ظللت سحابة أمس وبت ليلة البارحة -يعلم الله- أقلب الفكر في كتابة هذه التدوينة، وكم كتبت ومحوت، ليس محاباة وإنما صفحا عن زلة مغمورة في بحر الخلال الحميدة، ووالله إنك عندي -وعند كل المنصفين- لجدير بأن تغفر عثرتك، وأيم الله إنها لعثرة، وقد أمرنا حديث أبي داود بأن "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم"، وأنت في صدراة ذوي الهيئات علما ووعيا ومكانة وسابقة، ثم عزمت على أن أكتب لك لسببين؛ أما الأول فهو أنك رجل منظور إليك أو شخصية عامة بلغة اليوم، والشخصيات العامة لا يغتفر لها ما يتعلق بالشأن العام، وأما الثاني فهو أنك تمثل –أردتَ أم لم ترد- مشروعا يعلي قيم الحق والعدل والمحاسبة، ولا أرضى أن أكون من الذين يرون القذى في عيون غيرهم جذوعا، ولا يرون الجذوع في أعينهم، لم أرد إذن أن يحترق لساني عن نقد فساد الأنظمة ورجالها بالسكوت عن عثرتك، وإن كان يحز في نفسي أن أكتب لمثلكم في موضوع كهذا، ولكن "حق الحق مقدم على حقوق الخلق" كما قال شيخنا آدَّ رحمه الله.
ليس هناك ما يمكن به تسويغ تعيين أخينا صلاح دون أي يمر من الطريق الذي يمر به طالبو الوظائف من الشباب الموريتاني العاطل عن العمل، ولعله لا يخفى عليكم أن من جيله ومن الجيل الأكبر منه والجيل اللاحق له فئام لديهم التخصص ذاته والكفاءة ذاتها، فتعيينه امتياز حصل عليه بمكانتكم ومحاباة من النظام أو أحد مسؤوليه لكم –وأعرف أنكم ربما لم توجفوا على ذلك بخيل ولا ركاب-، ولكن ما كان لمثلكم في الوعي والمكانة والحصافة أن يقبل ذلك، فإن من دخل مواطن التهم اتُّهِمَ ولو كان أنقى من ماء الغمام وأطهر من ظل الكعبة، وأنتم والله أهل النقاء والطهر، لا ريب في ذلك عندي ولا شك.
كان الأولى بكم أن تغلبوا وعيكم السياسي على عاطفتكم الأبوية، أعرف أن ذلك صعب وأذكر قول نوح عليه السلام وقد صارحه ابنه قبل ذلك أنه سيأوي إلى جبل مع طائفة المكذبين، "قال رب إن ابني من أهلي"، كان الأولى بكم –كما أسلفت- أن تغلبوا وعيكم السياسي وخبرتكم بمكر الأنظمة، وسعيها إلى تلطيخ سمعة الأشخاص والجماعات، وأن تقولوا بصريح العبارة: "لست قابلا أن يعين ابني بهذه الطريقة"، وأن تلزموه بذلك، وأن تبينوا أن لا دور لكم في ذلك، وليذهب بعدها أخونا صلاح يكدح لنفسه فيوالي أو يعارض أو يسابق فيحصل على ما حصل عليه بجهده لا يمكانتكم وسمعتكم.
ماذا سنقول للجنرالات والوزراء وشيوخ القبائل وغيرهم من النافذين الذي خربوا البلد بهذه التعيينات الخارجة على القانون، هل يمكن أن ننتقدهم غدا إذا عينوا من شاؤوا من أبنائهم وأقاربهم دون أي مسابقة عامة، ونحن ضالعون في المفسدة ذاتها، لقد حرق النظام ألسنتنا بهذه العثرة، وإنها لمحزنة مؤسفة.
رضي الله عن عمر بن الخطاب لقد كان يجمع مع قوة الوعي صلابة الموقف وحسن الاحتياط، قال عبد الله بن عمر: "شهدت جلولاء -إِحدى المعارك ببلاد فارس- فابتعت من المغنم بأربعين ألفاً، فلمَّا قدمتُ على عمر؛ قال: أرأيت لو عُرِضْتُ على النَّار، فقيل لك: افتده، أكنت مفتدياً به؟ قلت: والله ما من شيءٍ يؤذي بك إِلا كنت مفتدياً بك منه، قال: كأنِّي شاهد النَّاس حين تبايعوا، فقالوا: عبد الله بن عمر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن أمير المؤمنين، وأحبُّ النَّاس إِليه، وأنت كذلك، فكان أن يرخصوا عليك أحبَّ إِليهم من أن يغلوا عليك، وإِنِّي قاسم مسؤولٌ، وأنا معطيك أكثر ما ربح تاجر من قريش، لك ربح الدِّرهم درهم، قال: ثمَّ دعا التُّجار، فابتاعوه منه بأربعمئة ألف درهم، فدفع إِليَّ ثمانين ألفاً وبعث بالباقي إِلى سعد بن أبي وقَّاص ليقسمه".
وقال ابن عمر: "أهدى أبو موسى الأشعري لامرأة عمر عاتكة بنت زيد طنفسة، أراها تكون ذراعاً وشبراً، فراها عمر عندها، فقال: أنَّى لك هذه؟ فقالت: أهداها لي أبو موسى الأشعري، فأخذها عمر ـ رضي الله عنه ـ فضرب بها رأسها، حتَّى نفض رأسها، ثمَّ قال: عليَّ بأبي موسى، وأتْعِبُوه فأتي به، وقد أُتعب، وهو يقول: لا تعجل عليَّ يا أمير المؤمنين! فقال عمر: ما يحملك على أن تهدي لنسائي؟ ثمَّ أخذها عمر، فضرب بها فوق رأسه، وقال: خذها، فلا حاجة لنا فيها. وكان رضي الله عنه يمنع أزواجه من التَّدخُّل في شؤون الدَّولة، فعندما كتب عمر ـ رضي الله عنه ـ على بعض عماله، فكلَّمته امرأته فيه، فقالت: يا أمير المؤمنين! فيم وجدت عليه؟ قال: يا عدوة الله! وفيم أنت وهذا؟ إِنما أنت لعبةٌ يلعب بك، ثمَّ تتركين. وفي روايةٍ: فأقبلي على مغزلك، ولا تعرضي فيما ليس من شأنك".
_______________
د. الشيخ أحمد البان