كانت المسافة غير بعيدة (أقل من 40 كلم) وبفضل كثافة الحديد التي جعلت شحنة العدس التي أجلس عليها ثقيلة لم تستطع الأنموك (Unimog) أن تفعل ما فعلت بي أنا وزملائي في المرة السابقة وبعد وصولي عرفت أنه تم في المعسكر إنشاء أقسام للمستويات الإعدادية وأن سبب رجوعي هو ترشيحي لأن أكون ضمن طاقم التدريس لهذه المستويات وهكذا بدأت السنة الدراسية الجديدة (1980-1981) كمدرس للعلوم الطبيعية ، وليس من باب التباهي او التفاخر فقد أبليت فيها بلاء حسنا حيث انها كانت الشعبة التي درست فيها قبل التحاقي بالبوليساريو واستطعت أن أجعل حصصي من الحصص المحببة لدى التلاميذ بفضل أسلوب التفكيك والتركيب والمشاركة الذي اعتمدته في إيصال ما أريد ، وقد استطعت في تلك البيئة الفقيرة أن أوجد الكثير من وسائل الإيضاح للدروس التطبيقية فصنعت من زجاج المصابيح الكهربائية وبعض المتلاشيات جهاز تقطير ومن العيدان وأسلاك الحديد جهازا يوضح تمدد وانكماش المعادن وغير ذلك من الوسائل ، كما كنت أصطاد الزواحف كالأفاعي والسحالي و أقوم بتجفيف أجسامها باستعمال الملح والكحول وكذلك الطيور التي أفرغ أحشاءها ثم أحفظها بالأسلوب نفسه وهنا أذكر أن المرحوم محفوظ أعلي بيبا وكان يومها وزيرا للداخلية في حكومة البوليساريو أحضر لي يوما نسرا كان قد اصطاده وكان لا يزال لحمه طازجا فطلب منه بعض الحاضرين أن يعطيه لهم كي يأكلوه فابتسم وقال اتركوه لمحمد فال الذي سيصنع منه لأولادكم ما هو أفضل من لحمه . كلمة ظل صداها يتردد في أذني وكانت من الحوافز التي دفعتني بعد ذلك إلى أن أكون أول من نظم معرضا لوسائل الإيضاح كله صنعته بيدي من المتلاشيات وقد نال إعجاب من حضروا إقامته في مدرسة 9 يونيو .
مع نهاية السنة الدراسية لا أبالغ إن قلت إن تلاميذي كانوا قد استوعبوا الدروس التي كنت أقدمها بنسبة لا تقل عن تسعين بالمائة وكنت واثقا من أن نتائجهم في موادي ستكون مرتفعة لذلك طلبت من الإدارة أن يقوم غيري من المدرسين بإعداد أسئلة الامتحان وتصحيحها وكان الهدف الأساسي عندي من هذا الطلب هو تقييم تجربتي وهنا أذكر أنه في الأيام الأخيرة قبل الامتحان كنت أراجع مع أحد الأقسام فدخل علي وفد من قيادة الجبهة كان في زيارة للمعسكر من بين أعضائه البشير مصطفى السيد الذي كان هو الكل في الكل و اعلي محمود (وزير التعليم) فلاحظوا وجود كتيبات صغيرة أمام كل التلاميذ وعندما سألوني عنها أخبرتهم بأنها عبارة عن تمارين وتطبيقات ورسوم توضيحية شاملة للمقرر كنت طبعتها على الطابعة العادية وقمت بتكثيرها لأوزعها على التلاميذ للمراجعة قبل الامتحان فأخذ البشير واحدا منها وبدأ يطرح الأسئلة وقد فاجأه تفاعل التلاميذ الكبير معه وكنت أسمعه وهو خارج مع مرافقيه يقول بالحسانية هكذا هم المعلمون (أهيه ذا هو كيفت المعلمين) ، وفي نفس المساء علمت أنه أعطى الأوامر بأن أكون ضمن أول دفعة ستوفد لتتكون في ليبيا من بداية السنة الدراسية القادمة (1981-1982).وبالفعل فقد تم تنفيذ تلك التعليمات وتم إيفادي إلى ليبيا بعد أن انجزت عملي في لجنة إعداد المناهج التي تباشر عملها في كل العطل الصيفية وكان معي في البعثة ستة أشخاص آخرون من بينهم المرحوم تغرة ولد باباه الذي اقتاده القتلة بعد عودتنا من المطار إلى الغار كما يقولون حيث قتل تحت التعذيب في معتقل الرشيد الرهيب.
يتواصل .....