منذ أن شرع الله الحج إلى بيته الحرام والناس يتسابقون إلى بذل العمل الخيري في أطهر بقاع الأرض وقبلة المسلمين مكة المكرمة وخصوصاً في موسم الحج والذي يتسابق فيه الموسرين إلى تقديم كل ما فيه خدمة للحجاج من مطعم ومشرب وإرشاد، وقد كانت قريش منذ عهد الجاهلية تعظم البيت الحرام وتكرم وافديه حيث كان ذلك يسمى بالرفادة وهي من الأمور العظيمة التي كان أهل مكة يقومون بها أثناء موسم الحج، فقد كانوا يجمعون من كل شخص من بينهم المال بقدر طاقته إلى أن يُجمع مالاً عظيماً، وبه كانوا يجهزون للحجاج الطعام فلا يزالون يطعمون الحجيج إلى أن ينتهي موسم الحج.
أول من قام بهذه الأمور هو هاشم بن عبدمناف، وكانت السقاية ملازمة للرفادة لتهوين مشاق الحج وعنائه على الحجيج، أما الوظائف الأخرى في خدمة الحرم المكي فكان معظمها يجنح إلى صفة التنظيم الداخلي بين قادة مكة، ولم يكن له علاقة بالحجيج مباشرة وهي: السقاية وكانت في بني هاشم، والسدانة وتشمل اللواء والسدانة والحجابة والندوة وكانت في بني عبدالدار، أما الراية وهي راية قريش في الحرب وتسمى العقاب فقد كانت في بني أميّة والرفادة كانت لبني نوفل والمشورة كانت لبني أسد والأشناق وهي الديات والغرم فقد كانت لنبي تيم، والقبة والأعنة وهي تجهيز الجيش فـالقبة سرادق كانوا يضربونها ثم يجمعون إليها ما يجهّزون به الجيش، أما الأعنّة فما كان على خيل قريش في الحرب وكانت في بني مخزوم والسفارة كانت في بني عديّ، والأيسار وهي الأزلام التي يستقسمون بها قبل القيام بأي أمر يرونه خطيراً فكانت في بني جُمح والمُحْجَرة وهي الأموال التي خصّوا بها آلهتهم كانت في بني سهم.
وفي عصر الاسلام والى يومنا هذا فقد زاد الاهتمام بالعمل الخيري في الحج وبات الكثيرون يقدمون خدمات جليلة للحجاج تتمثل في تقديم كافة الخدمات التي يحتاجها الحجاج وخصوصاً تقديم الطعام والشراب حتى أن من يحضر للحج ويكون غير قادر على إطعام نفسه وسقياها يستطيع الحصول على ذلك دون مشقة لكثرة توزيعها في مشاعر الحج منذ اليوم الأول بل وقبله، وفي هذه الأيام بات سير العمل الخيري أكثر تنظيماً من ذي قبل بفضل التنسيق الذي تبذله الجهات المسؤولة حيث قضى على العشوائية والاجتهاد.
عين زبيدة
كان تأمين الماء للحجاج منذ القدم هو الشغل الشاغل للجهات التي كانت تشرف على الحج حيث كانت تبذل جهود جبارة من أجل إيصال الماء إلى الحجيج، وعمل بعض الموسرين على تأمين الماء للحجاج ابتغاء الأجر ومحبة في عمل الخير ومن أبرز من سعى في ذلك قديماً السيدة زبيدة بنت جعفر بن ابي جعفر المنصور زوج هارون الرشيد وابنة عمه التي لما بلغها معاناة سكان مكة وحجاج بيت الله الحرام من قلة المياه بعد حجها عام 86هـ، فقد أدركت زبيدة في أثناء حجّها مدى الصعوبات التي تواجه الحجاج خلال طريقهم إلى مكة من نقص المياه وما يعانونه من جرّاء حملهم لقرب الماء من تعب وإرهاق، وكان الكثير منهم يموتون جرّاء ذلك، لذا فقد أمرت ببناء بركة بمكة وجلبت إليها مياه عين من داخل حرم مكة إلا أن ماءها كان قليلاً ولم يف باحتياجات السكان، وحينئذٍ أمرت زبيدة جماعة من المهندسين بإجراء مياه عيون الحل إلى مكة على الرغم من أن الناس في ذلك الوقت قالوا لها إن مياه الحل لا تدخل الحرم لأنها تمر بمرتفعات وجبال تمنعها، بيد أنها أصرت على عملها وبعثت بأموال عظيمة لتحقق هدفها، ومما