هل تكون بداية للحد من ظاهرة كراهية والتمييز العنصري؟
منذ بداية العام الحالي يعيش العالم صراعا مريرا وحربا كونية في مواجهة جائحة كورونا التي تعد من أكبر الكوارث في العصر الحديث التي استأثرت باهتمام المنظمات والحكومات والإعلام والمواطنين. لقد انتشر الوباء في كل أرجاء المعمور فأصبح العدو المشترك للبشرية جميعها ، لأنه لم يميز بين جميع الدول ، غنيها وفقيرها ، ، كما لم يتقيد بالحدود ولا بالتأشيرات ، بل تحدى الترسانة العسكرية المتطورة للدول العظمى، وهدد التكثلات السياسية والاقتصادية ، وألغى التظاهرات الرياضية والفنية والثقافية . كما أنه لم يميز بين معتنقي الأديان جميعها ، فأقفل دور العبادة ، وعطل كثيرا من الشعائر والطقوس الدينية عبر أرجاء المعمور .
وتفاعلا مع الأزمة الصحية الناتجة عن الوباء ، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 3 أبريل الجاري، قراراً يدعو إلى "التضامن الدولي لمكافحة انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19 ( ، وتبادل المعلومات والمعرفة العلمية فيما بينها . وشدد القرار أيضاً على "الحاجة إلى الاحترام الكامل لحقوق الإنسان" وأنه "لا مكان لأي شكل من أشكال التمييز والعنصرية وكره الأجانب في التصدي للوباء". ولمواجهة جائحة كورونا تنامت المبادرات الإنسانية على المستوى القطري والإقليمي والدولي المعبرة عن التضامن والتآزر والتضامن الانساني والاجتماعي.
الجاليات المسلمة في أوربا ساهمت في حرب مواجهة وباء كورونا من خلال القيام بمبادرات إنسانية ذات رمزية عالية ، ودلالات واضحة لا ينكرها إلا جاهل أو حاقد . لقد برهنت هذه الجاليات عن حس وطني رفيع وعن اندماج حقيقي في المجتمعات التي يعيشون فيها ، سواء من خلال التزامهم بالحجر الصحي ، او القيام بأعمال خيرية ، والمشاركة في الجهود الطبية الجارية على قدم وساق في نختلف الدول الأوروبية ، خاصة في أيطاليا وفرنسا وأسبانيا وبريطانيا وألمانيا حيث تفشى الوباء في كل المدن .
في فرنسا ، حيث توجد أكبر جالية مسلمة ، يقوم الأطباء من أصول مسلمة بجهود كبيرة ، وقد تفاجأ الرئيس الفرنسي ماكرون ، أثناء زيارته المعهد الاستشفائي الجامعي (إي إتش أو ميديتيرانيه) بمدينة مرسيليا، جنوب فرنسا ، حين علم أن معظم الباحثين مع البروفيسور راؤول ديدييه ينتمون إلى بلدان من العالم الإسلامي. وفي مدينة كولمار شمال شرق فرنسا، وضع مسجد الأمل المغلق مبانيه وقاعاته تحت تصرف مستشفيات باستور في المدنية الواقعة على بعد بضع مئات الأمتار من مكان العبادة. وفي المسجد الكبير في مدينة نانت وزع مسلمون أطباقا من أكلة الكسكس المغربي على الأطقم الطبية المرابطة في المستشفيات. إنها قيم تشارك الملح والطعام بما تحمله من معاني الأخوة والسلم والعيش المشترك.
وفي ألمانيا ، قام عدد من الشبان الأتراك المتطوعين من أصول مسلمة بمبادرات إنسانية عديدة لمد يد المساعدة للفئات المهشة من المعوزين وكبار السن ، حيث قامت جمعية لهم في العاصمة برلين بعمليات التسوق لصالح المسنين الذين لزموا بيوتهم خوفا من الإصابة بعدوى الفيروس القاتل.
وفي المملكة المتحدة ، توفي أربعة أطباء مسلمين ، بسبب فيروس كورونا لأنهم كانوا كانوا في الصفوف الأولى يعالجون ويساعدون المصابين بالمئات من المواطنين وغير المواطنين البريطانيين.
