ضياع الهوية وإعادة اكتشافها | صحيفة السفير

ضياع الهوية وإعادة اكتشافها

خميس, 25/02/2021 - 16:50
د. عبد الحي زلوم

كانت بلاد فارس والدولة العثمانية، ومن ضمنها الوطن العربي، يعيشان خارج عصرهما قروناً من الزمن البعيد، كما كانا كالحمير يحملان اسفارا ً لا يفقهونها. كان لهما هوية اسلامية جامعة للهويات  الفرعية من قوميات واثنيات وطوائف. لكن احداث الربع الاول من القرن العشرين لم تبقِ حالاً على حال.
يمكننا تقسيم القرن العشرين الى أربعة أرباع او مراحل مرّت خلالها الحركات والحياة  السياسية والاقتصادية  والاجتماعية في منطقتنا بتماثل الى حد بعيد بين الكيانات الوليدة في الربعين الثاني والثالث، لكن بدأ الاختلاف في الربع الرابع والاخير من التماثل الى التناقض ليُطل علينا الربع الاول من القرن الواحد العشرين بنماذج متناقضة.
***
الربع الاول:
كانت الدولة العثمانية الرجل المريض ولم يمنع من سقوطها سوى عدم اتفاق الدول الاستعمارية على تقسيم الغنائم. وكان الامر كذلك بالنسبة للدولة القاجارية في بلاد فارس فتم خلال الحرب العالمية الاولى الاتفاق على تقسيم الغنائم بطريقة تآمرية قسّمت الجغرافيا الى مناطق نفوذ محددة للدول الاستعمارية الغربية والتـي قامت بدورها بتشكيل كيانات وانظمة من القبائل والعوائل اكثرها لا يملك مقومات دولة،  وهؤلاء إمّا انهم يمشون امواتاً اليوم أو انهم في غرف الانعاش.
بعد تقسيم الجغرافيا جاء دور تزييف التاريخ وطمس الهوية الجامعة وبناء جيل مغسول الدماغ فاقد للهوية. كان هذا الهدف عنوان الربع الثاني من القرن العشرين. وسرعان ما تبيّن لمن تحالف مع المستعمر ابان الحرب سواء عن طمع او سذاجة انهم استبدلوا الجرب بالطاعون!
***
الربع الثاني:
تم التحضير لهذه المرحلة بتلميع ثم تمكين اثنين من العسكر من الاستيلاء على الحكم في بلديهما ، الاول مصطفى كمال اتاتورك  والذي لم يقم بإلغاء الدولة الاسلامية العثمانية والخلافة سنة 1924 فقط ولكنه قام بعملية تغريب قسري ، فمنع الاذان وشرّع قراءة القرآن بالتركية فقط، وغيّر الكتابة من الحروف العربية للاتينية، ومنع الزي الاسلامي بما في ذلك الحجاب . كما بدء تزييف التاريخ بشكل معاد للعرب والاسلام ، وغيّر اسم ما تبقى من الدولة العثمانية الى تركيا. أمّا العسكري الثاني  فكان رضا بهلوي والذي انقلب على القاجار في بلاد فارس سنة 1921 ‏ثم نصّب نفسه ملكاً (شاه) سنة 1925  والذي سار على خطى اتاتورك لدرجة انه امر جنوده بنزع الحجاب عن رؤوس النساء بحراب بنادقهم ، كما غير اسم بلاد فارس الى ايران.
كانت مهمة هذه المرحلة انشاء وتثبيت هياكل الكيانات الوظيفية الجديدة . ‏كانت وظيفة الانتداب البريطاني  في  فلسطين إنشاء دولة لليهود حسب وعد بلفور فكانت الوكالة اليهودية  والتي جاءت مع جنود الجنرال اللنبي لاحتلال فلسطين  لتصبح دولة داخل الدولة ‏حتى قبل اشهار الدولة العبرية رسمياً، وكان التنسيق بينها وبين كيانات النظام الرسمي العربي مستمرا منذ نشأة الكيانات وحتى اليوم عن طريق مشغّليهم وراء البحار!
