يبدو ان كثيرين يجهلون أو يتجاهلون أسس النقد و أصوله, و يخلطون بين النقد الشخصي او الذاتي لشخص و منهجه , و بخاصة اذا كان هذا الشخص قائداً او زعيماَ , فهو في هذه الحالة ليس ملك نفسه وإنما هو ملك لأمته و شعبه و لحكم التاريخ عليه, و لذلك فإن النقد هنا يركز على منهجه الذي سلكه في ادارة قضايا و شؤون شعبه او امته او مجتمعه شريطة ان يكون هذا النقد موضوعياً و بعيداً عن العواطف و الميول الذاتية و معززا بالإسانيد و البراهين و الروايات الموثوقة . و اني اقول ذلك رداً على انتقادات عدد من اصدقائي حينما انتقدت في عدد من مقالاتي منهج الرئيس الراحل ياسر عرفات في تعامله مع القضية الفلسطينية منذ أن اصبح رئيس منظمة التحرير الفلسطينية خلفاً لرئيسها المؤسس المرحوم أحمد الشقيري , هذا المنهج الذي كثرت فيه الأخطاء, و التي كان آخرها اتفاق اوسلو سيئ الذكر و الذي الحق الضررالشديد بالقضية الفلسطينية و بالشعب الفلسطيني , و كنت مع الكثيرين غيري من داخل منظمة التحرير الفلسطينية و من خارجها قد عارضوا الاتفاق و أصدرت انذاك كتاباً عنوانه ” السلام الخادع ” , ضمنته مقالاتي في الصحف انتقد الاتفاق منذ علمت به و قبل توقيعه في البيت الأبيض في الثالث عشر من أيلول / سبتمبر 1993م , و رفضي التعاون مع السلطة حينما اتصلوا بي.
و أود هنا أن اقول بأنني على المستوى الشخصي أكن للرئيس عرفات كل محبة و تقدير فهو رمز من رموز الوطن , و هو من أبناء جيلي ولا يكبرني إلا بثلاث سنوات , و علاقتي بأبناء عمه في مدينة خان يونس قوية فألاستاذ جرير نعمان القدوه ابن عمه و زوج شقيقته كان استاذي في المرحلة الابتدائية , و شقيقه جرار نعمان القدوة كان استاذي بمدرسة الامام الشافعي الثانوية بمدينة غزة و شقيقه مشرف كان في الجهاد المقدس الذي كان قائده الشهيد عبد القادر الحسيني .
والد ياسرعرفات المرحوم عبد الرؤوف القدوة عرفته قبل ابنه ياسر حينما رحل من القاهرة و سكن في خان يونس و دفن فيها . و عرفت ياسر عرفات حينما التحقت بجامعة فؤاد الأول ( القاهرة حالياً ) عام 1950 , و كان قد سبقني إليها , و كنت التقيه حينما أصبح رئيساً لرابطة الطلبة الفلسطينيين بالقاهرة , ثم سبقته للعمل في الكويت عام 1957 .
في عام 1959م , وكنت انذاك مدرسا وفي الوقت نفسه أعد و أحرر ركن فلسطين في الإذاعة الكويتية ولي نشاط صحفي قبل أن تستقل الكويت في عام 1961م , زارني ياسر عرفات في منزلي بالكويت مع صديق مشترك هو الاستاذ سليمان ابو كرش , و أبدى اعجابه بنشاطي الصحفي و العلمي , و كان هدف الزيارة أن اكون معه من الذين سيؤسسون فتح , فشكرته و اعتذرت له لأنني كنت قد نويت السفر لبريطانيا للحصول على درجتي الماجستير و الدكتوراه .
صحيح أنني انتقدت – ولا زلت انتقد – منهج ياسر عرفات ولكنني قمت بالدفاع عنه حينما طعن بعض اعدائه وخصومه في وطنيته وزعموا ان ياسر عرفات من اصل يهودي ,ونشرت دفاعي هذا في مقالات نشرتها في بعض الصحف وايضا في كتاب لي نشرته في عام 1989م وعنوانه تراث فلسطيني حيث ذكرت في عنوانين منفصلين علاقتي بوالده المرحوم عبدالؤوف القدوه وبه شخصيا وذكرت نسبه واصله واقرباءه في مدينتي غزه وخان يونس .
