محاور وبنود التغيير الإجتماعي والإصلاح السياسي في منطقتنا العربية تكاد تتطابق، غض النظر عن خصوصية هذا البلد أو ذاك. فهي ذات المحاور المرتبطة بالصراعات حول السلطة وحول التنمية وحول الموارد وحول الهوية….الخ، والتي تتجلى عبر قضايا الديمقراطية، وإدارة التنوع، وحقوق الإنسان، وحكم القانون، والتداول السلمي الديمقراطي للسلطة، والعدالة الإجتماعية، وديمقراطية المعتقد والثقافة والمعرفة، قضايا المرأة والجندر….الخ. ومن بين كل هذه القضايا، تشكل الديمقراطية حجر الزاوية، والمسألة المفصلية في كل دعاوى التغيير والإصلاح السياسي.
لكن، ستظل دعاوى التغيير والإصلاح السياسي مجرد مفاهيم معلقة في الهواء مالم تترجم إلى ممارسة ملموسة وفق الواقع المحدد الملموس. وعلى عكس المفاهيم التي هي عامة وثابتة وموحدة، فإن الممارسة ليست كذلك، وإنما تتشكل وتتلون وفق السمات الخاصة لكل مكان وزمان. فمثلا، بينما يظل جوهر الديمقراطية ثابت دون تغيير، فإن أشكال ممارستها تتعدد وتتنوع حسب السمات الخاصة لكل بلد وكل مجتمع. وجوهر الديمقراطية، غير المتغير، هو مجموعة من القيم والمبادئ الثابتة التي لا يجوز مطلقا، في الزمان والمكان، التخلي عن إحداها أو الانتقاص منها. وأي شكل من أشكال الممارسة الديمقراطية، مهما تفنن أصحابه في تسميته بالديمقراطية الليبرالية أو الديمقراطية الاشتراكية أو الديمقراطية الشعبية أو الديمقراطية الثورية أو الشورى الإسلامية أو ديمقراطية التوالي كما ابتدعها النظام الحاكم في السودان…الخ، لا علاقة له بالديمقراطية ما لم يعبر عن تلك القيم والمبادئ الثابتة. بعض القوى في منطقتنا، ومن منطلقات تدعي أنها ثورية، تعتبر قيم التعددية والفصل بين السلطات وحرية التعبير والتنظيم والمعتقد…الخ، سمات خاصة بالغرب والليبرالية وحدها، وليس بالضرورة أن تتبناها الممارسة السياسية في بلداننا. بالطبع، هذا الحديث له أسسه الموضوعية، إذ أن الليبرالية هي أول من صاغ تلك القيم والمبادئ، الحريات والحقوق، بشكل مؤسس ومباشر، وهي بذلك تعد مأثرة عظيمة وإنجازا تاريخيا حققته الثورة البرجوازية بعد ظلام العصور الوسطى. لكن، كون هذه القيم هي سمات خاصة بالليبرالية وحدها، فهذا حديث قاصر لأنه يتعارض مع جوهر الديمقراطية وقيمها المطلقة.
