منذ عام 2009، وهو العام الذي ساقني فيه القدر لأول مرة لعواصم، وقرى، وشعوب القارة الأفريقية، وحتى هذه اللحظة التي أخط فيها هذه السطور، وأنا في حالة ما بين الإيمان بما رأيته ، وضعف اليقين بما كنتُ مؤمنة به قبل عام 2009.، ففي أفريقيا تعلمتُ أن الإيمان ليس بالضرورة أن يعززهُ يقين، واليقين ليس بالضرورة أن تكون له جذور، والجذور ليست بالضرورة أن تكون صالحة، نعم هكذا هو قانون الحياة في أفريقيا التي غادرتها ولن تغادرني أبداً.
إن التاريخ وإن كان يُكتب بأنامل الأجداد إلا أن هناك من الأجداد من قاموا بقطع أنامل كانت تُحيك أروع ما يمكن أن يُنسج رداء تتحلى به أفريقيا بعد عقود من تكريس ثقافة الإنسلاخ من كل ما هو أفريقي. فكثيرةٌ هي المؤلفات التي إقتنيتُها وأنا أتجول بين العواصم الأفريقية، وكثيرة هي المواقف التي جمعتني بمختلف الأعراق، والطوائف، والقوميات، في قارة المستقبل، لأتأكد بعدها إلى أي مدى استحكمت تلك الأسس في نفوس الأفارقة، وتحولت إلى أحجار تُحركها الأهواء كيفما شاءت، إلى أن أصبحت قواعد لابد من إتقانها لكل من تسول له نفسه التعدي على الكرامة الأفريقية مع ضمان الإحتفاء به.
قد تكون العاصمة العاجية ” أبيدجان ” هي العاصمة الأفريقية الأولى التي أجهضتُ فيها جميع أفكاري القديمة وتولدت في نفسي قناعات جديدة أَضاءت لي الطريق إلى أفريقيا، فأبيدجان هي المركز الذي إرتكزت عليه لفهم حقيقة وجوهر ما جرى قديماً ويجري حديثاً في عموم وسط وغرب إفريقيا.
من كوت ديفوار تعرفت ولأول مره على ” فيليكس هوفويت بوانيي “*، هذه الشخصية الغائبة الحاضرة التي أحسست بوجودها رغم عدمه، ولمست طيفها وأنا في رحلتي من العاصمة الحديثة لساحل العاج “أبيدجان” إلى مدينة ياموسوكرا العاصمة القديمة التي إختارها “فيليكس بوانيي” في يوم من الأيام لتكون عاصمة لكوت ديفوار، لأجد إسم “فيليكس هوفويت بوايني” في الشوارع، والمدن، والقرى، والنوادي الرياضية، والمطارات، وفي عمق التاريخ الأيفوري، وجدت الحديث عن “فيليكس هوفويث بوايني” يثير التناقضات في أحاديث جميع من قابلتهم، ولا يمكن أن نتحدث عن “فيليكس هوفويت” بدون الحديث عن إستراتيجية ” فرنسافريك /francafrique” ومؤسسها “جاك فوكار”، أو كما يطلق عليه في كتُب التاريخ الفرنسي ” سيد أفريقيا في الأليزيه”. فلقد فرضت باريس إستراتيجية أطلقت عليها النخبة الأفريقية الوطنية في ذلك الوقت “إستراتيجية مُصغرة لاستغلال الدول الأفريقية”، أما من وجهة النظر الفرنسية المُعلنة فتقول باريس أن تلك الإستراتيجية هي عبارة عن شبكة تعاون بين باريس ومستعمراتها القديمة في أفريقيا، ولكن ما أدركه المواطن الأفريقي بعد ذلك من تطبيق تلك الإستراتيجية أن باريس تهدف من وراء تلك الإستراتيجية إلى الأتي :-
• ضمان وصول الموارد الأفريقية الحيوية مثل اليورانيوم، والنفط، والماس إلى باريس.
• زيادة القواعد العسكرية الفرنسية في أفريقيا.
• إجهاض أفريقيا من المناضلين الوطنيين، وذلك بدعم الأنظمة الأفريقية التي تقف حجر عثرة أمام التوسع الشيوعي.
