تعاني موريتانيا من أزمة متعددة الأوجه، ناجمة عن انقلاب 2008، ويتجلى البعد الاقتصادي لهذه الأزمة في الفقر المدقع، والصعود المذهل للأسعار، والتدخل المباشر والعشوائي للدولة في الاقتصاد، وتدهور مناخ الأعمال، والانخفاض المستمر لقيمة الأوقية...
وتبقى هذه الوضعية جد محيرة في ظرف حصلت فيه البلاد في السنوات الأخيرة على تمويلات هائلة، ناهزت في الفترة 2010-2014 مبلغ 17,24 مليار دولار أمريكي من الموارد الخارجية، كما بلغت محاصيل الدولة في نفس الفترة ذروتها، إذ وصل مجملها إلى 1897,6 مليار أوقية.
وفي ظل الوضعية الكارثية التي يعيشها البلد حاليا، يحق لنا طرح التساؤلات التالية: فيم صُرفت كل هذه المبالغ الهائلة ؟ أيُمكن أن نتصور أن "الإنجازات" التي يطبل لها النظام في كل مناسبة، على الرغم من هزالتها، يمكن أن تبرر - لوحدها - صرف كل هذه الأموال ؟ لماذا تُصر السلطة على القضاء على بعض دوائر الاعمال، التي ساهم جزء منها في عملية بناء الوطن منذ الاستقلال، فحصل بذلك عل حيز من المعرفة والخبرة لا يقدر بثمن؟ لماذا ضاعت فرص استثمارية هامة من البلد؟
إن هذه التساؤلات وغيرها مما هو مرتبط بالتسيير الكارثي لهذا النظام، تشغل الرأي العام الوطني والمراقبين الأجانب؛ وعليه، فسنحاول الإجابة عليها أو على الأقل فيما يتعلق بالجانب المرئي منها، وما خفي أعظم...
خيارات غير مبررة
ظنا منه بأن الموارد الظرفية ستدوم، اعتمد النظام خلال طفرة 2010-2014 سياسات مالية توسعية تفتقد للحكمة؛ وينطوى هذا الخيار على عيبين أساسين يتعلقان برفع الميزانية العامة للدولة إلى مستوى لا يتلاءم مع الركائز الحقيقية للاقتصاد، وبالتخلي عن أي هامش للمناورة في مواجهة تقلبات السوق. ومن أجل إلقاء الضوء على هذه الخيارات التي لا تولى أي اعتبار للمصالح الحقيقية للبلد، نورد فيما يلى بعض الأمثلة:
لقد ارتمت الدولة في سياسة استثمارية يطبعها الارتجال، ولا تندرج في أي استراتيجية ذات مصداقية للتنمية، حيث تم تجاهل الحاجيات الحقيقية للبلد، فأضحت الأولويات تحدد حسب مزاج رئيس الدولة، والمشاريعُ تنفذ بدون دراسة مسبقة، أو بناءً على دراسات ناقصة، وتُمنح صفقات الأشغال العمومية "للوافدين الجدد" من المنتمين، حصريا، للمحيط العائلي لرئيس الدولة، في تجاهل تام لمعايير المردودية والمهنية، والذين لا هدف لديهم سوى الثراء السريع على حساب الدولة ولو كلف ذلك توقيف الأعمال أو إطالة أمدها للحصول على زيادة الكلفة. وفى المحصلة، فنحن أمام مشاريع إما مبالغ في تقييمها أو غامضة التصميم، ستمثل - إن هي أنجزت - عبئا إضافيا على ميزانية الدولة بسبب التكاليف المرتفعة لصيانتها في السنوات المقبلة، بدل أن تكون أداة تنمية أو مصدر ثروة؛ والأمثلة في هذا المجال كثيرة:
محطة نواكشوط الكهربائية الجديدة بطاقة 400 ميغاوات، التي تعجز عن توفير حاجة المدينة (150 ميغاوات)، حيث لا يزال المواطنون يعانون الانقطاع المتكرر للكهرباء، كما أن نقل الطاقة إلى السينغال الذي كان مقررا من هذه المحطة لم ير النور حتى الآن، وذلك بسبب عدم تطابق الكابل المسلم من طرف الشركة المغربية س.ج.ل.ك (CEGELEC) للمعايير الفنية؛ وقد تم اقتناء هذا الكابل، في ظروف غامضة، بقيمة 30 مليون يورو... إلا أنه بدل مطالبة الشركة المعنية بتوفير كابل مطابق للمعيار الفنية، فإن السلطات بصدد البحث حاليا عن تمويل لشراء كابل جديد!