وأشكال الممارسة الديمقراطية تتعدد حسب تعدد وتنوع الأرضية التي تتم فيها هذه الممارسة. فالتعددية الليبرالية مثلا، تنمو وتزدهر مع تطور القاعدة الاقتصادية للثورة الصناعية في الغرب، لذلك فهي ممارسة راسخة وناضجة في البلدان الرأسمالية الصناعية في حين أنها هشة وركيكة حين تمارس في بلداننا، ومعرضة دائما للمصادرة لا بشكلها فقط وإنما حتى بقيمها ومبادئها الثابتة والمطلقة. لتأخذ مسالة التعددية الحزبية في بلد كالسودان مثلا. ففي التجارب الثلاث للممارسة الديمقراطية في بلدنا، بعد الاستقلال 1956 وبعد ثورة أكتوبر 1964 ضد الحكم العسكري الأول وبعد إنتفاضة أبريل 1985 ضد الديكتاتورالنميري، كنا نطبق الأسلوب الليبرالي، «ديمقراطية وستمينستر»، وكان واضحا فشل هذا الأسلوب على الرغم من أن بدائله كانت أسوا منه بما لا يقارن متمثلة في ديكتاتوريات الحكم العسكري الأول، ونظام النميري، وانقلاب البشير في يونيو 1989. لكن فشل الأسلوب أو الممارسة لا يعني فشل المبدأ ذاته. بمعنى آخر، كان ولايزال المطلوب هو صيغة للمارسة التعددية في بلادنا تراعي بشكل دقيق الخصائص المميزة للواقع بتعرجاته الإثنية والطائفية والعقائدية…، ومثل هذه الصيغة من السهل جدا التوصل لها إذا ما اجتهدت كل الأطراف المؤمنة بالتعددية من اجل ذلك وفي إطار حوار حر ديمقراطي. أما أن ينتفض أحد أطراف الحركة السياسية ليعلن فشل التجربة الديمقراطية وأنه وحده يمتلك البديل الملائم لها، فأنه في الواقع العملي يفرض بالقوة تصوراته الخاصة حول حكم البلاد في حين يتجاهل تصورات الآخرين، بل وبقرار منه ينتهك حقوقهم ويلغي وجودهم. وسواء أن كان الطرف المنتفض ثوريا علمانيا أو ثوريا يتبع قدسية إلهية، فإنتفاضته تعني السير في نفق الديكتاتورية المظلم والمسدود.
في عالم اليوم أصبحت حقوق الإنسان ظاهرة مستقرة، لا تراجع عنها ولا التفاف حولها، ولا مبررات أيديولوجية لتجاهلها، بل لا بد من الموقف المستقيم والمبدئي منها. لكن، العديد من الدوائر في غرب العالم تتخذ مواقف غير مبدئية تجاه هذه القضية وقضية الديمقراطية. ففي أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001 المؤسفة، تراجعت هاتان القضيتان عند هذه الدوائر لصالح تسويق مفهومي الاستقرار ومحاربة الإرهاب، رغما عن الاختلاف البين في تعريف الإرهاب. لا أعتقد أن هنالك مشكلة فكرية أو أكاديمية في تعريف الإرهاب بإعتباره ظاهرة تاريخية تظهر وتختفي حسب الظروف السياسية والأجتماعية المعينة، وفي سياق تاريخي محدد. لكن المشكلة تكمن في محاولات التوظيف السياسي لمفهوم الإرهاب ليشمل كل من يخالف الرأي أو يسعى لإسترداد حقوقه المسلوبة. نعم، أي عاقل لا بد أن يدين الإرهاب، لكن هذا لا يعني القبول بخيار المصيدة: إما مع أمريكا أو مع الإرهاب!. نحن ندين الإرهاب، ولكن أيضا لا نسلم لأمريكا بحق إنفرادها بتعريفه وصياغة المعايير الخاصة به. ونحن ضد الإرهاب، ولكن بذات المنطق ضد إنحياز أمريكا لإسرائيل وتبرير إرهابها للشعب الفلسطيني. فنضال الشعب الفلسطيني بكل فصائله، بما في ذلك حماس، ونضال المقاومة اللبنانية، بما في ذلك حزب الله، ليس إرهابا ولكنه إمتداد للنضال التحرري الوطني ضد إغتصاب الأرض وإرهاب الشعوب.
قناعتي أن الديمقراطية الليبرالية ليست هي الشكل الأرقى للممارسة السياسية، ومع تطور الرأسمالية ظهرت محدودية هذا الشكل وتشوهاته. فليس كافيا إن تقف الديمقراطية عند حدود السماح للجماهير بالتعبير عن رأيها فقط من دون المشاركة في إتخاذ القرار. ورغم كل ذلك فإن الديمقراطية الليبرالية لم تستنفد أغراضها بعد، والمطلوب ليس نسخها أو إلغاءها، وإنما تطويرها والبناء فوق ما راكمته من تجارب، وفق السمات الخاصة بكل بلد. أما مقترحنا حول كيفية التطوير والبناء، وحول شكل الديمقراطية المناسب لواقع بلادنا، فسنستعرضه في مقالات قادمة.
٭ كاتب سوداني