في الوقت نفسه ‏كانت عملية طمس الهوية وغسيل الادمغة في برامج التعليم على قدم وساق لإنشاء جيل جاهل بتاريخه ووطنه ودينه. انا وُلِدْت بمنتصف هذا الربع الثاني. تم تدريسنا تاريخ العبرانيين بفلسطين ودرسنا مجلدات عن العصر الجاهلي وعصر الانحطاط. عندما سألت استاذي ما معنى الانتداب البريطاني لفلسطين تلعثم المسكين وقال انها فترة حكم الانكليز لتُعلمنا حكم انفسنا بكفاءة ،مع ان عصبة الامم عرفته بأنه الفترة الانتقالية لتأهيل اقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وهكذا تم غسيل دماغ جيل كامل يجهل كل شيئ عن تاريخه وحضارته ودينه، فأصبحت هذه الاجيال  وما زالت قطعاناً كالغنم خصوصا وانه تم تغليب الهويات الفرعية على الهوية الجامعة .كما تم تغييب مؤسسات المجتمع المدني وتشجيع العشائرية عوضاً عن المؤسسية عدى مؤسستي الفساد و الجيوش التي كانت مهمتها الحفاظ على وظيفة النظام لا الاوطان، لذلك لم تربح تلك الجيوش اي حرب ضد اعداء الوطن  لكنها نجحت في قهر شعوبها.
في نهاية هذا الربع تعلّم  الجيل من مغسولي الدماغ ان قطعة قماش صممها الاستعمار لكل كيان، وان الحدود التـى رسمها الاستعمار في الهواء والصحراء اصبحا في غاية القداسة يستحق المرء ان يقتل الاخ اخيه بالدفاع عنها لا لإزالتها. وأفتى وعّاظ السلاطين ان طاعة من نصبهم الاستعمار عليهم هي من طاعة الله‫. ‏
 أثناء  دراسات خلال  الحرب العالمية الثانية من اصحاب النظام الرأسمالي العالمي  تم اقرار نقل امبراطورية الساكسون من بريطانيا  الى الولايات المتحدة ،وأن  وسائل الاتصال الحديثة تسمح  بادارة نهب ثروات الشعوب عن بعد واسْتُبدل الاستعمار المباشر بغير المباشر عن طريق الوكلاء  فتمّ اعطاء استقلال اسمي للدول المُستعمَرَة ، واصبح النهب عن طريق الوكلاء بمساعدة مؤسسة الفساد في كل قطر مدعومة بجحافل من الطابور الخامس الذي زرعه الاستعمار في كل مستعمرة. وفي نهاية ربع هذا القرن الثاني تم اعلان دولة اسرائيل بعد حرب مسرحية من نظام عربي وظيفي متآمر  .
***
الربع الثالث:
لو أردنا اختصار هذه الحقبة بكلمتين لقلنا انها كانت (صراع الهويات). برز في بداية الربع الثاني حركة جماعة الاخوان المسلمين في مصر وانتشرت الى بلدان اسلامية اخرى بل وحَضَرْتُ مع والدي حفل انطلاقها بالقدس منقولا من الاذاعة الفلسطينية ايام الانتداب البريطاني (ومديرها العام بريطاني). كما برزت في نهاية  الربع الثاني  حركات قومية كان اكثر قادتها في بداياتها من الاقليات  الدينية او الاثنية و من خريجي جامعة السوربون بفرنسا او الجامعة الامريكية في بيروت. كان من اهم الحركات القومية العربية  حزب البعث  والذي أسسه ميشيل عفلق خريج جامعة السوربون ومن الطائفة الارثوذوكسية، و زكي الارسوزي وهو ايضاً من خريجي جامعة السوربون ومن الطائفة العلوية. أما انطون سعادة مؤسس الحزب القومي السوري  فكان  من خريجي الجامعة الامريكية في بيروت والتي اسسها القس دانيال بليس في منتصف القرن التاسع عشر  لنشر القومية العربية، في الوقت نفسه الذي تم تأسيس كلية روبروت في تركيا لنشر القومية الطورانية. يجب عدم النظر الى سرد هذه الحقائق بأكثر من انها حقائق ، خاصة اذا تم بناء شخصية هؤلاء وخلفيتهم العلمية والثقافية في مؤسسات غربية لها اجندتها  الخاصة.