وقد ابلغني الاستاذ سالم ابولغد الذي كانت له علاقات قويه مع السلطات الكويتية ان ذاك و كان همزة الوصل بين الفلسطينيين و السلطات الكويتية بدلا من مكتب منظمة التحرير الفلسطينيه في الكويت التي أهملتها الحكومة الكويتية بسبب انحياز عرفات للرئيس صدام حسين حينما غزا الكويت عام 1990 م .
ويبدو أن مقولة أصل عرفات بأنه يهودي انطلت على الكويتيين الرسميين فما كان من الاستاذ سالم أبولغد الاً أن أخذ نسخة من كتابي ” تراث فلسطيني ” وقال للمسؤولين هذا كتاب للدكتور محمد علي الفرا , وانتم تعرفونه جيدا , فهو من اوائل الاساتذه بجامعة الكويت وتاريخه لديكم معروف.
وفي الكتاب يذكر الدكتور الفرا شيئا عن أسرة ياسر عرفات ووالده وعلاقته القوية معهما ومع ابناء عمومته في مدينتي غزه وخان يونس , فقالوا له – بناءا على قول سالم ابولغد لي – نحن نثق ونحترم الدكتور الفرا فهو استاذنا واستاذ الاجيال في معارف الكويت منذ خمسينات القرن الماضي وقبل انشاء الجامعه .
في الحادي عشر من هذا الشهر يكون قد مضى على وفاة ياسر عرفات ستة عشر عاما ( توفي في 11/11/2004) , فقد وجدت من المناسب نشر هذا المقال عنه , وبخاصة ان جدلاً قديما قد عاد من جديد عن اصل ياسرعرفات عقب ثبوت فشل اتفاق كامب ديفيد ووصولنا الى وضع سيء جداً كان بسبب نهج خاطئ .
وقد خصصت هذا المقال للكتابة عن اصل ياسر عرفات , ولن اعتمد هنا على شهادتي الشخصية كما وردت في كتابي ” تراث فلسطيني ” سابق الذكر , وانما سأعتمد في هذا المقال على مخطوط شهير عن تاريخ غزه عنوانه ” إتحاف الاعزة في تاريخ غزة ” من تأليف الشيخ عثمان الطباع المتوفى عام 1950 وقد كتبه في عشرينات القرن الماضي , وعندي صورة لصفحات من هذا المخطوط الذي طبع عام 1999 في اربعة اجزاء وهي عندي ايضاً , وقد خصص المؤلف الجزء الثالث لعائلات مدينة غزة وعدد من عائلات مدينة خان يونس وارفق معها شجرة كل عائلة .
يبدأ الشيخ عثمان الطباع بذكر تاريخ آل القدوة فيقول : اصل هذه العائلة من حلب الشهباء , نزل غزة منها في القرن الحادي عشر الهجري جدها فخر التجار والأشراف السيد محمد ابن الشيخ يوسف القدوة واخوه المقدم والرئيس المحترم الحاج عرفات الشهير بنسبه المبارك بأبي القدوة واشتهرت عائلته بغزة باسمه وعرفت به , قال في كتاب كشف النقاب ومن البيوت القديمة بيت عرفات القدوة وهو اهل حسب ونسب وكانت فيهم نقابة الاشراف .
والد عرفات حسب ما جاء في شجرة العائلة اسمه عبدالرؤوف , وابنه “محمد ياسر” وهو من مواليد القدس , وليس القاهرة , كما ورد في الموسوعات والكتب . وكما ذكر السيد عزام توفيق ابو السعود , وهو قريب عرفات , فوالدته ابنة عم زهوة ابو السعود والدة عرفات , في جريدة القدس في مقال له بتاريخ 8/11/2005 بعنوان ” مولد وطفولة ونشأة ياسر عرفات ” بأن والده عبدالرؤوف القدوة الذي كان مقيما في القاهرة جاء الى القدس لأخذ ولديه ياسر وفتحي بسبب الاضراب اولاً ( اضراب ثورة 1936 والذي استمر ستة شهور ) , ثم بسبب قرب فتح المدارس … وحيث ان دخول المدرسة يستوجب شهادة ميلاد , ولصعوبة احضار الشهادة من القدس بسبب الاضراب , فقد تمكن من استصدار شهادة ميلاد لابنه ياسر من القاهرة , مما جعل الذين كتبوا عن سيرته يظنون انه من مواليد القاهرة وهذا غير صحيح .