المطار الجديد لنواكشوط المقدرة طاقة استقباله بمليوني مسافر سنويا، في حين أن حاجة البلد لا تتجاور 120 ألف مسافر للسنة، ناهيك عن الأضرار التي سببها هذا المشروع لقطاعات اقتصادية متعددة (قطاع العقار في نواكشوط، اسنيم، القطاع المصرفي، ...)
الاستصلاحات الزراعية التي أنجزت بدون دراسة وبطرق بدائية وأسعار خيالية (مشروع حفر قناة طوله 55 كلم، والذي يتخبط حاليا في مشاكل تقنية لا تحصى).
طرق حضرية وغيرها تنجز في غياب الخبرة والمهنية (تكاليف صيانة هائلة)، بدون برمجة مشاريع طرق ذات جدوائية حقيقية (طريق الأمل يتلاشى يوما بعد يوم، طريق روصو يتعثر، والجسر على النهر لم يبرمج حتى الآن).
خلال الفترة 2010-2014 كان التدخل المباشر للدولة في الاقتصاد مكلفا، وقد باءت تلك الساسة بفشل ذريع، حيث تضررت منها قطاعات حيوية كالنقل البري والنقل الجوي، والأشغال العامة، وقطاع صناعة الأغذية (الألبان والسكر ...إلخ).
تم إنشاء العديد من الهيئات والمؤسسات العمومية فى نفس الفترة، مما شكل عبئا كبير على الميزانية العامة للدولة؛ وقد حصل البعض منها على موارد مالية حتى قبل تأسيسها (منطقة نواذيبو الحرة، مدرسة المناجم، مصنع السكر، ...)، فهي كثيرا ما تنشأ لتبرير الإنفاق واغتنام الفرصة من أجل "توظيف" شخص ما ...
خلال الحقبة 2010-2014، ارتفعت الميزانيات المخصصة للتحويلات الجارية بشكل حاد جدا (حوالي 70 مليار أوقية سنويا).
تدهور مناخ الأعمال
في بلد لا يمتلك سوى مواد أولية محدودة، يجب أن تُنتهج استراتيجية لتنويع الاقتصاد حتى تساهم مصادر مختلفة من الإنتاج في إرساء النمو، ويكون البلد أقل عرضة لتقلبات الأسواق الدولية. ومن المعلوم أن القطاع الخاص يجب أن يلعب دورا أساسيا في هذه الاستراتيجية، إلا أن التدخل العشوائي للدولة في الاقتصاد أدى إلى تقليص دور هذا القطاع، كما صاحبت ذلك إرادة قوية لدى السلطات العامة لتدمير مناخ الأعمال في البلاد، ويتجلى هذا النهج من خلال:
مضايقة بدون هوادة لرجال الأعمال المنتمين للمعارضة أو المشكوك في "ولائهم" للسلطة والاستهداف الممنهج والمبالغ فيه لبعض الأوساط، مما يجعل مزاولة أي نشاط اقتصادي خاص من طرف مواطنين أو أجانب محفوف بالمخاطر، ويتسبب في نقل الأنشطة إلى الخارج وهروب رؤوس الأموال؛
الإصرار على إرساء طبقة جديدة من رجال الأعمال، تنتمى أساسا للمحيط العائلي المقرب لرئيس الدولة؛
عرقلة العديد من الفرص الاقتصادية الهامة كالاستثمارات أو تنفيذ مشاريع فى ظروف جيدة وبشروط ميسرة، بحجج واهية: إما لأن المعنِيَّ لم يكن متعاونا مع أصحاب القرار، أو لأنه غير سخي بما فيه الكفاية، وإما لأنه لم يختر أصلا "الشريك الوطني المناسب" ويرفض استبداله، وفقا لما يُملى عليه؛
الانتهاكات المستمرة للقوانين والأنظمة الخاصة بالحكامة الاقتصادية من قبل السلطات العليا للدولة، بغية توجيه أي نشاط اقتصادي لصالح مجموعة معينة؛ فهكذا تمنح جل المشاريع الممولة من طرف الدولة، في ظروف غامضة، لمقربين من السلطة، أما فيما يتعلق بالتمويل الخارجي فتحاول السلطات، في معظم الحالات، التدخل في الإجراءات لتوجيه تنفيذ المشروع لمصالح خاصة، لدرجة أنها تطلب صراحة من بعض الجهات المانحة إلغاء عقود سبق أن منحت لشركات وطنية أو أجنبية لا توافق هواها...
