كُنِ ابْنَ مَنْ شِئْتَ وَاكْتَسِبْ أَدَبًا * يُغْنِيكَ مَحْمُودُهُ عَنِ النَّسَبِ
إِنَّ الْفَتَى مَنْ يَقُولُ هَا أَنَا ذَا * لَيْسَ الْفَتَى مَنْ يَقُولُ كَانَ أَبِي.
أرى أنّ المقصود،هو حثّ الإنسان على العِلم والعمل والتحلّي بالفضائل والاتِّصاف بالأخلاق الحميدة، حتى تكون له مكانة بين الناس، وبذلك يستحق أنْ يوصَف بالفتوَّة.
أمّا إذا اكتفى بالاعتماد على أمجاد أبيه وأجداده وأحسابهم وكان هو نفسُه جاهلًا، وذا أخلاق سيئة، فلا مجالَ لوصفه بالفتوة.
كما يقال في الحَسّانيّة: فُلَانٌ ينحدِر من عائلة طيبة عريقة، لكنه "يَوْكَلْ الشّْرَاوِيطْ".
غير أنّ الإنسان الذي تجتمع فيه الخَصْلتان الحَمِيدتان-فتوَّته الشخصية وفتوَّة أبيه وأجداده-يُعدُّ فتًى سليلًا في الفتوَّة، وهو بذلك أرْسخُ قَدَمًا في الفتوَّة من الشخص الآخَر.
أقول هذا الكلام لأنني اطلعتُ على تدوينة لأحد "الأصدقاء" في "فيسبوك"، يقول فيها: مشكلتنا في موريتانيا تكمن في وجود "أَوْلَادْ لخْيَامْ لكْبَارَاتْ"...وكأنّ المكانة الاجتماعية للآباء والأجداد أصبحت مَنْقَصَةً أومَعرَّةً !
وعلى كل حال: إذا كان الإنسان صالحًا وكان أبوه صالحًا، فإنّ ذلك لا يقلل من شأنه بل إنه يزيده صلاحًا على صلاحٍ وفتوَّةً على فتوَّةٍ (قِيمة مُضافة).
وفي القرآن الكريم: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا).
وفي ذلك إشارة إلى أهمية صلاح أب الغلامين اليتيمين بالنسبة إليهما .
وفي الوقت نفسه، إذا كان المَرْءُ فَتًى وأبوه غير ذلك، فإنّ هذا الواقع لا يقلل من شأن هذا الإنسان الذي شقَّ لنفسه طريقا غير طريق أبيه.
يقول أحدهم، ولعلّه/عبد اللّه بن معُاويةَ بن عبد اللّه بن جعفر:
لَسْنَا وَإِنْ أَحْسَابُنَا كَرُمَتْ * يَوْمًا عَلَى الْأَحْسَابِ نَتَّكِلُ
نَبْنِي كَمَا كَانَتْ أَوَائِلُنَا * تَبْنِي وَنَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلُوا.
وهذا هو النَّمُوذج المثاليّ.
ويقول أحد الشعراء، في التنبيه على أنّ الأبَ الصالحَ قد يلد ابنًا غيرَ صالحٍ:
أَبُوكَ أَبٌ حُرٌّ وَأُمُّكَ حُرَّةٌ * وَقَدْ يَلِدُ الْحُرَّانِ غَيْرَ نَجِيبِ.
و الواقع أنّ الحر (أو النجيب) قد يلد نجيبًا (وَمَنْ شَابَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ)، وقد يلد غيرَ نجيب (كما قال الشاعر). كُلُّ ذلك وارِدٌ.
الخلاصة: لا يجوز أن يعتمد الإنسان كُلِّيّةً على مَكانَة أبيه، دون أن يحقق لنفسه مكانتَه الخاصةَ به.
كما أنه لا يجوز-في الوقت نفسه-أن نُوهِمَ الناسَ بأنّ فتوَّة الأب لا قيمة لها بالنسبة إلى الفتى الذي صنع فتوَّتَه بنفسه ولم يكتفِ بالسمعة الطيبة لأبيه. بل إنّ ذلك (أي الجمع بين الحُسْنيَيْن) يُعَدُّ "سَمْنًا عَلَى عَسَلٍ".