نقطه هامة اخرى وقع فيها بعض كتاب سيرته ونفيتها انذاك , وهي زعمهم بأن ياسر عرفات ينتسب الى عائلة الحسيني , وذكروا ان المرحوم فيصل ابن القائد الشهيد عبدالقادر موسى الحسيني , ابن عمه , وهذا خطأ اذ لا قرابة بين ياسر عرفات وآل الحسيني في القدس , وان والده – كما سبق القول – من آل القدوة في مدينة غزة , وامه ” زهوة ” من آل ابوالسعود وهي عائلة مقدسية عريقة ومعروفة.
اما نقدي لنهج ياسر عرفات في سيره بالقضية الفلسطينية فلا زلت متمسكا به , وقد سبق لي ان قمت بتحليله والبحث عن اسبابه ودواعيه . فعلى سبيل المثال ان دعمه لقرار قمة الرباط في عام 1974 الذي نص على ” ان منظمة التحرير الفلسطينية دون سواها هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ” , والذي اعتبرته في كتبي ومقالاتي السابقة بأنه نقطة تحول هامة كبداية لتصبح القضية الفلسطينية من قضية قومية الى قضية قطرية , واعتقادي بأن ياسر عرفات كان هدفه الاستقلال بالقضية لاعتقاده واعتقاد كثيرين غيره من الفلسطينيين ان من اسباب النكبة الفلسطينية وما تلاها من هزائم يعود الى ان كثيرا من الانظمة العربية وان عددا من القاده العرب استخدموها كقميص عثمان خدمة لمصالحهم واغراضهم الشخصية.
اما اتفاق اوسلو الذي اوصلنا الى ما نحن فيه من اوضاع سيئة نعاني منها اليوم , ففي اعتقادي ان عرفات وجد نفسه ومعه منظمة التحرير الفلسطينية التي يرئسها في وضع سيء واشبه بالمستبعد من عدة انظمه عربية بسبب انحيازه الى صدام حسين حينما غزا الكويت عام 1990 , وهو لاشك خطأ كبير ارتكبه ياسرعرفات , وسبق لي ان ذكرت وقلت انذاك بأننا كثورة وشعبنا موزع في انحاء البلاد العربية وفي خارجها ينبغي ان نسلك ما سلكته الثورة الجزائرية فلا نقف مع طرف عربي ضد عربي اخر.
ولذلك لما وجد ياسر عرفات بأنه والمنظمة في موقف حرج , واصبح وضع المنظمة في مقرها بتونس صعباً واغتيل عدد من رموزها مثل صلاح خلف وابو الهول ومن قبلهما خليل الوزير , فربما ظن ان الهروب من هذا الوضع هو التحايل بالدخول الى الاراضي المحتلة , وانه لا يمكن لثورة ان تنجح وهي خارج وطنها.
وهذه نقطه يمكن مناقشتها وسبق لي ان عالجتها في مقالات سابقة وعددت البدائل التي يمكن سلوكها بدلا من اتفاق اوسلو الذي اوقع منظمة التحرير الفلسطينية في الاسر الاسرائيلي ومعها القضية الفلسطينية وكان من ضحاياها ياسر عرفات نفسه.
قبيل وفاة ياسر عرفات عام 2004 وحينما اعلن عن مرضه ونقله الى فرنسا لعلاجه , نشرت مقالا في جريدة الدستور بتاريخ 11/11/2004 بعنوان ” من المستفيد من رحيل عرفات ” قلت فيه بأن عرفات انتهى دوره بعد فشل مؤتمر كامب ديفيد وانه لا بد من التخلص منه , وانه ” ليست هناك من وسيلة تحقق ذلك الا انواع من السموم يقال عنها بأنها سموم ذكية , برعت وتفننت التكنولوجية الاسرائيلية في ابتكارها وانتاجها حين الطلب … “. وقد ثبت صحة ماتوقعته.وفي هذا المقال تناولت تحليلا لشخصية ياسر عرفات حسب معرفتي به فقلت ” لقد فشلت جميع محاولات تجاوزه او التحايل عليه , فهو رقم صعب ومحنك وداهية , احتار قادة وزعماء كثيرون في كيفية التعامل معه , ولم يتمكنوا من احتوائه او التغلب عليه , وهو لا يستجيب للضغوط وان ابدى ظاهرياً بالاستجابة , وله قدرة فائقة على تحمل الضغوط والابتعاد عنها , وهو يختلف عن كثيرين في انه ينتعش في الازمات ويشتد عوده , وتزداد صلابته في المُلِمات , ويتقن فن المراوغة , ولا يتحرج من اطلاق الوعود والتصريحات , ولكنه لا ينفذ الا ما يقتنع به .