وعلى مستوى المنظمات الإسلامية ، قدمت رابطة العالم الإسلامي التي يوجد مقرها في مكة المكرمة مساعدات كبيرة ومتنوعة لعدد من الدول لمواجهة الجائحة استفادت منها كذلك حكومات غير إسلامية مثل إيطاليا وإسبانيا . وقال الأمين العالم للرابطة " من المؤلم أن نرى معاناة البعض من تلك الجائحة بسبب تقاعس دولهم أو ارتهانها لخرافات تنسب للدين، مبرزا أن هذه المساعدات الإنسانية تمثل قيمة أخلاقية عليا في دين الإسلام ، كما أنها لا تفرق بين دين ودين، ولا عرق وعرق، بل هي خدمة إنسانية للجميع أياً كانت أديانهم، وأياً كانت أعراقهم وأياً كانت بلدانهم .
منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة، المعروفة بـ “إيسيسكو”، خصصت جائزة تقديرية قيمتها 200 ألف دولار أمريكي لمن يكتشف علاجا ناجعا أو لقاحا واقيا من فيروس “كورونا المستجد” ،كما .شرعت في بناء تحالف دولي للتصدي لجائحة كورونا.
قبل زمن كورونا ، كان الإسلام باعتباره منظومة حضارية إنسانية يشكل أحد أبرز هواجس الرأي العام الأوروبي ، فظهوره على الساحة السياسية والفكرية والثقافية داخل المعاقل والأوساط الأوربية ذاتها، جعل منه العدو الأكبر نظراً إلى ما يمثله من جاذبية وتأثير بالغين مما دفع بعض وسائل الإعلام الأوربية إلى البحث عن آليات وسبل لتشويه صورة الإسلام والقيام بحملات التمييع وتزييف الحقائق المرتبطة بالدين الحنيف عقيدةً وشريعةً وحضارةً وتاريخاً.
لقد تمكنت بعض وسائل الإعلام الجماهيرية في أوربا بما تمتلكه من قدرة على الانتشار وقوة الجذب والتأثير، من أن تجعل الصورة النمطية المشوهة عن الإسلام والحضارة الإسلامية ضمن اهتمامات الإنسان الأوربي ، حتى أصبحت – وخصوصاً في أوقات الأحداث الإرهابية والأزمات الدولية - حديث المجالس والمنتديات، ومن هنا تنبع الخطورة الجسيمة للدور الذي تقوم به القنوات التلفزية في ترسيخ الصورة النمطية للإسلام في ذهنية المواطن الأوروبي العادي.
وفي دراسات وأبحاث علمية عديدة أعدها خبراء من أوربا ومن العالم الإسلامي، تم التأكيد على أن لبعض وسائل الإعلام في أوربا المسؤولية المباشرة في تكوين صورة سلبية في المتخيل الجماعي عن الإسلام والمسلمين، حيث نجحت هذه الوسائل إلى حد كبير في تضليل الرأي العام الأوربي الذي لا يعرف عن الإسلام إلا ما تنقله إليه وسائل الإعلام هذه من صور وأخبار وتحليلات وتعليقات موجهة توجيها يهدف إلى أن تتكون في ذهنية المواطن الأوربي العادي صورة مشوهة عن الإسلام والمسلمين، ثقافة وحضارة ودينا ومقدسات.
فهل ستستمر هذه الممارسات العنصرية بعد جائحة كورونا ؟ وهل سيواصل المسلمون في الدول الأوروبية التعبير بالملموس ومن خلال المبادرات الميدانية عن مواطنتهم واندماجهم وأحقيتهم في معاملة عادلة ومنصفة وضامنة لحقوقهم وكرامتهم باعتبارهم جزءا من المجتمعات الأوروبية؟
وهل ستتوقف أحزاب اليمين المتطرف في أوربا عن مضايقة المسلمين والنظر إليهم كمواطنين كاملي المواطنة يساهمون في العمل الخيري وينشرون الأمن والطمأنينة ، وليسوا إرهابيين وعدميين ومنحرفين يجب طردهم إلى بلدانهم الأصلية والتخلص منهم؟
وهل ستصمت الأبواق الإعلامية الأوروبية التي دأبت على الاسترزاق من ترويج الخطابات المسيئة إلى صورة المسلمين ، وتكون منصفة على الأقل في هذه اللحظة التاريخية وتلتزم بأخلاقيات المهنة المتعارف عليها دوليا؟
ذلك هو المأمول ، وتلك هي أنجع الوسائل لسد الطريق على المتطرفين ومروجي خطاب الكراهية والتمييز العنصري ، وترسيخ قيم السلم والأمن والعيش المشترك.