تجدر الإشارة إليه أن المهندسين والعمال واجهوا أثناء عملهم جبلاً منعهم من إيصال الماء إلى مكة عند ثنية خل الواقعة على حدود حرم مكة بالقرب من أعلام نجد، لكن إصرار زبيدة على إنجاز مشروعها وما بذلته من أموال ساعد على تخطي ذلك الأمر الصعب، وتم لها ما أرادت، وكلفها ذلك المشروع مبلغ مليون وسبعمائة ألف دينار ذهباً، وقد أنفقت السيدة زبيدة الكثير من أموالها وجواهرها لتوفر للحجاج المياه العذبة والراحــــــة وتحميهم من كارثة الموت عطشا، وبعد أن أمرت خازن أموالها بتكليف أمهر المهندسين والعمال لإنشاء هذه العين أسرّ لها خازن أموالها بعظم التكاليف التي سيكلفها هذا المشروع، فقالت له: (اعمل ولو كلفتك ضربة الفأس دينارًا)، وقد بلغ طول هذه العين عشرة أميال تقريبًا أو ما يعادل ستة عشر كيلو مترًا، ولما تمّ عملها اجتمع العمال لديها وأخرجوا دفاترهم ليؤدوا حساب ما صرفوه وليبرّئوا ذممهم من أمانة ما تسلموه من خزائن الأموال، وكانت السيدة زبيدة في قصر مطلٍّ على دجلة فأخذت الدفاتر ورمتها في النهر، قائلة: (تركنا الحساب ليوم الحساب) فمن بقي عنده شيء من المال فهو له ومن بقي له شيء عندنا أعطيناه، وألبستهم الخِلَع والتشاريف، وفي عهد الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - ومنذ ضمه لمكة المكرمة عام 1343هـ بدأ عهداً جديداً من الأعمار والإصلاح لعين زبيدة وقنواتها وبركها والأسبلة والخزانات المرتبطة بها، فازدادت كمية المياه عما كان سابقاً، وظهر لأول مرة في التاريخ أن القناة التي أسست منذ أكثر من (1200) سنة غير قادرة على استيعاب كمية المياه الإضافية مما يعد تطوراً في تاريخ عين زبيدة، وقد ظهرت أثاره بزيادة كميات المياه الواردة إلى مكة المكرمة لسقيا سكانها وحجاج بيت الله الحرام.
مساعدة الطريق
لم يقتصر العمل الخيري في تقديم الخدمة للحجيج في مكة المكرمة والمشاعر بل تعدى ذلك قبل وصول الحجيج إلى الديار المقدسة حيث كان الحجيج قديماً يقطعون الطريق لعدة أيام وربما امتدت إلى أشهر وسنين بحسب بعد المسافة وكانوا في هذه المدة بحاجة إلى من يساعدهم لبلوغ مرادهم حيث تنفذ المؤونة من عدد كبير منهم لذا فقد كانوا يتلقون المساعدة من أهل القرى التي يمرون بها في بلادنا، إذ يسارع الناس في تقديم الطعام لهم والذي كان غالبه من التمور أو دقيق الحنطة، كما يقدمون لهم الماء العذب ليروي عطشهم، وكان هؤلاء الحجاج الذين يمرون بقرى بلادنا قديماً أغلبهم من الأعاجم الذين يحجون مشياً على الأقدام وأغلبهم من الهند وباكستان وما جاورها وكثيراً ما يتعرضون لنفاذ مامعهم من مؤونة فيبقى عدد منهم للعمل في بعض القرى في الطريق بأجر يدخره ليعينه على إكمال السفر إلى مكة، وأما من كان منهم ضعيفاً أو كبير سن لا يستطيع العمل فانه غالباً ما يتعرض للأمراض فيقوم أهل القرى التي يمر بها بمساعدته بما يتيسر ليتخطى خطورة المرض وقد خصص في أغلب القرى الكبيرة مكاناً ليؤي هؤلاء وهو عبارة عن غرفة ملحقة ببيوت أحد الموسرين وتسمى (بيت اللاعي) تراه قد أوقفها من أجل أن يحل بها هؤلاء الذين يتلقون المساعدة من أهل البلد بما يحضرونه من طعام وشراب وكساء وقليل من الدواء بحيث أنه إذا تحسن المريض فإنه يغادر البلدة ذاهباً إلى مكة، ولكن الغالب أن كثير منهم تسوء حالته وتتردى فيموت قبل أن يصل إلى مكة أو أن يعود إلى أهله إذا أكمل حجه.