وقد ظهر ذلك عندما إتهم الرئيس العاجي “فيليكيس هوفيت بوايني” الزعيم الغاني “كوامي نكروما” بتهديده للأمن القومي العاجي، وذلك بعد أن قام الأخير بدعم مملكة (*sanwi) التي كانت تنادي بالإنفصال عن كوت ديفوار، ومن جانب أخر أكدت كوت ديفوار أن الرئيس الغيني أحمد سيكو توري تلقى دعماً من الرئيس الغاني “كوامي نكروما”، مما دفع فيليكس هوفيت إلى تأسيس ما يسمى بـ “الجبهة الوطنية لتحرير غينيا”، وسمح “هوفيت فيليكس” للضباط العسكريين الذين نفذوا الإنقلاب على نكروما بإستخدام الأراضي الأيفورية كقاعدة تنسيق لتنفيذ مهامهم، ونجح الإنقلاب على الرئيس “كوامي نكروما” الذي كان ينادي بشعار “يجب أن تتحد أفريقيا”، أما في “لومي” توغو ، فقد قامت المُخابرات الفرنسية بالتعاون مع ” الكي دورسيه” أو” وزارة الخارجية الفرنسية” بدعم الجنرال “غناسينغبي أياديما” لقتل الرئيس الوطني لتوغو “سيلفانوس أوليمبيو”، الذي كان ينادي بحرية الشعوب الأفريقية، وبعده تقلد القاتل الحكم في توغو لمدة أربعين عاماً.
أما في نيجيريا فقد كان لــ “فيليكيس بوايني” دور في تأجيج التوترات السياسية التي كانت قائمة في إقليم بيافرا في نيجيريا، حيث وجدتها باريس فرصة لإضعاف المستعمرة البريطانية السابقة، فقامت فرنسا بدعم الإنفصاليين هناك، وعندما إنتصرت الدولة النيجرية على التمرد في جنوب شرق البلاد، عاد قائد التمرد “أوجوكو” إلى منفاه في كوت ديفوار، أما في أرض النزهاء “بوركينا فاسو” وفي عهد الرئيس الراحل ” توماس سانكارا” شهدتْ تلك الدولة ولأول مره اكتفاءا ذاتياً في الغذاء وصل لحد “الفائض الغذائي” مما اعتبره المُعاصرون لتلك الحقبة معجزة في دولة أفريقية فقيرة، هذا بالإضافة إلى إستغناء المواطنين البوركينابيين عن الملابس المستوردة وإكتفائهم بالملابس المحلية التي باتوا يصنعونها بأنفسهم، والإصلاحات السياسية والإقتصادية التي شهدتها بوركينا فاسو، وخوفاً من إمتداد تلك الإصلاحات لباقي العواصم الأفريقية، ووضع حد للشعارات التحررية التي كان ينادي بها الرئيس الراحل “سانكارا”، قامت المخابرات الفرنسية بالتعاون مع “فيليكس بوايني” بدعم المُعارض “جان كلود” الذي كان لاجئاً في ساحل العاج لتنظيم صفوف المُعارضة ضد نظام “توماس سانكارا“، خاصة أن باريس ترى بأن تحريك الخصم في أبيدجان أسهل وأقل خطراً من تحريكه في باريس، ونجحت إستراتيحية ( فرنسافريك /francafrique ) في التخلص من المُناضل “توماس سانكارا” على يد صديقه ” بليز كومباوري” الرئيس السابق لبوركينا فاسو، ويبدو لي اليوم أن فراره إلى ساحل العاج طلباً للأمان بعد الإنقلاب عليه في عام 2014 لم يكن وليد صدفة، وكأنما القدر يريد إخبارنا بأن كوت ديفوارالقديمة وبمن كان يرأسها ومن ورائه هي من أتت به إلى الحكم، وهي وبحلتها الجديدة من ستضمن أمنه وإن لم يعد رئيساً كما كان.
ينبغي الإشاره هنا إلى أهم المؤسسات الفرنسية “السرية” التي لعبت دوراً كبيراً في تمكين تلك الإستراتيجية وضمان نجاحها، كوكالة الوثائق الخارجية الفرنسية وجهاز مكافحة التجسس والتي كان يرمز إليها بالرمز”SDECE” / Service de Documentation Extérieur et de Contre-Espionnage، وباللغة الانكليزية Documentation and Counter-Espionage Service ، وهنا يجب عدم الخلط بين تلك الوكالة وبين المديرية العامة للأمن الخارجي في أفريقيا (DGSE/Direction Générale de la Sécurité Extérieure، والتي تهدف إلى مُتابعة الإستخبارات العسكرية البحته، والتي كان يرأسها في ذلك الوقت موريس روبرت، الذي لعب دوراً في التنصيب والإطاحة برؤساء أفارقة وفقاً للمصالح الفرنسية، وذلك بالتعاون مع مجموعة من المرتزقة أهمهم (جيلبير بورجيو) أو كما يسمى في أفريقيا “بوب دينار”، الذي إرتبط دوره بجميع الإنقلابات العسكرية التي شهدتها أفريقيا في ستينات وتسعينات القرن الماضي.
