في إطار سعيها لتسليط الضوء على "المجالس الجهوية" و التعريف بها وبالدور الذي ستلعبه مع بداية أشطتها الفعلية، من خلال سلسلة المقابلات التي تجريها جريدة السفير مع رؤساء الجهات، والتي استهلتها بحوار مع رئيس جهة الحوض الشرقي، يأتي الدور في هذا العدد على جهة الحوض الغربي، التي يرأسها الوزير السابق والشخصية الوطنية المعروف السيد ختار ولد الشيخ احمد.
يتحدث رئيس المجلس الجهوي للحوض الغربي ، في هذا الحوار عن أهمية اللامركزية في تنمية الولايات الداخلية والمراحل التاريخية لتجربة "الجهات" في موريتانيا، علاوة على المهام التي تطَلع بها كممثل تنوي للمواطن، وجهاز منتخب يرمي إلى الاستقلالية الاقتصادية للولايات من خلال خلق تنمية جهوية متقدمة، تواكب المسار الديمقراطي بشكل عام، وتبرز خصوصية كل منطقة على حدة فيما يتعلق بالثقافة، والثروات الطبيعية.
نص المقابلة:
سؤال: السيد رئيس جهة الحوض الغربي، بعد مرور سنتين على انتخاب المجالس الجهوية، يتسائل الرأي العام عن ماهية المجالس الجهوية ولماذا أنشأت أصلاً، كيف تفسرون ذلك، وماهو مضمون أول لقاء جمعكم بالوزير الأول قبل أيام؟
جواب:
شكرا؛ على إتاحة الفرصة، وأشكركم كذلك على الاهتمام بهذا الموضوع، وهو ما لفت انتباهي حقيقة وقبلتُ إجراء المقابلة دون تردد، رغم عزوفي عن المقابلات والتصريحات الصحفية..
في البداية أودٌ أن أشيد باللقاء الذي خصًنا به معالي الوزير الأول المهندس اسماعيل ولد بدًة ولد الشيخ سيديا، أنا وزملائي، واعتبره بداية فعلية لتفعيل الجهات وهو حدث أساسي ضمن المراحل والترتيبات التي شرعت فيها السلطات من أجل انطلاقة عمل المجالس الجهوية، على أن تأخذ مسارها الطبيعي خلال الأشهر القادمة؛
لكن أريد أن أعود قليلاً إلى تاريخ "اللامركزية" في موريتانيا وأبيًن للقارئ الكريم أن تجربتها في البلد بدأت مع السنوات الأولى لتأسيس الدولة.
عرفنا تجربة اللامركزية منذ سنة 1969 عندما استحدث الأب المؤسس المرحوم المختار ولد داداه نظام اللامركزية ومنحت صلاحياتها للولاة، باعتبارهم يمثلون رؤساء الجهات المحلية، مع إعطاءهم عديد الصلاحيات من اجل تنمية ولاياتهم، وكانت وصايتهم يومها تتبع لرئاسة الجمهورية مباشرة، لكن إثر انقلاب 1978 بدأت تلك الصلاحيات تتقلص ليتبع الولاة بعدها لوزارة الداخلية، قبل استحداث نوع آخر من اللامركزية مع اول انتخابات بلدية تشهدها البلاد سنة 1986، حيث أصبح الوالي مندوباً للحكومة وأسندت للبلديات مهمة التنمية المحلية، لكن ذلك اقتصر على المدن الكبرى (عواصم الولايات) وبقية القرى والأرياف تتبع للإدارة الإقليمية..
حاول الرئيس معاوية ولد سيد احمد ولد الطايع، تفعيل المجالس المحلية وخصوصا البلديات الريفية، وحاول من بعده الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله، لكن كل تلك التجارب تأجًلت إلى أن قام الرئيس السابق السيد محمد ولد عبد العزيز بتفعيل القانون المنظم لعمل الجهات إلى أن وصلنا اليوم إلى مجالس جهوية منتخبة دستورياً تعدٌ شريكاً تنموياً يمثل المواطن، وهي الفكرة أصلاً من وراء إنشائها، إذ تريد السلطات أن يوجد "شريك" يمثل المواطن في التنمية المحلية، يملك كافة الوسائل اللوجستية والمعنوية ويلعب دوراً كبيرا في بلورة الحاجيات الأساسية لكل منطقة على حدة من خلال دراسة وتنفيذ المشاريع التنموية وخلق مناخ اقتصادي يجلبُ الاستثمار بكل أنواعه..
