يكاد يكون الدعم الحكومي للمواد الأساسية في بلادنا من البديهيات، وكأنه جزء من النظام السياسي والاقتصادي للحكومات التي تعاقبت على البلد، فدعم المواد الغذائية والطاقة كان في صلب الخطط الحكومية.من أجل شراء السلم الأهلي
أما تبرير هذا الدعم الحكومي والذي غالباً ما يكون بلا تخطيط أو سياسات واضحة ومحددة، فهو يهدف إلى تمكين الفئات الأقل دخلاً من الحصول على السلع والخدمات الأساسية عبر خفض أسعارها. وخفض الأسعار يتم عبر تسديد خزينة الدولة للفارق بين السعر الحقيقي والسعر الذي يُحدَد له على أساس مداخيل الطبقات الدنيا والفقيرة والتي ترزح تحت خط الفقر.
وتقوم الحكومات بإرضاء جزء كبير من شعوبها عبر خفض الأسعار بواسطة أموال الخزينة، وهنا ندخل في المعنيَين السياسي والاجتماعي لهذا التدبير. فرجل السياسة الذي يدعو إلى زيادة الدعم الحكومي يجذب الجماهير إليه ويصبح محبوباً و"أبو الفقراء" الذي يشعر بمعاناتهم، أما صاحب الرؤية المعاكسة والذي يرى في الدعم الحكومي فائدةً موضعية وضرراً ممتداً على الاقتصاد العام، فسيلقى نقمةً شعبية وسيُتَهم بالرأسمالية ودعم البرجوازية.
وفي بلادنا وعبر العقود الماضية، يمكن إيجاد عشرات الأمثلة عن هذين النوعين من السياسيين، لكن في كل الأحوال فإن الدعم الحكومي عندنا ليس آليةً لحفظ التوازنات الاجتماعية وتقليص الفوارق في الدخل بما يمكّن من الانتعاش الاقتصادي الشامل ويحقق تقارباً في مستويات الدخل لدى أغلب الفئات الاجتماعية المتوسطة والقليلة الدخل، بل هو أقرب ما يكون إلى محاولة "لتنفيس الاحتقان الشعبي" أو من أجل تحقيق مكاسب انتخابية أو لشراء السلم الأهلي قبل أن ينتفض "الأهالي" بسبب الفروقات الطبقية.
ومن وجهة نطري الشخصية أرى أن الدعم الحكومي للمواد الأساسية يفتح الباب واسعاً أمام المحاباة واستغلال النفوذ والمحاصصات بين الفرقاء السياسيين والتجار ورجال الأعمال والمصرفيين، خصوصاً أن تحديد القطاعات المدعومة والجهات المستفيدة ودرجة استفادتها، كلها إجراءات إدارية محفوفة بمخاطر الرشوة والتأثير واستغلال النفوذ والفساد المالي
فعلى سبيل المثال في حال أصيبت قطاعات اقتصادية في الدولة بعجز ما، بسبب أزمة طارئة، فإن تحديد الأولوية للدعم الذي يجب تقديمه غالباً ما تكون دونه صعوبات، ناتجة من تشابك المصالح والنفوذ الذي يتمتع به عادة الفاعلون الاقتصاديون وعلاقاتهم المتشابكة عادةً مع الساسة والأطر الإدارية. فللمواد الأساسية عوالمها الهرمية التسلسلية في الأنظمة الحاكمة، فهناك المواد الغذائية وهذه بدورها تنقسم بين الطحين والحليب والسكر والأرز وغيرها، وفي كل قطاع منها دائرة كاملة من التحاصص،، وهكذا يدخل قرار الحكومة بدعم المنتجات في هذه التركيبات والعلاقات القائمة والثابتة داخل الإدارة، فتكون السطوة للأقوى ولأصحاب النفوذ، وهذا ما يؤدي إلى صراعات خفية وإلى رشاوى متبادلة وإلى فساد عميم،وتكون
الفائدة لمَن لا يحتاجها، فمثلاً يؤدي دعم مواد غذائية معيّنة من دون غيرها إلى رواج منتجات معينة على حساب أخرى، ثم تكون استفادة الطبقات الفقيرة من هذا الدعم أقل من الطبقات الثرية، فالفقراء يحتاجون الدعم لكنهم لا يملكون السيولة المادية للشراء فيشترون الكمية الأقل بينما يستفيد أصحاب الأموال من الدعم على الرغم من عدم حاجتهم له، والأمر نفسه ينطبق على دعم قطاع الطاقة، إذ إن أصحاب القصور والمنازل الكبيرة والمصانع والسيارات الفارهة يستفيدون من دعم الطاقة أكثر بكثير مما يستفيد منه أصحاب الدخل المنخفض.
لذلك نجد أن النسبة الكبيرة من مخصصات الدعم تذهب لصالح الفئات الأقل حاجة إليها. ومن هنا جاء خطاب رئيس الجمهورية اليوم من أجل
إستحداث آلية وطنية
لاستيراد المواد والسلع الأساسية للمواطن بأسعار مناسبة، بعيدا عن المضاربات، لتكون بذلك أداة تنظيم وعامل استقرار لسوق هذه المواد. كما وجهنا مندوبية "تآزر" بتوفير السلع بالكميات المطلوبة في جميع محلات البيع المدعومة، وألزمنا الحكومة بالمحافظة على القدرة الشرائية للمواطنين الأكثر فقرا بصرف النظر عن تكلفة ذالك .وأشير هنا أن علي تآزر أن تنشيئ قاعدة بيانات لإعداد لوائح على قاعدة الرقم الوطني تمكن من تحديد المستفيدين بالأسماء، وتزويدهم ببطاقات إلكترونية يُقدمونها عند شرائهم السلع المدعومة،كما أنه لا بد من تقليص الدعم الحكومي رويداً رويداً وصولاً إلى إلغائه، في مقابل إنعاش ودعم القطاعات المنتجة ودفع المواطنين إلى العمل في المشاريع المنتجة، بدلاً من الاعتماد على الدعم الحكومي الذي يشبه إعطاء الفقير سمكة بدلاً من تعليمه صيد السمك.