كان في طليعة هؤلاء المرحوم اسويدات بن وداد كان أبي الضيم نبيل النفس ذلك القائد العسكري الذي عرفه الجميع منذ تشكلت طلائع الجيش الوطني وعرفوه أكثر في ميدان المعركة حيث أظهر جرأة لا مثيل لها.
تلك الجرأة التي طبعت شخصيته، منذ أن كان ضابطا ثم قائدا لوحدة المظليين فيما بعد وقد أهله إخلاصه للوطن وشجاعته لأن ينال ثقة القيادة السياسية وأن يتبوأ مناصب عسكرية ومدنية حساسة حيث عين قائدا لمنطقة "اجريده" مدة سبع سنوات ثم قائدا عاما للحرس الوطني، ولأسباب غامضة تمت إزاحته من هذا المنصب وحول إلى "النعمه" كوال مساعد، مكث هناك إلى أن استدعي في الوقت الذي كانت البلاد تستعد لحرب ضروس.
لقد استدعي إذا من أجل أن يزج به في المعركة وفور وصوله إلى العاصمة التقى وزير الدفاع وكبار القادة العسكريين والتمس منهم توفير العدة والعتاد ولم تكن البلاد وقتها تتوفر سوى على بعض العتاد التقليدي وانتقى من بين الجنود مائة وستين جنديا ممن يعرف فيهم الشجاعة والتضحية وكانوا من الذين تدربوا على يده، وانتقى من الذخيرة مائة وسبعين بندقية من 36 وموزير ومدفعين من 12-7 وكانت عينات الأسحلة التي وقع عليها اختياره من النوع المستعمل رغم أن المثل يقول: "لا تطفئ الحريق بالريق".
وبعد أن أكمل استعداده ورتب أموره، وبعث بعتاده إلى ميدان المعركة في "عين بنتيل" اتصلت به وأوصيته باليقظة لما أعرف فيه من الإقدام والاستعداد للبذل خصوصا وأنه مقبل على مواجهة العدو في أخطر ثغور الحرب.
رد علي بأنه لا مجال للتلكؤ أو التردد حين يقابل عدوه لأن العسكري من وجهة نظره فدائي باع نفسه مؤكدا في نفس السياق أنه ليس من ذلك النوع من القادة الذين يدفعون بجنودهم إلى المعركة ثم يتوارون خلفهم متخذين منهم دروعا للنجاة بأنفسهم فذلك –حسب رأيه- جبن وغالبا ما يؤدي إلى فشل الجنود لانتفاء ثقتهم بقائدهم حين يرونه ضعيفا جبانا لا يستحق أن يكون قدوة.
أضاف أن القضية بالنسبة له لم تعد تحتمل التردد مع اعترافه بأن القيادة لم تحسب للأمر حسابه ولا تعي ما سيترتب عليه من مخاطر تطال أمن البلاد واستقرار الحكم في ضوء انعدام الوسائل وعدم جاهزية القوات في القوت الذي تتطلب فيه المعركة مراعاة موقف الطرف الآخر الذي يتمتع بتدريبات جيدة وجاهزية أفضل وخبرة واسعة بالأرض.
أعرب لي اسويدات في حديث آخر عن امتعاضه مما سيؤول إليه الوضع وتوقع أن تداعيات الموقف العسكري ستؤدي في النهاية إلى الإطاحة بالنظام، وكم كانت توقعاته صحيحة!!...
أخيرا جدد لي عزمه على أن يدخل المعركة بنية صادقة في محاربة العدو ولو تطلب منه الأمر أن يضحي بنفسه لفعل ذلك ثم أوصاني خيرا بأهله من بعده وترك بعض متاعه العسكري أمانة عندي.
بعد ثلاثة أسابيع من خروجه وصل إلى انواكشوط الضابط "سيدي محمد بن الصبار" يحمل رسالة منه لا داعي لنشر محتوياتها وبعد معارك خاضها ببسالة تعرض لهجوم مركز شاركت فيه فصائل من خيرة الجنود الصحراويين معززة بكتائب من قوة أجنبية مساعدة وتم القضاء على معظم الجنود الذين كانوا معه مما مهد الطريق لاستشهاده بينما كان منشغلا بنصب مدفع ثقيل.
حين سقط شهيدا في 19 يناير 1976م وانتشر خبر موته حدث نع من الارتباك في الأوساط العسكرية، كان وقع وفاته صاعقة هزت معنويات الجيش الذي أصبح يتيما في ذلك اليوم وكان بشرى نصر على الطرف الآخر للجبهة.
بعد أن تأكدت من الخبر اتصلت بمسؤولين كبار وطلبت منهم نقل جثمانه إلى انواكشوط، ورغم أنهم حاولوا ذلك إلا أن شح الوسائل وحالة جسمه لم تسمحا بدفنه خارج المكان الذي استشهد فيه.
والغريب أن هذا القائد الذي قدم نفسه فداء للوطن لم يحظ موته باهتمام رسمي ولو بإعلان دقيقة صمت ترحما على روحه مع أن فضله كبير ومنته على رئيس البلاد لا تنسى فقد أنقذه ذات يوم من عام 1966 من محاولة انقلاب حين استقبله في المطار ليشرف على حراسته بنفسه.
كل ذلك لم يشفع له عندما آل به الأمر إلى ما آل إليه، وقد صدق على موقفه قول الشاعر:
الناس أعوان من عانته دولته
وهم عليه إذا خانته أعوان
وهكذا فالقيادة الوطنية آنذاك لم تعط لهذا الحدث بعده الحقيقي بل لم تقم بواجب المواساة مع أهل المرحوم، وحتى مكان دفنه لم يجعل عليه ما يشير إليه ويعرف به، وقد قمت "أحمد بن عبد الله" و"الشيخ بن خطاري" بمبادرة لجمع تبرعات من بعض الأصدقاء الأفياء لأسرته.