***
الربع الثالث:
اذن بدأ الربع الثالث بالصراع ما بين الفكر القومي والاسلامي. كذلك بدأت الاحزاب الوليدة تأخذ موقفاً من الفكر الاقتصادي بين رأسمالية واشتراكية . كانت  مصر وايران وتركيا تمثّل الثِّقل السكاني والسياسي في منطقة الشرق الاوسط. نشأ في مصر حركة الضباط الاحرار وانقلاب 23/يوليو/1952 والذي تحول الى ثورة مع الايام و وكان هناك تحالف محمد مصدق الوطني  في ايران والذي أمم النفط الايراني سنة 1951. ساندت الولايات المتحدة سراً كلتا  الحركتين. كان السفير الامريكي على اتصال دائم مع مصدق بل وساند تأميم النفط لأسباب مختلفة ، فبينما اممه الايرانيون لأن الانجليز الذين امتلكوا 100% من شركاته  كانوا يقدمون الفتات للايرانيين من ايرادات نفطهم  وكان الامريكيون يريدون خلط الاوراق لاخذ نصيبهم من نفط ايران  وهذا ما حصل بالضبط حيث انه بعد انقلاب الCIA و الMI6  على مصدق تم توزيع النفط مناصفة بين بريطانيا والشركات الامريكية. اما في مصر  فلم ينكر الضباط الاحرار بقيادة جمال عبدالناصر اتصالهم  بالسفارة الامريكية بالقاهرة لاخذ مباركة الولايات المتحدة  على انقلابهم ، بل وكان عميد  الCIA كيم روزيفيلت هو نقطة الاتصال بعد قيام الثورة وهو نفسه من قاد حركة  الثورة المضادة ضد مصدق من قبوٍ في احدى عمارات طهران .
 كان هدف الضباط الاحرار بمصر محدوداً بجلاء القوات البريطانية عن مصر وهو ما شاركته مع الولايات المتحدة والتي كانت تهدف لضم مصر مع ايران وتركيا الى احلافها العسكرية وهو امر رفضه الضباط الاحرار بمصر والذي بدأ انقلابهم يتحول الى مشروع ثورة سياسية اقتصادية واجتماعية ، لكنه كان مشروعاً غير مكتمل  يتراوح بين الصواب والخطأ القاتل احياناً .  وتطور المشروع الوطني المصري الى مشروع قومي. لم يكن للقيادة المصرية آنذاك الكفاءات الادارية لإدارة طموحاتها السياسية كالوحدة والاقتصادية كالاشتراكية بل والاجتماعية كبرامج الاصلاح الزراعي والتي ساندنها الجماهير العربية. الا أن النظام الشمولي والتركيز على الولاء قبل الكفاءة كان سبباً في الهزائم العسكرية القاتلة . وكان من آثار الشمولية ان نصَّبَ عبدالناصر المريض بالضغط  والسكر انور السادات نائباً له في وقت  كان السادات  يتقاضى راتباً من مدير المخابرات السعودية كمال ادهم وثيق الصلة بالCIA  فمسح السادات انجازات نظام جمال عبدالناصر بسهولة  بعد وفاته .
اصطدم جمال عبدالناصر مع الاخوان المسلمين وقام بحلهم والتنكيل بهم فهاجر الكثير منهم الى دول تعادي مشروع عبد الناصر كالاردن والسعودية وقطر والمشيخات العربية المتصالحة ( والتي اصبحت الامارات العربية المتحدة بعد الاستقلال بداية السبعينات).
