في العقد الأخير من القرن التاسع عشر اتضحت رغبة فرنسا في ضم موريتانيا إلى بقية مستعمراتها في الغرب الإفريقي عملا بمقترح "كبلاني" الذي طالب وزارة المستعمرات ووزارة الخارجية بضرورة ربط المستعمرات الفرنسية في السودان الغربي بتلك الموجودة في الشمال الإفريقي، وقد تمت الموافقة على هذا الطلب بموجب قرار صادر في 27/12/1899م.
وعندما اقتضت المصالح تنفيذ ذلك نظم المستعمرون حملات استكشاف عديدة من أجل الإطلاع على البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للبلاد والطرق ونقاط المياه، فأرسلوا بعثات إلى لبراكنه بإشراف النقيب "بوريل" وإلى تكانت بإشراف النقيب "ماج" وإلى ترارزه بإشراف "كاستون ديه" وإلى آدرار بإشراف "ابن المقداد" وإلى الصحراء بإشراف "ماكمل دول".. وعاد هؤلاء بمعلومات وافرة.
حاول الحاكم الفرنسي في السنغال "فيدرب" استخدام شتى وسائل الإغراء وبث التفرقة من أجل تسهيل الاحتلال، لكن ذلك لم يجد شيئا مع إصرار السكان على الرفض، ومن بعده حاول "كبلاني" نفسه استمالة بعض الشخصيات ذات التأثير من أجل تذليل الصعاب أمام جيشه مستغلا حالة عدم الاستقرار والسلب وسفك الدماء وغياب سلطة موحدة واعدا بالأمن والأمان وحقن الدماء وعدم التعرض للدين فكانت له بعض الآذان الصاغية دون أن يكون له الإجماع وظهرت فتاوي تجيز الاستعانة بأهل الكتاب لحقن دماء المسلمين والمحافظة على أعراضهم وأموالهم كما ظهرت بعض الفتاوى المنادية بالفرار بالدين وبضرورة قتالهم.
كان باب ولد الشيخ سيديا عالما مجتهدا شاهدا على عصره مدركا لميزان القوى رأى بأم عينيه شمولية الظاهرة الاستعمارية، هو الذي ذهب للحج مرات وكان يقرأ انتظام الجرائد الصادرة في اسطنبول ويراسل الملوك العثمانيين.
كان الشيخ سعد بوه قطبا مجتهدا مطاع الأمر وكان الرجلان منشغلون بحالة الفتنة وسفك الدماء والنهب وأجازا الاستعانة بأهل الكتاب.
أرسل الشيخ سعد بوه لأخيه رسالة مشهورة هي "الرسالة العامة والخاصة في التحذير من محاربة فرانص" فقد كان الشيخ ماء العينين قد هاجر نحو الشمال ورفع راية الجهاد كما رفعها المجاهد الحاج عمر تال قبل ذلك.
ومع أن محاولة كبلاني في الحصول على إجماع باءت بالفشل، لم يبق أمام المستعمرين إلا أن يقوموا بدخول البلاد عنوة وهي العملية التي ستكلفهم الكثير لما ستواجه من ضراوة المقاومة المسلحة.
وقتها أدركوا فعلا قوة إرادة التصدي "كل شجرة كانت تشكل عدوا قويا أمام دخولنا" كما يقول أحدهم، إلا أن المقاومة لم تعبئ جميع الطاقات والوسائل بما يتناسب مع متطلبات الوضع وهو ما جعل كثيرا من محاولات التصدي للغزاة لا تمتلك أسباب الاستمرار وبهذا تحطمت آمال الكثيرين خاصة بعد محاولات المجاهد الكبير "الحاج عمر تال" وهزيمته في معركة مدين.
وحين بدا لفرنسا أن إرادة التصدي ستكون أقوى في المناطق التي لم يطأها الاحتلال حتى الآن ولم يصلها زحفهم قرر المستعمرون بسط نفوذهم عليها معتبرين "أن موريتانيا يجب أن تكون ترسا لحماية مستعمرة السنغال القديمة وأن احتلال نخيل آدرار وتكانت يعني احتلال موريتانيا كلها"، وتكريسا لهذا الوعي وانسجاما مع المرامي الاستعمارية المرسومة سلفا جهز "كبلاني" حملة جديدة لاحتلال منطقتي آدرار وتكانت وكسر شوكة المقاومة المسلحة فيهما.
في 20 فبراير 1905 وصلت حملته إلى مشارف جبال تكانت ووقع في كمين نصبه رجال المقاومة التي اشتبكت مع معسكر النقيب "ديري" فقتلت ثلاثة عشر من رجاله كما قامت في اليوم نفسه بمهاجمة فرقة التموين القادمة من كيهيدي، وعلى إثر هذه الضربات التي تكبد فيها المستعمر خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، بادر "كبلان" إلى استدعاء قوة نجدة من شأنها أن تعزز العسكرية وهو ما تحقق حين وصلت قوة إمداد مع القائد "فرير جان" الذي استطاع أن يفاجئ الأمير "بكار ولد أسويد أحمد" في بلدة "بوكادوم" فيبطش بالسكان وممتلكاتهم لكن ذلك لم يثن عزم المقاومين فجاء الثأر مبكرا على يد "سيدي ولد مولاي الزين" ليلة الثاني عشر مايو 1905م، حين اقتحم هو وفرقته معقل كبولاني في تجكجة فأردوه قتيلا.
بعد هذه العملية البطولية استمع مجال المقاومة الوطنية واستعادت بعضا من معنوياتها وثقتها بنفسها، فدشنت بذلك بداية مسلسل معارك مع المستعمر وبرز من استطاعوا أن يخلدوا أسماءهم في ذاكرة التاريخ وصدقوا ما عاهدوا الله عليه من الجهاد في سبيل الوطن وحريته فانتزعوا النصر بقوة الإيمان في مواقع تاريخية معروفة من هؤلاء:
الشيخ ماء العينين
سيد بن مولاي الزين
أحمد بن الديد
ولد عبدوك
سيد أحمد بن أحمد بن عيد
بكار ولد اسويد أحمد
وكثيرون غيرهم..
وقد واكب نضال هؤلاء نضال آخر فيما يعرف بالمقاومة الثقافية والاجتماعية حيث قاطع السكان المدارس الفرنسية ورفضوا الدخول في علاقات اجتماعية مع المستعمرين، بل إنهم لم يقبلوا التعامل معهم في مجالات عديدة، وقد نجحت المقاومة بمختلف أشكالها في تأخير سيطرة الفرنسيين على بلادنا إلى أن تم القضاء في سنة 1936 على آخر جيوب المقاومة المسلحة. وما إن استتب الأمر للفرنسيين حتى بدأت رياح التحرير تجتاح كثيرا من مناطق العالم المستعمرة وبدأت الظروف الدولية تتشكل في اتجاه تعزيز إرادة التحرير ودشن هذا المنعطف مرحلة جديدة من النضال السياسي من أجل الاستقلال وكانت من أهم التطورات التي رفدت هذا الاتجاه "بيان برازافيل" سنة 1944م الذي يعترف ببعض الحقوق للشعوب الإفريقية وما تبعه من تنازلات مهمة لصالحها كحقها في المشاركة في الحياة السياسية، ونتيجة لتأثيرات هذه التطورات وغيرها على الساحة الوطنية بدأت مرحلة من النضال السياسي ضد المستعمر تديرها قيادات سياسية جديدة.
تأليف: اعزيزي ولد المامي (الحلقة الثانية)