنسان بإنسانيتهم المشتركة فتعبر الحدود والحضارات فارضة هيبتها على الجميع، ولم يعد بوسع من إعتقد أنه قد بلغ مرحلة الإنسان الأعلى Übermensch البقاء على الربوة ومشاهدة إفريقيا وهي تصارع من أجل البقاء، هذا الإنسان الذي توهم أنه قد بلغ أرقى تجليات إرادة القوة هو اليوم في فوهة البركان والوباء ليس خبرا كسابقيه تتناقله الصحف والشاشات وإنما واقع معاش لا مفر من مواجهته والتغلب عليه، لكن إلى ذلك الحين لابد من وجود فئران للتجارب تساعد علماء الإنسان الأعلى على مزيد التعرف على الداء.
في مكان ما من العالم “المتحضر” تعمل المختبرات مسابقة الزمن باحثة عن إكسير الحياة سلاحها في ذلك العلم و”فئران التجارب”، وعن فئران التجارب يحدثنا تاريخ بلاد العم سام أنها نحن العنصر الملون أو الإنسان الأدنى Üntermensch الذي إعتبرته مجموعة أطباء بمعهد توسكيجي في ولاية ألاباما في ثلاثينات القرن الماضي جسما حاضنا لفيروس الزهري. عقود أربعة كان العلماء خلالها يخدعون الأمريكان السود ويوهموهم بأنهم يقدمون لهم الدواء المجاني لمكافحة الوباء وان البرنامج هو فرصتهم الأخيرة لعلاج مجاني خاص، وفي واقع الحال كان المريض يتلقى بعض المسكنات ليبقى ساحة حاضنة للفيروس مما يمكن الباحثين من متابعة سلوك ودورة حياة الكائن المجهري، وحتى بعد إكتشاف البينيسلين والتأكد من فعاليته كدواء مضاد للزهري إستمرت التجارب في معهد توسكيجي ولم يمنح الأطباء العلاج للمشاركين ليتسنى متابعة تطور المرض حتى إماتته للمصابين به. لقد كانوا لفترة طويلة من الزمن مواد دراسة لا مرضى، ولم يكن الإستغلال ليتوقف مع وفاة المغدور به، فحتى يحظى المشارك بجنازة لائقة بعد رحيله ويباركه رجال الدين ورجال الدولة عليه أن يبيح للأطباء تشريح جثمانه والتعرف بالعين المجردة على الآثار الباطنية التي يتركها الفيروس.
إستمرت الجريمة إلى سبعينات القرن الماضي وخلال تلك العقود الطويلة قتل أكثر من ثلاثة أرباع المشاركين، واليوم لا شيء يوحي بأن الكوربورقراطية الحاكمة في الولايات المتحدة قد غيرت من سلوكها الإجرامي بل لعله اليوم أكثر وضوحا مما كان عليه في ثلاثينات القرن الماضي، قد نكون نحن العرب توسكيجي القرن الحادي والعشرين وقد نتناول الدواء الأمريكي ونلتزم به حتى الرمق الأخير لينالنا شرف المشاركة في ديمومة ألوهة الإنسان الأخير وشبابه وربما تقدمنا بعض حكوماتنا قربانا لساكن البيت الأبيض فنساهم في إيجاد المصل لا بعلمنا وعملنا وإنما بما ستوفره الأعراض التي تظهر علينا من قاعدة بيانات تساعد الأوبرمنش على تجاوز العاصفة.
نحن مجرد حالة للدراسة في معيار الغرب، سوق مفتوحة أمام الشركات الإستهلاكية وكائنات مخبرية لدى مخابر الأدوية ونواطير حقول وآبار لدى شركات الطاقة، ونحن قربان آخر للعم سام ما لم نتعظ وما لم نقطع مع الغرب ونتجه شرقا في مرحلة أولى ثم نولي البحث العلمي ما يستحقه علّنا نقطع مع التبعية للآخر الذي يطغى بعلمه ويجعله سلاحا للسطو والفتك، وفي هذا قال الشاعر اليمني الراحل عبدالله البردوني:
أدهـى مـن الـجهل علم يطمئن إلى أنـصاف ناس طغوا بالعلم واغتصبوا
قـالوا: هـم الـبشر الأرقى وما أكلوا شـيئاً.. كـما أكلوا الإنسان أو شربوا