كانت هزيمة 1967 النكراء  بداية مرحلة الضياع  وانحسار المد القومي العربي. استعمل ( الرئيس المؤمن) محمد انور السادات جماعة الاخوان المسلمين  لشطب كل انجازات جمال عبدالناصر وتكوين قاعدة شعبية لينطلق من خلالها الى المفاوضات المباشرة مع العدو الاسرائيلي  ثم الى اتفاقية الصلح معه في اتفاقية كامب ديفيد . كان الاخوان المسلمون هم القوة الوحيدة  القادرة  على وقف مسيرة الاستسلام ( والسلام ) مع العدو لكنهم لم يفعلوا ذلك. ومع ان المد الاسلامي قد بدأ يحل محل المد القومي بقيادة الاخوان المسلمين الا ان قيادتهم كانت دائماً متصالحة بشكل او بآخر مع النظام الرسمي العربي والذي كان يستعمل الجماعة حينما يجد في ذلك مصلحة له ويضطهدها حينما يرى عكس ذلك . واقل ما يقال ان قيادة هذه الجماعة لم تكن ناضجة، وآخر الامثلة هي عدم تحالفهم مع القوى الوطنية اثناء الربيع العربي في مصر بل وتحالفهم مع المجلس العسكري  مما كان له اثر في انحراف حركة الربيع العربي المصرية عن مسارها.
وُلدت حركة التحرر الوطني الفلسطيني في منتصف هذا الربع  الثالث وكان مقتلها هو شمولية قيادتها بل وتحالفها مع انور السادات بتنفيذ توجيهات كيسنجر بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية بمؤتمر الرباط سنة 1974 كممثل شرعي وحيد وبهذه الشرعية الوحيدة تنازلت عن 78% من فلسطين  ثم قبلت ان تكون ال 22% الباقية كيانا منقوص السيادة بتوقيع اتفاقية اوسلو والتي مكنت دولةالاحتلال لهضم اكثر من نصف هذه ال22% بمستوطنات جديدة اصبح عدد مستوطنيها اليوم اكثر من 600 الف.
***
الربع الرابع:
كانت سنة 1979 سنة فاصلة ففيها تم حدثان غيّرا خريطة المنطقة السياسية . فكانت اتفاقية كامب ديفيد بداية لحركة طويلة من التنازلات كان نتيجتها ان العدو السابق لمصر اصبح الذخر الاستراتيجي لها كما وصفه العدو نفسه. أما الحدث الثاني فكان عكس ذلك تماماً حيث قامت الثورة الاسلامية في ايران والتي كانت الذخر الاستراتيجي لاسرائيل ايام الشاه لتصبح العدو الاستراتيجي له بعد قيام  الجمهورية الاسلامية الايرانية. وفجأة اكتشف (اصدقاء) امريكا ان ايران هي دولة شيعية وكأنها لم تكن كذلك أيام الشاه حينما كان كلب حراسة الخليج . وقامت حرب الثماني سنوات العراقية ضد ايران الاسلامية بعدما تذكر القوميون ان الثوار الايرانيين هم من المجوس، تبعها مصيدة الكويت والتي مهدت لقدوم نصف مليون جندي امريكي تحالف معهم حزب البعث السوري ضد حزب البعث العراقي .  حينها قال وزير الخارجية الفرنسي (وداعاً يا قومية عربية)!
المآسي التي تلت من الغزو الامريكي للعراق، وخيانة اوسلو، والحرب الكونية على سوريا والمقاومة معروفة للجميع لجيل هذه الايام. لكن الثورة الاسلامية الايرانية وبالرغم من كل العقوبات والحصار فقد تمكنت من خلق ثورة علمية مشهود لها من العدو قبل الصديق في كافة المجالات سواء في العلوم الطبية او العسكرية او الفضائية او النفطية او الذرية ، مع قيامها  بمقارعة وحيد القرن الامريكي بندية وحرفية سياسية يموت غيظاً منها العدو الاسرائيلي وحلفاؤه القدامى والجدد.
والسؤال الذي نترك اجابته للقرّاء هو: ما الذي نقل ايران من كلب حراسة أيام الشاه الى قوة اقليمية ترعى مصالحها وتتحالف بندية مع محور عالمي صاعد وتقود محور مقاومة بعدما أصبحت  جمهورية اسلامية ايرانية، لعلنا نتعلم من ذلك شيئاً يُنير لنا الطريق؟