شكًل إنشاء لجنة برلمانية للتحقيق في ملفات فساد طالت العديد من قطاعات الدولة، سابقة في تاريخ البلاد والمنطقة، وكان تسارعُ وتيرة عملها وتوسيع مجال تحقيقها بادرة حسنة في استقلالية السلطة التشريعية وتفعيل دورها الرقابي، على أمل أن تُعاد الأمور إلى نصابها وتبدأ موريتانيا مرحلة جديدة تقوم على الشفافية في تسيير المال العام وتطبيق مبدأ العقوبة والمكافئة..
تكتسي هذه اللجنة أهمية كبيرة، ويعدٌ إنشاءها أصلاَ بارقة أمل في إظهار الحقائق، وأسلوب حضاري يتوق إليه جميع المهتمين بالشأن العام، كما تعتبر أهم مطلب لأقطاب المعارضة خلال السنوات الأخيرة، وكل الشعب الموريتاني الذي عانى من الفساد والمحسوبية وإهدار ثروات البلد.
ونحن اليوم أمام تقييم حصيلة سنة منذ وصول الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، إلى الحكم، يبدو أن الرجل تمكن من إضفاء مصداقية كبيرة باتجاه دولة المؤسسات، ذلك أن السلطة التنفيذية بقيت على حياد تام، مما جري داخل أروقة البرلمان، إلى أن استكملت اللجنة تقريرها وسلمته لرئيس الجمعية الوطنية، وهو التزام قطعه ولد غزواني على نفسه خلال لقاءاته بالسياسيين والنواب، مؤكداً على تكريس العدالة، وأن دوره كرئيس جمهورية هو حماية الدستور.
أظهرت اللجنة البرلمانية من خلال استماعها لكل من شملهم التحقيق، مصداقية كبيرة وابتعدت عن التصنيف وتصفية الحسابات حسب شهادات المعنيين، فيما سيكون عملها ثمرة لتفعيل المساطر القانونية وإخافة المسؤولين من المال العام وسوء التسيير، كما أنه هيأ الأرضية لمسائلة كبار الموظفين بالدولة، عبر مسارين؛ الأول يتعلق بمحكمة العدل السامية كهيئة دستورية، يجب أن تتجدد مع انتخاب أي برلمان جديد، والثاني والأهم، هو استحداث "الجرائم الاقتصادية" كهيئة جاهزة و قطب تحقيق، ومحكمة تقوم بعملها بطريقة منفصلة عن الأخرى.
تقرير اللجنة الذي تضمن شهادة 200 شخص، بحسب معلومات "السفير" شمل كافة المجالات التي غطًاها التحقيق بشكل شفاف، مع الإشارة إلى حدود 120 شخص تحوم حولهم شُبهات من خلال معلومات موثًقة، على أن يُحال التقرير بعد المصادقة عليه في جلسة علنية للجهات المختصة، و يأخذ مساره الطبيعي.
مسار اللجنة..
كانت مصادقة البرلمان في شهر يناير الماضي، على مقترح تشكيل لجنة برلمانية للتحقيق في قضايا فساد خلال فترة حكم ولد عبد العزيز، منعرجاً حاسماً في إعادة تفعيل دور المشرع بعد أن أقتصر خلال العقود الأخيرة على تمرير القوانين ومحاباة الأنظمة الحاكمة، غير أن مطالبة أعضاء اللجنة بتوسيع نطاق عملها بعد شهرين من تشكيلها، أعطى انطباعاً بأن هنالك سعي جاد لإثارة كل الملفات التي طرحت أكثر من استفهام، وهو ما برره البرلمان يومها، بأن توسيع نطاق عمل لجنة التحقيق "مرتبط ارتباطا وثيقا بملفات أخرى غير مشمولة بمجال تكليفها، وهو ما جعل من المهم توسيع مجال تفويضها، حرصا على مساعدتها على أداء مهمتها على الوجه المطلوب".
والملفات الجديدة التي قررت اللجنة التحقيق فيها، هي "السياسية التجارية للشركة الوطنية للصناعة والمناجم وصفقات البنية التحية (الطرق – المطارات – الموانئ – الاستصلاحات)، وصفقات شركة الوطنية للكهرباء"، لتنضاف إلى ملفات: "صندوق العائدات النفطية وعقارات للدولة تم بيعها في نواكشوط، ونشاطات شركة "بولي هونج دونج" الصينية وصفقة الإنارة العامة بالطاقة الشمسية، وصفقة تشغيل رصيف الحاويات بميناء نواكشوط وتصفية الشركة الوطنية للإيراد والتصدير".