إن هذه الممارسات تؤدى إلى نتائج كارثية، نورد من بينها الأمثلة التالية:
لقد حصلت شركة اسنيم في الفترة 2010 – 2014 على 7 مليار دولار امريكي، جراء ارتفاع الأسعار العالمية للحديد، إلا أنها لم تقم بأي استثمار لتجديد أدوات انتاجها، ولم تسعى لرصد أي مبالغ تحسبا لانخفاض الأسعار، بل قامت بتبديد كل هذه الموارد في مشاريع غير مهمة أو مُبالغ في كلفتها، مما أودى بها في الأزمة الحالية، التى تمخضت عن إضراب عمالها ثم اضطرتها، لاحقا، للجوء إلي البنك الإفريقي والبنك الإسلامي لإنقاذها من التعثرات المالية التي تعانى منها، لكن بدون جدوى؛
كانت شركة "كلنكور" (GLENCORE)، متعددة الجنسيات، بصدد استغلال منجم الْعُوجْ ولمْتينيه لإنتاج حوالي 50 مليون طن سنويا من الحديد، كما كانت تنوي تمركز جميع أنشطتها بالقارة الإفريقية في موريتانيا، نظرا للمحفزات المرتبطة بالبنى التحتية لشركة اسنيم، كالقطار البالغ طاقته 94 مليون طن سنويا، في الوقت الذي لا ينقل سوى 12 مليون طن للسنة، وكذلك السكة الحديدية والميناء. وقد شمل عرض كلنكور تمويل خطوط السكة الحديدية الضرورية لاستغلال موقعيها على نفقتها الخاصة، ودفع مبلغ 16 دولار أمريكي لنقل الطن على متن القطار، إلا أن اسنيم عرقلت الفرصة لأسباب واهية، حيث كانت تماطل وتقترح أسعارا خيالية حتى غادر المستثمر البلد، في الوقت الذي كانت تتهاوى فيه الأسعار العالمية للحديد...؛
الشركة الصينية "هونغ دونغ" (HONG DONG) موجودة في موريتانيا منذ 2010، حيث تمنحها الدولة مزايا عديدة، في ظل ظروف غامضة، كالإعفاء من الرسوم أو الولوج إلي موارد الصيد حسب النظام العادى؛ وقد تم تقديمها هذه الشركة على أنها ستحدث ثورة في صناعة صيد الأسماك، كنموذج لإدماج هذا القطاع في الاقتصاد الوطني من خلال تحويل أسماك السطح محليا، وإحداث آلاف فرص عمل. إلا أن الشركة تنصلت تماما من التزاماتها، لتنغمس – بدون أي رادع – في صيد الرخويات، التي تم استبعادها من الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي بسبب استغلالها المفرط، وأسماك القاع، لتبيعها بأسعار مربحة جدا في الأسواق الدولية، في منافسة مفتوحة مع المنتجات الموريتانية، في الوقت الذي تمتنع فيه عن إعادة العملة الصعبة، الإجراءُ الذي يُجبَر عليه المنتجون الوطنيون مخافة تعرضهم لتسديد غرامات هائلة أو منعهم من التصدير؛ كما أن هذه الشركة تشترى المنتوج السمكي فى السوق المخصصة للصيد التقليدي، مما يمثل منافسة غير مشروعة للمنتجين الوطنيين. وبدل إرغامها على احترام القوانين والأنظمة المعمول بها في قطاع الصيد، والوفاء بالتزاماتها، فإن الحكومة عكفت على تعديل قانون الصيد سنة 2014، لتسهيل ولوج بواخر هذه الشركة للمناطق المخصصة للصيادين التقليديين! ويجب التنويه إلى أن نفس القانون تم تعديله سنة 2010 من أجل إعطاء نفس الشركة إذنا بنهب الثروات السمكية للبلد، باستعمال شبكات الصيد الجارفة (chalut à bœuf) المحرمة دوليا؛