حمام الحرم
بلغ من حب البعض لتقديم العمل الخيري في مكة المكرمة المساهمة ولو بالقليل ولم يكن حب تقديم العمل الخيري مقتصراً على خدمة الحجيج والزوار والفقراء والمساكين بل تعدى ذلك إلى المساهمة في اطعام الحمام في الحرم المكي بل إن البعض قد أوقف أرضه أو مزرعته لهذه الغاية ومن الأمثلة على ذلك الوقف الذي وجد بحوطة سدير، وهو عبارة عن مزرعة أوقفت ابتداءً على هذا المصرف كما هو مثبت في الوثيقة التي حصل عليها الدكتور خالد بن هدوب المهيدب عن طريق الشيخ عبدالكريم بن محمد المنقور ونصها: (موجب تحريره اني موكل حمد بن علي المنقور على الارض المسماة الحويش المسبلة على حمام مكة يقبضها ويصرف ريعها على فقراء المناقير على نظره حتى لا يخفى قاله ممليه عبدالله بن عبدالعزيز العنقري وكتبه عن أمره عبدالله بن عبدالوهاب بن زاحم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم 17 صفر 1327هـ)، وفي عصرنا الحاضر فقد خصص مواطن وقفًا يعود ريعه لإطعام "حمام الحرم المكي"، الذي يسميه أهل مكة المكرمة بـ (حمام الحمى) والذي لا يجوز صيده في الحل والحرم، وأكد وزير الشؤون الإسلامية أن المواطن – الذي لم يكشف عن اسمه - قام بتسجيل الوقف بسجلات إدارة الأوقاف بديوان الوزارة، لافتًا أنه أراد من هذا الوقف إطعام الحمام ليبقى على قيد الحياة.
خدمات جليلة ينعم بها الحجاج منذ دخولهم المملكة.. وفي المشاعر تسابق محموم وأكثر تنظيماً لشرف خدمة ضيوف الرحمن
التوزيع الخيري
عندما يبدأ موسم الحج يتبارى الموسرون في تقديم الخدمات لحجاج بيت الله الحرام وعلى رأسها خدمة الإطعام حيث تنتشر في عدد من المواقع في مكة والمشاعر التي تقدم الوجبات اليومية الثلاث على الحجاج مجاناً وكل حسب استطاعته، فمنهم من يتفق مع صاحب مطعم يقوم بتأمين عدد من الوجبات توزع في المشاعر ومنهم من يكون لديه القدرة في استئجار محل كبير ويقوم بتأمين مطبخ متكامل ويستعين بعدد من العمال ممن يجيد الطبخ بأجر معلوم طيلة أيام الحج ويبدأ في توزيع الوجبات على الحجاج مجاناً طلباً للأجر والمثوبة، فيما يفضل البعض الآخر شراء منتجات معينة ويقوم بتوزيعها على الحجاج كشراء شاحنة تبريد عصيرات أو ماء ويتفق مع صاحبها أن تقف في منى أو عرفة وتقوم بتوزيع ما فيها حيث يكتب عليها كلمة (سبيل) ويتم توزيعها على من أراد في المشاعر، ولكثرة ما يتم توزيعه طيلة أيام الحج من طعام وشراب على الحجاج من قبل فاعلي الخير تظن أن الجميع يستطيع الحصول على ما يريد من طعام وشراب دون عناء البحث والدفع لمن يبيع، ولكن مع كثرة التوزيع وعدم التنسيق بين المتبرعين نجد أن هناك عدم تنظيم وتكدس لما يتم توزيعه في أماكن محددة فقط دون الوصول إلى المستحقين فعلاً.
تنظيم العمل
وظهرت الحاجة إلى تنظيم العمل الخيري والتطوعي بعد أن تزايد عدد الحجاج في السنوات الأخيرة، حيث بات من الأهمية بمكان الاهتمام بكل ما يقدم إلى حجاج بيت الله الحرام وذلك سعياً للقضاء على العشوائية والازدواجية ومن أجل ذلك جاءت فكرة إنشاء (لجنة السقاية والرفادة) كخطوة تبنتها إمارة منطقة مكة المكرمة في عهد الأمير عبدالمجيد -رحمه الله- لتنظيم عمل الجمعيات في المنطقة المركزية، ويشرف على أعمال الجمعية وكيل إمارة المنطقة حيث تتولى متابعة الوضع التنظيمي لعمل الجمعيات المتقدمة للمشاركة في مشروعات (الإطعام الخيري) وذلك من خلال وضع ضوابط العمل وشروط الوجبات المقدمة، الأمر الذي ساهم بجلاء في مواجهة التجاوزات وإظهار العمل الخيري بصورة مشرفة أمام قاصدي بيت الله الحرام، إذ تُعد مكة المكرمة مجالاً خصباً وميدان جذب لكثير من الجمعيات الخيرية، وذلك من بوابتين الأولى أنها قبلة الدنيا حيث قدسية المكان ومضاعفة الحسنات، فضلاً عن أنها مقصد المسلمين من كل بقاع الأرض، ويعمل داخل مكة طبقاً لتقديرات غير رسمية أكثر من (25) جمعية، لكن ثمة جمعيات أخرى تقدم إلى مهبط الوحي خلال مواسم الخير لتقديم خدماتها، ولا أدل من خصوبة الاستثمار الخيري في مكة المكرمة من أن جمعيات من محافظات خارج مكة اتجهت للاستثمار العقاري والخيري فيها، حيث يقدر حجم الإنتاج الخيري من الوجبات التي توزع يومياً في موسم الحج بالملايين.