ترى بعض النخبة الأفريقية اليوم أن إستراتيجية فرنسافريك /francafrique ضعُفت ولم يعد لها وجود كسابق عهدها، خاصة بعد موت مؤسسها “جاك فوكار” ومُنفذها “فيليكس هوفويت بوانيي”، وانقضى ذلك الزمن الذي كان تصوّت فيه المستعمرات الأفريقية في الأمم المتحدة بصوت واحد لصالح باريس، ودليلهم على ذلك أن التواجد الفرنسي بجميع أشكاله سواء كان العسكري ،السياسي، والإنساني، قد إنخفض بشكل كبير، حتى المُعاهدات الأمنية وما تحتويه من بنود سرية تتم مراجعتها من كلا الطرفين الأفريقي والفرنسي.
إلا أنني أرى بأن ذلك غير صحيح إلى حد ما، فاستراتيجية “فرنسافريك” تعتبر ضرورة إستراتيجية عليا للدولة الفرنسية، وأكبر دليل على ذلك أن باريس مازالت تدعم جبهة تحرير كابيندا أو ما تسمى سابقاً بـــ “الكونغو البرتغالية” ، التي تطالب بالإستقلال ، وسمحت لها بإفتتاح مكاتب تمثيل خاصة بها في فرنسا، هذا بالإضافة إلى الشركات الفرنسية الكبرى العاملة في أفريقيا مثل (أرافا /AREVA)، ومن جانب أخر أطلق قصر الأليزيه في عام 2015 مشروع (فرنسا أفريقيا) لتعزيز العلاقات بين فرنسا وأفريقيا على أساس الشراكة والنمو المستدام والشامل، وهو عبارة عن مؤسسة يرأسها رئيس الوزراء البينيني / الفرنسي السابق ” ليونيل زينسو” أو “رجل فرنسا في بورتونوفو”، والذي كان يعمل في ديوان رئيس الوزراء الفرنسي السابق “لوران فابيوس”، ومن الجدير بالذكر أن الرئيس البينيني الحالي “باتريس تالون” بعد أن نجح في الإنتخابات الرئاسية ضد “ليونيل زينسو” الذي تتهمه المُعارضة بإعادة شبكة أفريقيا الفرنسية، قام بإصلاحات سياسية منها تخفيض فترة تولى الرئاسه لتكون فترة واحدة فقط، على عكس القادة الافارقة الذين يجرون إصلاحات دستورية للبقاء في الحكم لأطول فترة ممكنة، كما أكد على خفض أفراد حكومته ليقتصر عددهم على سته عشر فرداً فقط، وأكد على مواجهته للتحديات التي تواجه البلاد في مجال التعليم، والبطالة، والصحة، ولكن إذا ما ثبت وتحقق ما نادى به الرئيس “تالون” من إصلاحات سياسية واجتماعية فأخشى أن ينتهي به الأمر قريباً إما بإنقلاب أو إغتيال يزيحه عن الحكم ولا عزاء للوطنيين في أفريقيا، وتبقى الكلمة الأخيرة للإرادة الوطنية الأفريقية التي صدقتها وأمنت بها عندما أعلنت ذات يوم وقالت: ” لن يستطيع أحدٌ أن يغير مجرى التاريخ في أفريقيا بعد الأن”.
ـــــــــــــ
* فيليكس هوفويت بوانيي: أول رئيس لساحل العاج، إمتد حكمه ثلاثين سنه 1960-1993، تقلد مناصب في الحكومة الفرنسية قبل أن يصبح رئيساً لكوت ديفوار، نجح في إرساء علاقات قوية مع باريس في مقابل معاداته للشيوعية.
* مملكة Sanwi: هي حركة إنفصالية في كوت ديفوار تتكون من عرقية الـــ ( Anyi أو Agnis) ، وهم فرع من قبيلة ” أكان” القبيلة الأشهر في غانا، ولكن بعض المصادر أشارت إلى تواجد قليل منهم في ساحل العاج.