بعد أن فازت الشركة السنغالية "سى.اس.اه" (CSE) بمناقصة طريق نواكشوط – روصو، تأخر المشروع بسبب ما وصف بأنه "نزاع" مع هذه الشركة، بدون أي توضيح من طرف الجهات المعنية. وبعد سنتين تمت إعادة المناقصة بالرغم من استياء الشركة الفائزة، ومُنح المشروع لشركة أخرى بمبلغ أزيد مما كانت تقترح الشركة السنغالية؛
الشركة المغربية "استام" (STAM) حصلت على صفقة بالتراضي بمبلغ 10 مليار أوقية لاستصلاح زراعي بين روصو واركيز، بأسعار خيالية (ما بين 3 و4 مليون أوقية للهكتار، في حين يحدد البنك الدولي من900.000 إلى 1.100.000 أوقية للهكتار)؛ وبعد انتهاء الأعمال لُوحظ أن الأراضى المستصلحة لا يُمكن ريها! ويجرى الحديث حاليا عن إعادة الاستصلاح من أجل جلب مياه للري...؛
لم يرى الخط الكهربائي لنقل 180 ميغاواط إلى السنغال النور بعد، نظرا لتراجع الوكالة الفرنسية للتنمية عن تمويله، بسبب المحاولات المشبوهة للسلطات الموريتانية التدخل في إجراءات الوكالة الخاصة بمنح الصفقات... وقد زار موريتانيا مؤخرا وفد سنغالي لمناقشة المشروع، إلا أنه عاد إلى بلاده خالي الوفاض؛
الشركة الفنلندية "ورتسيلا" (WARTSILA) حازت، في ظروف غامضة، على إنجاز محطة نواكشوط الكهربائية المزدوجة (الفيول والغاز)؛ ومن الملاحظ أن هذه الشركة متهمة من طرف منظمة الشفافية الدولية في تقريرها الصادر سنة 2012 تحت عنوان "تصدير الرشوة"، ومحكوم عليها بسبب الرشوة في كينيا من طرف العدالة الفنلندية سنة 2013، كما أنها متابعة حاليا من طرف الإنتربول (البوليس الدولي). وقد وجه هذا الأخير رسالة للسلطات الموريتانية تتعلق بصلة مسؤول موريتانيي رفيع المستوى بالتحقيق، ولم يرد أي جواب حتى الآن على هذه الرسالة؛
الشركة الصينية التى حازت على صفقة إنارة نواكشوط بالطاقة الشمسية تم إعفاؤها - بكل بساطة - من الكفالة المالية الضرورية للحصول على المبلغ المقدم في إطار تنفيذ المشروع؛ والكل يعلم أن ممثل هذه الشركة هو أحد أفراد أسرة رئيس الدولة؛
بحجة انعدام الكفاءة لدى القطاع الخاص الوطني، يُمنح العديد من الصفقات العمومية بالتراضي للهندسة العسكرية وشركة "آ.ت.ت.م" (ATTM)، والمؤسسة الوطنية لصيانة الطرق والشركة الوطنية للاستصلاح الزراعي والأشغال، التي تمنحها - بدورها - فورا لمقربين من النظام، بتعليمات من أعلى السلطات في الدولة؛
في إطار اتفاقية الصيد البحري الأخيرة، منح الاتحاد الأوروبي لبلادنا مبلغ 20 مليون يورو على شكل هبة من أجل تنمية القطاع الخاص؛ وبما أنها لم تجد وسيلة "لاستخدام" هذا المبلغ حسب هواها، أبلغت الحكومة الاتحاد الأوربي، على لسان الوزير الأول، بأن موريتانيا ليست بحاجة لمثل هذا التمويل... وتجدر الإشارة هنا إلى أن النظام يشن حاليا حربا مفتوحة ضد الاتحاد الوطني لأرباب العمل الموريتانيين، للإطاحة برئيسه؛ ويعتبر هذا التدخل في شؤون منظمة نقابية انتهاكا للقوانين الوطنية والاتفاقيات الدولية الموقعة من طرف بلادنا، كما يشكل، علاوة على ذلك، تهديدا حقيقيا لمناخ الأعمال في البلد.