يقول المقربون منه والمحتكون به انه يتمتع بكل صفات القياده وخصائصها , وهو عنيد شديد المراس ومن الصعب ان يغير رأيه بسهولة , وله قدرة فائقة في التكتيك والمناورة , وقد يكون ذلك على حساب الاستراتيجية التي لا يتقنها , وهو حريص على الامساك بجميع الخيوط بيده , والاحتفاظ بكل الصلاحيات , وتحمل جميع المسؤليات , وجعل جميع الاتصالات عن طريقه حتى بين المسؤولين في سلطته.
وللاسف فإن هذه من سمات الزعماء والقادة العرب وسلوكهم , وهو سلوك استبدادي ينفرد فيه الحاكم بالسلطه وحده , وهذا كان من اسباب ماحل ببلادنا العربيه من دمار وهزائم ونكبات وتخلف.
وبهذا السلوك اوجد ياسر عرفات لنفسه الكثير من العداوات والاعداء , وهو من الذين يحبون ان يقال عنهم اقاموا الدنيا واشغلوا الناس , يحبون الشهرة ولو كان ضحية من ضحاياها , وقيل عنه انه المسؤول عن عدم وجود شخصية يمكنها ان تخلفه بعد رحيله , وقيل انه كان يحطم من يقترب منه وينافسه.
قال هذا نفر من الذين عملوا معه سواء في منظمة التحرير الفلسطينية او في السلطة او في تنظيم فتح, كان ياسرعرفات على الدوام يمثل المشكلة وحلها.
لا اظن ان احدا ينكر حتى اشد الناس خصومة له , انه اكثر القادة والزعماء الفلسطينيين منذ نشأة القضية الفلسطينية وحتى يومنا هذا , له بصمات واضحة على القضية , فهو الوحيد الذي استقبله جميع زعماء وقادة ورؤساء العالم استقبالا ارتقى في كثير من الحالات الى مستوى استقبال الروساء العالميين , وهو الزعيم الوحيد الذي عقدت هيئة الامم المتحده جلستها في جينيف بسويسرا حينما رفضت الولايات المتحده الامريكية منحه سمة دخول الى اراضيها لحضور اجتماع الامم المتحده في نيويورك . وربما كان الوحيد من قادة المقاومه العالميين الذين تلقوا الدعوة من الامم المتحده , وسمح لمنظمه التحرير الفلسطينية بدخول هذه الهيئة العالمية بصفة مراقب , وان يكون لها عضو فيها يتمتع بحصانة دبلوماسية.
قد يكون من الملفت للنظر اهتمام الرئيس الفرنسي انذاك ” جاك شيراك ” بمرض ياسرعرفات , فأرسل له طائرة خاصة لنقله الى فرنسا وعلاجه في واحد من اشهر مستشفياتها العسكرية , وتعيين حراسة كافية تتصدى لأي محاولة محتملة لايذائه والاعتداء عليه , ثم قام بنفسه بزيارته في المستشفى للاطمئنان عليه.
ونقول اخيرا بأن ياسر عرفات ظل متمسكاً بكثير من الثوابت الوطنية والاساسية المتعلقه بالقدس وضرورة ان تكون عاصمة للدولة الفلسطينيه وكان ذلك في كامب ديفيد عام 2000م ودفع حياته ثمنا لهذا التمسك, ولكن ذلك لا يمنعنا من توجيه النقد له , فقد اثبتت الاحداث الكثير من اخطائه , واظهرت الكثير من المآخذ على منهجه, وهذا موضوع سبق ان تعرضنا له في عدة مقالات, وهي انتقادات علمية موضوعيه لا تعني انني – لاسمح الله – متحامل عليه , بل اني – كما سبق القول – اعزه واقدره ولا اشك في وطنيته قيد انمله, وادعوا الله ان يتقبل شهادته, كما كان يقول رحمة الله عليه ” يريدوني إما اسيرا ً وإما طريدا ً إما قتيلا, فأقول.. بل شهيدا ً.. شهيدا ً.. شهيدا”.