فمركزية السلطة على مستوى العاصمة نواكشوط، جعلت من كل المشاريع التنمية تأخذ طابع وطني يشمل كافة التراب الوطني، ومن الطبيعي أن تحظى بعض الولايات بالنزر القليل من الأولوية وحتى من الأهمية، ما جعلها تعاني الإهمال والتهميش بفعل غياب البنى التحتية الضرورية والخدمات وحصر كافة المصالح والمرافق المهمة لصالح العاصمة السياسية، بما فيها البنوك و الشركات و المصانع...
اللامركزية هي سياسة طموحة يُراد من خلالها توزيع المصالح الحكومية بعدالة بين الولايات، من أجل خلق تنمية على المستوى الجهوي من خلال التسيير المعقلن للثروة الطبيعية التي تزخر بها ولاياتنا، في حين تستعيد قطاعات الدولة مهمتها الأساسية وهي "التخطيط" وإعداد الدراسات حتى تتمكن كل جهة بالقيام بما يناسبها من حيث ما تمتلك من موارد طبيعية.. زراعة، تنمية ، سياحة، صناعة... وهكذا.
سؤال: أية صعوبات تواجه المجالس الجهوية حتى الآن، وكيف تفسرون ذلك؟
جواب:
أريد أن أقول أن الظروف التي تم فيها انتخاب المجالس الجهوية، كانت ظروف خاصة ومعقدة رغم ما أحيطت به هذه التجربة الفريدة من نوعها من أهمية، لكنني أفسرها بجانبين، الأول موضوعي و الثاني غير موضوعي وغير مفهوم بالمرة..!
أما الجانب الموضوعي، فقد انتُخبنا في ظرفية خاصة ذلك أننا يومها كنا بصدد التحضير لانتخابات رئاسية ستأتي بنظام جديد، في حين بدأ العد التنازلي لنهاية حكم آخر، لم تبقى له سعة من الوقت لتفعيلها؛..
أما الجانب غير الموضوعي، فهو بقاء مجالس انتخبها الشعب على الهامش طيلة سنة كاملة، فلم تُستشر في شيء ولم يشرع في إجراءات نقل صلاحياتنا، بل إننا كرؤساء جهات لم نلتقي برئيس الجمهورية السابق سوى قبل ثلاثة أيام فقط على مغادرته القصر، وهو أمر غير مفهوم، وهنا أشير أنه لولى التعاطي الايجابي الذي حظينا به من طرف الوزير الأول يومها المهندس: محمد سالم ولد البشير، لظلت قوانين الجهات معطلة كما كان حالها مع سلفه يحي ولد حدًمين، فقد ساعدنا الرجل وهذه شهادة للتاريخ، في جل النصوص ولم يكن عقبة أمامنا بل سعى جاهداً لتسريع إكمال النصوص القانونية المتعلقة بالجهات لكن الوقت لم يسعفه.
ومع مجيء الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، حصلت "العناية" بالجهات، وهنا أكرر أننا لقينا العناية من الرئيس غزواني، حتى خلال الحملة الانتخابية فقد استعانَ برؤساء الجهات ومنحهم ثقته أثناء الحملة الانتخابية، وهذه العناية لمسناها بعد تسلمه لمقاليد السلطة، والتي لم تقتصر على الجهات فحسب، بل شملت كافة مؤسسات الدولة، وهي اليوم تسيًر تسيير مؤسسات كل مؤسسة تلعب دورها بجد ومسؤولية، إذن الإرادة واضحة، لكن مع ذلك ظلت هنالك صعوبات، نتفهما ونتقبلها أيضاً؛ لدينا نظام جديد أخذ وقته لتشكيل حكومة جديدة، أخذت هي الأخرى ترتيباتها لتقديم برنامجها أمام البرلمان، والأهم من كل ذلك هي الظروف المالية الصعبة التي يعاني منها البلد والحالة الاقتصادية الحرجة، وهنا أأكد أن إشكالية الموارد هي وحدها التي أصبحت مطروحة أمام المجالس الجهوية والحكومة الآن عاكفة على التغلب على كل العقبات.
لن نستعجل لأننا بصدد استكمال الترتيبات الضرورية والحصول على الوسائل الضرورية لنتمكن من اكتتاب العمال، فالأولوية هنا هي لخلق ظروف العمل، ونعلم أن توفير الوسائل ضاق عليه الوقت، خاصة في ظل وصول وباء كورونا، لتصبح أولوية السلطات هي تجاوز الجائحة؛
وعطفاً على سؤالكم حول مضمون اللقاء مع الوزير الأول، فقد عبًر لنا عن أهمية المجالس الجهوية مؤكداً في ذات الوقت، على أنها تعتبر خيًار استيراتيجي كما تضمنها برنامج رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، وقد كلًف فريقا من الحكومة كل فيما يعنيه للشروع في نقل الصلاحيات.