تقييم دولي غير مشرف
إن تقييم السياسات "العمومية" التي قام بها النظام خلال الفترة 2010-2014 يتم على ضوء تطور مؤشرات الحكامة المُتعارف عليها دوليا؛ ويتبين فيما يلي أن جميع هذه المؤشرات تعكس تراجعا ملحوظا لمكانة البلد على المستوى العالمي، بالرغم من الموارد والفرص الهائلة التي حصل عليها:
توجد موريتانيا اليوم في ذيل القائمة العالمية في مجال مناخ الأعمال، حيث نزلت من المرتبة 157 لتحتل المركز 176 في آخر تقرير لمؤسسة "ممارسة أنشطة الأعمال" (DOING BUSINESS) لسنة 2015؛
في نفس السياق، فإن تقريرا مشتركا بين البنك الافريقي والبنك الدولي ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE) والمنتدى الاقتصادي الدولي حول "القدرة التنافسية في افريقيا"، يصنف موريتانيا في المرتبة 141 من أصل 148 دولة.
ولم تتحسن الظروف المعيشية للسكان بصفة عامة، على الرغم من النمو المتواصل الذي سجلته البلاد خلال هذه الفترة، حيث يبقى معدل البطالة في صفوف القوى العاملة 31،5%، مسجلا بذلك أحد أعلى المعدلات في العالم، وفقا للتقرير الصادر عن البنك الدولي في شهر فبراير الماضى، وقد انخفضت قيمة الأوقية بمعدل 46،52٪ مقابل الدولار الأمريكي، حيث هبطت من 241 أوقية مقابل دولار سنة 2008 إلى 353،12 أوقية اليوم؛ ويعانى نصف سكان البلد من انعدام المياه الصالحة للشرب، وفقا لتقرير صادر عن برنامج الأغذية العالمي (PAM)، كما أن موريتانيا سجلت انخفاضا في مؤشر التنمية البشرية (IDH)، الذي يقيس تطورات الدول في القطاعات الاجتماعية (الصحة والتعليم، والمساواة، والفقر، والتباين بين الجنسين ...)، حيث هبطت من المرتبة 154 سنة 2008 إلى المركز 156 العام الماضى، من أصل 188 دولة؛
حسب مؤشر "جودة الحكامة"، الذي يُقيّم جميع الأبعاد المتعلقة بالحكامة في إفريقيا، من خلال تقرير ينشره سنويا، فقد تراجعت موريتانيا سنة 2015 بثلاثة عشر نقطة، حيث أصبحت تحتل المرتبة 41 بعد أن كانت في المرتبة 28، من أصل 54 دولة يشملها التقييم.
نتائج مدمرة
لقد اُرتكبت أخطاء جسيمة في مجال الحكامة إبان طفرة 2010 – 2014، وهي تتعلق أساسا بالخيارات الاقتصادية التي تمت آنذاك: سياسة مالية توسعية تعتمد على وضعية ظرفية، سياسة استثمارية فوضوية، سيطرة محكمة للدولة على الاقتصاد في غير محلها، تدهور مناخ الأعمال، الخ.