مُنعرج استدعاء الرئيس السابق!
مثل استدعاء الرئيس محمد ولد عبد العزيز من طرف اللجنة البرلمانية للاستماع إليه، فيما يتعلق بملفات قالت اللجنة أن اسم الرئيس ورد أكثر من مرة في شهادات من سبقوه، حدثاً بارزاً، بل ومنعرج في المراحل التي مرت بها اللجنة وإن كان رفضه لاستلام الاستدعاء والحضور طبعاً، قد أعطى انطباعات لدى المتابعين، أن الرجل إمًا أنه يخاف كشف المستور، أو أنه لا يلقي بالاً للجنة وصفها من قبل بالعجز وعدم المصداقية، غير أن حديث اللجنة في ما بعد عن رسالة كان السفير القطري السابق في نواكشوط قد كتبها لبلاده، وتشير إلى أن الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز منح جزيرة "تيدرة" وهي جزيرة ضمن أرخبيل محمية حوض آركين شمال البلاد، غيًر من مسار القضية وفتح منعطفات جديدة منذ أن قدم رئيس لجنة التحقيق البرلمانية ورئيس فريق حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم، النائب احبيب أجاه توصية إلى الجمعية الوطنية تنصٌ على أنه مع احترام الآجال القانونية لانتهاء عمل لجنة التحقيق تضاف إلى مهامها التحقيق في الملفين التاليين:
- الوقائع التى قد تشكل مساساً بالحوزة الترابية للجمهورية الإسلامية الموريتانية
- الخروق المحتملة لأحكام القانون رقم 014-2016 الصادر بتاريخ 15 ابريل 2016 ، المتعلق بمكافحة الفساد .
اسبوع الحسم!
تسارعت وتيرة الأحداث ما بعد فضيحة جزيرة "تيدرة"، وملحقاتها على غرار "الصك" القطري، الذي تسلمه مدير ديوان رئيس الجمهورية السابق الدكتور إسلكو ولد إزيد بيه، في مكتبه برئاسة الجمهورية شهر مارس 2012، والذي قيل بعدها بأيام أنه عبارة عن هدية قطرية لبلادنا بملغ 10 مليون دولار، لمساعدة الحكومة في التخفيف من آثار الجفاف إثر النقص الحاد في التساقطات المطرية في تلك السنة، غير أن استلام المبلغ بطريقة مخالفة للأعراف والنٌظم، تركَ المجال واسعاً لاتهام الرئيس السابق بتسلمه شخصياً، وهو ما تناقلته بعض وسائل الإعلام المحلية بأن الرئيس السابق أعطى تعليماته لمدير الديوان بتسلم "الشيك" من سفير دولة قطر، وإيصاله له في منزله بالرئاسة وهو ما نفاه ولد إزيد بيه لاحقاً، وقال أنه سلًمه بنفسه لوزير الاقتصاد والمالية وتأكد من دخوله في خزينة الدولة.
على بعد أيام فقط من نشر تقرير اللجنة البرلمانية، واعتقاد البعض بأن شخصيات من بينها وزراء ومديرين حاليين، شملهم التحقيق وتحوم حولهم شبهات في المشاركة والتستر، على اتفاقيات وإبرام صفقات مشبوهة، واستفادتهم من عشرات الصفقات وتبديد المال العام، وهي تُهم ترقى إلى الخيانة العظمى، تتجه الأنظار إلى الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، فيما يراه مراقبون بأنها فرصة الحسم، والتخلص من بقايا النظام السابق، بل وتخليص البلاد منهم ومن فسادهم الذي عمً البر والبحر، لكن في المقابل لا يستبعد البعض الآخر، أن تأخذ الإجراءات القانونية والترتيبات الإدارية في هكذا ملفات وقتاً أكثر وفقا لمسطرة قضائية قد تطول حتى تأخذ مسارها الطبيعي، ليبقى السؤال: هل نجحت اللجنة البرلمانية في كشف الفساد وفساد العشرية الماضية على وجه الخصوص؟!.
الموضوع الرئيسي لعدد "السفير" رقم 1170، الصادر اليوم: 28/07/2020