ونحن بدورنا نثمن هذا اللقاء الذي جاء في وقته، بعد أن بدأت الحكومة تستعيد نشاطها بعد الجائحة، ونحن الآن بصدد تهيئة الظروف للانطلاقة الحقيقية.. "الصلاحيات، الميزانيات، اكتتاب العمال"، والأهم من كل ذلك هو أن الحكومة ربطتنا بالممولين وحثتهم على العمل مع الجهات ما بعد الجائحة، ونستعدٌ لإعداد البرامج وتقديمها للمانحين، والأهم من كل هذا هو الاستعداد الذي لمسناه منهم، إن لم أقل اندفاعهم من أجل مساعدتنا في تنمية الجهات المحلية، وخصوصاً الاتحاد الأوروبي في خطته التنموية لدول المنطقة في ما يعرف بخطة 21/ 27 والتي ستكون مجالسنا الجهوية جزء هام من هذا البرنامج، باعتبارنا فاعلين رسميين.
أملنا كبير في أن تنتهي كل الترتيبات والتي بدأت بالفعل مع تشييد المقرات، حيث رصدت الدولة 7 مليارات أوقية قديمة لبناء مقرات المجالس الجهوية، على أن يتم تسليمها في أجل لا يتجاوز 12 شهرا على أبعد تقدير..
أشير هنا إلى أن كل جهة ستكتتب ما يربو على 60 موظفاً ما بين عمال الديوان والمديرين، ورؤساء مصالح، وعمال عاديين، وقد شرعنا في التواصل مع اللجان الوزارية، والتوجه الحكومي في هذا الخصوص قوي ومدفوع بإرادة أعلى سلطة في البلد، مما يؤكد بأن تجربة الجهات ليست أمور عبثية كما يصفها البعض.
سؤال: برأيكم إلى أي مدى يمكن أن يعوًل على تجربة اللامركزية في بلادنا؟
جواب:
عندما تحصل الإرادة يكون الدافع قوياً، والإرادة موجودة والظروف ستتهيأ، لكن أريد أن أعود هنا إلى شيئ مهم، وهو التعريف بثقافة الدولة، وهو ما نعانيه منذ استقلال موريتانيا وحتى اليوم، فإشكالية انهيار التعليم وهشاشة قطاع الصحة وكل الأمور التي لها صلة مباشرة بالمواطن، علاوة على انتشار مسلكيات الرشوة والمحسوبية وما إلى ذلك كلها لصيقة بما يعرف بثقافة الدولة، وهو أكبر غائب عندنا للأسف.
لدينا نخب غير مشبعة بتلك الثقافة وهذا هو السبب المباشر في فشل المشاريع التنموية وتحويلها إلى جيوب بعض المسؤولين.
لنفترض أن الوزارة ليست مؤسسة تنفيذ ولا يجب أن تشرف على تنفيذ المشاريع التنموية فهذا ليس من اختصاصها.. الوزارة تخطط فقط؛ فهي لا يمكن أن تقوم بالتنفيذ والتخطيط، وأن تراقب نفسها كذلك،.. فهنالك ما يسمى "مشروع" وهذا المصطلح غريب على الإدارة وعلى القانون، إذ ليس له أصل في القانون الموريتاني، وهو تشريع فقط لتبديد المال العام، ذلك أن الجهات والمجالس المحلية هي الآلية الوحيدة لتنفيذ المشاريع التنموية، وأي عمل دونها يعتبر وسيلة للنهب.
والمشكل الأكبر يكمن في اختطاف الإدارة وتسييرها من طرف من لا علاقة لهم بها، فالتسيير هو من اختصاص الأطر المكونين على الإدارة ولا يعقل أن يوكل تسيير مؤسسة لفني أو طبيب أو خريج آداب، بل يجب أن توكل لإداري مدني، لا بد أن نعرف كيف نغير هذا الوضع ونطالب رئيس الجمهورية بالعمل على إصلاح هذه الثغرة التي نستغربُ جميعاً أسبابها..!
نحن اليوم أمام نظام مختلف، ويحمل معه أشياء جديدة لم نألفها من قبل، وهي وجود الإرادة التي لمسناها جميعا والتي على أساسها منحه الموريتانييون ثقتهم عندما وجدوا تلك الإرادة منذ خطاب ملعب شيخه ولد بيديًه، ونحن كرؤساء جهات ندرك جيداً أن ما ينقصنا كجهاز يمثل المواطن، هو تلك الإرادة، والإرادة فقط هي التي تخلقُ الإدارة وتعطي دفعاً لتنمية البلدان.
حوار: سيدي محمد صمب باي
الموضوع الرئيسي لعدد "السفير" رقم 1169 الصادر بتاريخ: 21/07/2020