دخل الاقتصاد الوطني منذ منتصف 2014 مرحلة خطيرة، حيث هوى معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي من نسبة 6.6 % سنة 2014 إلى 2% سنة 2015، وانخفضت الصادرات بشكل حاد، فبلغ حجم التداول حوالي 1510 مليون دولار أمريكي سنة 2015 مقابل 2651،5 مليون دولار أمريكي سنة 2013؛ ولولا الانخفاض الحاد في أسعار المحروقات على المستوى الدولي، وما صاحبه من تأثير مزدوج على واردات البلد وإيرادات الميزانية العامة لكانت عواقب هذه الصدمة وخيمة. وتكمن الأسباب الرئيسية لهذا التراجع في تدهور أسعار المواد الأولية في السوق الدولية.
من جهة أخرى، فقد كان للإجراءات الإدارية الروتينية، والحواجز الحقيقية التي تُقام في وجه فرص اقتصادية مهمة للبلد كالاستثمارات وإسهام شركات ذات أداء عال في تنفيذ المشاريع، إضافة إلى سوء الظروف الاقتصادية العالمية – كان لذلك كله الأثر السلبي على تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر في موريتانيا، حيث سجل هذا التدفق انخفاضا بنسبة 80% في أقل من سنتين، إذ لا يتعدى سنة 2015 مبلغ 246،9 مليون دولار أمريكي، في حين كان في 2013 يناهز 1126 مليون دولار أمريكي.
وتتجلى آثار هذه الوضعية على الميزانية العامة للدولة في قانون الملية لسنتي 2015 و2016:
فبالنسبة لسنة 2015، ينص قانون المالية المعدل على أن "عائدات الضرائب تعاني نقصا مرتفعا نسبيا، مما يعكس فتورا في نشاط قطاع التصدير، ويتجلى ذلك من خلال انخفاض في الإيرادات على النحو التالى: الضرائب على أرباح النشاط الصناعي والتجاري والأرباح غير التجارية، والضريبة الأدنى الثابتة بنسبة 8،60%، والضريبة على الرواتب والأجور بنسبة 19،61%، والضريبة على القيمة المضافة المحلية بنسبة 8%، والضريبة الموحدة على شركة اسنيم بنسبة 43،50%". كما يرد في نفس القانون أن "الإيرادات غير الضريبية سيقتطع منها مبلغ 36 مليار أوقية، كان متوقعا من أرباح اسنيم، ومبلغ 3،7 مليار أوقية من عائدات النفط".
أما بالنسبة لسنة 2016، فإن قانون المالية الأصلي يُورد انخفاضا في الإيرادات على النحو التالى:
تدنى مساهمة اسنيم في المحاصيل الضريبية المقدرة أصلا بمبلغ 25،44 مليار أوقية على الفصول الثلاثة الأولى من سنة 2015،
نقص بمبلغ 10 مليار أوقية من الضريبة الموحدة على اسنيم في نفس الفترة،
نقص 8،35 مليار أوقية من ضريبة القيمة المضافة على واردات اسنيم في نفس الفترة،
غياب أي توقع لمساهمة أرباح اسنيم في إيرادات الدولة، في حين بلغت تلك المساهمة 37،25 مليار أوقية فى 2013 و37،77 مليار أوقية فى 2014.
إن المؤشرات الاقتصادية تدل اليوم على وجود أزمة حادة، سيكون من غير الواقعي، وحتى في غاية الخطورة، اتباع سياسة مالية توسعية في ظلها.
