حرب عالمية بدون أمة ألمانية مسلحة شيء غير موجود في التاريخ، ويصعب تصوره على الخريطة الثقافية والعرقية والذهنية الأوربية.
ألمانيا اليوم موحدة - إلى حد كبير - وغنية ومتطورة، لكنها منزوعة السلاح خاضعة. ومما طُرح في الأوساط المختصة أن وراء النزاع القائم في المنطقة رغبة بعض الاستراتيجيين الروس والألمان في إنشاء قطب اقتصادي عسكري عملاق، وخوف أمريكا وبعض حلفائها التقليديين من ذلك. يحكى أن طائر البوم إذا هم بالطيران شرقا التفت غربا ! وفي بداية التسعينات قال أحد وزراء مارغريت تاتشر المفزوعين إن الألمان سيحققون بقوتهم الاقتصادية ما عجز عنه هتلر بقوته العسكرية.
اليابان أيضا أمة غازية صانعة للحروب، وحروبها حقيقية. لكنها منزوعة السلاح هي الأخرى خاضعة.
الترك أمة قتال وحرب، لكنهم فقدوا الإمبراطورية، ولم يصلوا مرحلة الأمة.
الإيطاليون هم الذين قال فيهم النازي الألماني، جوزيف غوبلز، إن آخر عظيم ستنتجه الأمة الإيطالية هو موسوليني ! ولم نر بعد سوى برلسكوني وأمثاله. إنها مقولة بدأت تخيفنا جميعا.
الإسكندناف والفايكينغ هذبهم البرد والترف والخوف من جيرانهم الروس.
وفيما يخص الصين، فليس للبشرية إلا أن تتفاءل بما قاله الأكاديمي الفرنسي المهتم بالظاهرة الصينية، آلان بيرفت، من أن الغزو الأجنبي لم يكن - تاريخيا - من المكونات الأساسية للذهنية الصينية.
أما الروس فإنهم لم يدخلوا الحربين العالميتين إلا اضطرارا، ونتيجة لحسابات دولية منبعها ألمانيا. حتى إن نابليون بونابرت اعترف بأن غزوه للروس لم يكن ضروريا، لأنه يعلم في قرارة نفسه أن الروس لا يرغبون في حربه إلا إذا اضطروا إلى ذلك. وأضاف نابليون أن لو كان وزير خارجيته العبقري تاليران ما زال موجودا بجانبه حينئذ لساعده ذلك في التراجع عن غزو الروس. ذلك أن تاليران هو الوحيد، من بين أعوان نابليون، الذي يستطيع أن يفهم أن تراجعه عن غزو روسيا ليس ضعفا من الامبراطور ولا جبنا، وإنما لقناعته بأن روسيا تريد الكرامة لا الحرب !
هذه النقطة بالذات ركيزة من الركائز التي قام عليها نظام بوتين، ويستبعد أن يتخلى عنها تحت أي ضغط.
ماذا فعل بوتين بروسيا؟حين وجد فلاديمير بوتين بلاده مبعثرة تائهة ومجتمعه يائسا، يتحكم فيه كل من هب ودب، لم يزد على أن وثق في نفسه، وأوصل تلك الثقة إلى جهاز الكي جي بي والجيش وبقية الأجهزة الكبرى. هنالك وثق المجتمع في نفسه وانطلق الإنتاج، وعادت الأحلام القديمة، كإيجاد منفذ على البحر الأبيض المتوسط، وآخر على المحيط الأطلسي، ولو عن طريق سوريا وغرب الصحراء الكبرى. فضلا عن استرجاع أوكرانيا السلافية الاورتودوكسية، حين يتسنى ذلك، وإلا فإيقاف وجود الناتو بشبه جزيرة القرم والبحر الأسود على الأقل. حتى جارتها الأخرى، فنلندا، والتي لا تربطها بالامبراطورية الروسية روابط عرقية ومذهبية وتاريخية، لن تتقبل روسيا وجودا لحلف الشمال الأطلسي بها.
عندما تثق القيادة في نفسها يثق المجتمع في نفسه ! والأمثلة على ذلك كثيرة، ومن أقربها تجربة جمال عبد الناصر في مصر.
لم يكن جمال إلا ضابطا وصل السلطة، وهو محدود التعليم، لا فكرة لديه. حتى القومية التي هي مذهبه لم يكن يستوعبها وقت وصوله إلى السلطة. لكن الرجل وثق من نفسه بشكل لافت وتعلم، فوثق المصريون في أنفسهم، بل تعداهم ذلك الى كثير من المجتمعات العربية والافريقية والآسيوية… هذا بغض النظر عن النتائج والحصيلة. الحديث هنا عن ثقة القائد في نفسه وتأثير ذلك - نفسيا وسياسيا - على الشعوب.
الراغبون الحقيقيون اليوم في مواجهة روسيا ثلاثة: أمريكا وبريطانيا وفرنسا، لكنها ما زالت مواجهة غير مباشر، وقد تبقى كذلك نظرا لغلاء الثمن. كما أن معركة هؤلاء، كما هي معركة الروس والصين، عبارة عن معارك اقتصادية، من المستبعد أن يتجاوز صوت السلاح فيها الحد الأدنى من اللياقة.