وعلى الرغم من هذا، وفى تجاهل تام للاستياء الشعبي المتزايد على مستوى كافة الطبقات، بسبب حالة الفقر المنتشر، فإن السلطة تصر على:
الاستمرار في استخدام العبء الضريبي من أجل تعويض إيرادات الأنشطة الاقتصادية الإنتاجية، من خلال زيادة الضرائب على الاستهلاك والضغط على القطاع الخاص، وهو ما تجاوز المستوى الذي يمكن أن يطيقه المواطنون، ويتحمله الاقتصاد؛ ففي سنة 2015، تجلت هذه السياسة الضريبية المجحفة من خلال زيادة شاملة للضريبة على القيمة المضافة بنسبة 2%، تلتها زيادة في الضرائب على المنتجات البترولية والأرز المستورد، وفي نفس الوقت حافظت الدولة، بتعنت، على أسعار المحروقات، على الرغم من الانخفاض الحاد في أسعارها عالميا، مما مكنها من رصد مبلغ 25،3 مليار أوقية خلال الأشهر الستة الأولى من السنة.
وتجدر الإشارة إلى أن الإيرادات غير الضريبية في انخفاض حاد، حيث أن التوقعات لسنة 2016 لا تتعدى مبلغ 89،4 مليار أوقية، في حين وصلت محاصيل 2015 لمبلغ 147،34 مليار أوقية؛ وقد تطورت نسبة الإيرادات غير الضريبية مقابل الإيرادات الضريبة لسنوات 2013، 2014، 2015 و2016 على النحو التالي: 45%، 41%، 55% و28% فقط؛
الاستمرار في الخفض غير المعلن لقيمة الأوقية؛
اللجوء إلى تدابير تقشفية لأغراض شعبوية بحتة، تؤثر أساسا على مداخيل موظفي الدولة والشركات التابعة لها.
وعليه، فنخن الآن أمام وضعية متفجرة، يمكن أن تؤدي إلى حالة من الفوضى، وفقا لسيناريوهين محتملين:
إما أن تكون التوقعات غير واقعية، مما سيتسبب فى نقص للإيرادات؛ وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى أزمات في السيولة النقدية وتعطل جهاز الدولة، مع جميع آثار مثل هذا الشلل على بقية قطاعات الاقتصاد الوطني. وفى هذه الحالة سيتوقف النشاط الاقتصادي، وستبدأ متأخرات الدولة الهائلة إزاء القطاع الخاص بالتراكم، مما سيؤدي إلى إضعاف النظام المصرفي وإفلاس مدوٍّ للشركات التي صُرفت مواردها في ذمة الدولة، بعد أن أصبحت هذه الأخيرة عاجزة عن تسديد ديونها. ومن شأن هذا الوضع أن يؤدي، لا محالة، إلى نقص في مدخلات القطاعات الاجتماعية، والتأثير سلبا على الخدمات التعليمية والصحية، التي هي أصلا في حالة يرثى لها.
وإما أن تستمر الدولة بتعنت في تحصيل الضرائب، مهما كلف الثمن، مما سيورث حالة عامة من الفقر، يمكن أن تولد - فى آن واحد - انخفاضا في الاستهلاك ومن ثم في عائدات الضرائب و/أو اضطرابات اجتماعية قد تهدد سكينة واستقرار البلد؛ وفى هذه الحالة، يُخشى قيام إضراب عن دفع الضرائب، يُعبر السكان من خلاله عن رفضهم للدولة، مما سيكون له الأثر الوخيم على ديمومتها؛ كما أن استفحال حالة الفقر، التي تؤثر على جميع طبقات السكان، سيؤدي حتما إلى إضعاف نظام التضامن التقليدي، الذي هو الضامن لاستقرار المجتمع، و صمام الأمان ضد التجاوزات المتطرفة.
إن المسؤولية التامة الناجمة عن هذه الوضعية الكارثية يتحملها النظام القائم لوحده؛ فهو، بالرغم مما يُبديه من تجاهل لعواقبها الوخيمة، يجب أن يعى حتمية مُحاسبته، يوما ما، أمام الشعب الموريتاني على ما يقوم به.
قال تعالى: "وسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبون" (الشعراء، 227)، صدق الله العظيم.
نواكشوط، 16 ذي الحجة 1437 – 19 سبتمبر 2016
تكتل القوى الديمقراطية