خلال الأسبوع الماضي كنت أحد المشاركين في دورة تكوينية تحت عنوان الصحافة وحقوق الإنسان، تم خلالها نقاش كل الاتفاقيات والمواثيق التي تؤكد ضرورة تكريس مختلف مستويات حقوق الإنسان، بدأ بالجيل الأول من هذه الحقوق وصولا إلى الجيل الثالث. لكن المفارقة التي غابت طيلة هذه الأيام، أن هذا الإنسان الذي نتحدث عنه (في العالم الثالث) لم يصل بعد إلى مستوى التمتع بهذه الحقوق، ولم تصل بعد آفاقه الذهنية لاستيعاب مضامين هذه المواثيق والاتفاقيات.
إذا كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الصادر عشية الحرب العالمية الثانية، نتيجة لوعي تلك الشعوب بذواتها، وبضرورة الاعتراف المتبادل من أجل البقاء، فإننا نحن حينها نكن قد دخلنا مرحلة الصراع التي هي أولى مراحل تشكل مجتمع الدولة، بعد الانتقال من الوجود الطبيعي للبشرية. ومع دخول العالم (المتقدم) مرحلة الجيل الثاني من حقوق الإنسان ( المساواة) كنا نحن حينها قابعين تحت الأحذية الخشنة لجنوده الاستعماريين، باعتبارنا مجرد مصادر للمواد الأولية للصناعة أولا، ومكبا للنفايات والمواد الفاسدة والمنتهية الصلاحية ثانيا. ويوم أشرق صبح الجيل الثالث من هذه الحقوق (البيئة والتنمية الاجتماعية...) كان شبه الإنسان في العالم الثالث مستعمرا بالوصاية من طرف طغم عسكرية تهتم فقط بتكريس أحكامها التعسفية والمستمدة من الخارج فقط.
نحن مجتمعات العالم الثالث المسحوقة معنويا وماديا، لا نحتاج الاطلاع على تفاصيل هذه المواثيق والاتفاقيات التي تكرس حقوق الإنسانية، بقدر ما نحن بحاجة إلى إدراك معنى الإنسانية نفسها وقدسية هذا المعنى ومركزيته في الكون، واكتسابه ذالك بمجرد الوجود... نعم، نحن بحاجة إلى الانتقال ـ معنويا- من مفهوم الرعية والأمير إلى مفهوم المواطنين وسيادة المؤسسات، من مفهوم الانتماء الضيق إلى مفهوم الدولة الوطنية الرحب، من دوافع العصبية التجزيئية إلى الفضاءات الفكرية والعلمية الجامعة...
إنه من العبث بمكان أن نتحدث عن حق الوصول إلى المعلومة، لمجتمع لا يزال أفراده يعتبرون أنفسهم غرباء، عندما تلتجئون لزيارة إحدى المصالح المدنية، ويقبلون بأنواع المذلة المادية والمعنوية، ويلتمسون أواصر القربى والرحم، كل هذا من أجل الحصول على خدمات إدارية بسيطة، من المفترض أن المصلحة كلها مؤسسة من أجلها. في ظروف كهذه ينشأ المواطن (الرعية) منذ ولوجه للمحيط المدرسي على مبدأ التراتبية الإستغلالية في المنشآت العمومية، ويتفهم رداءة خدمتها لسبب بسيط، وهو أنها مجانية، ليجد نفسه مجبرا على التعامل مع المؤسسات الخصوصية، للحصول على الحقوق الأساسية مثل التعليم والصحة، ويجهل هذا المسكين أن المؤسسة العمومية مال عمومي، وأنه دافع ضرائب، فضلا عن كونه أحد المساهمين نظريا في العقد الإجتماعي.
ومن هنا ندرك ضرورة إجبارية التعليم الأساسي، واقتصاره على المؤسسات العمومية، لأنه هو العتبة السليمة لبناء القناعات والتصورات حول هذا الكون وقوانين الوجود، فمن خلال هذه المرحلة يتشكل الوعي بالحقوق والواجبات، وتتكون العلاقة بين الفرد والمجتمع من جهة، وبين المجتمع مع المؤسسات من جهة أخرى، كل ذالك على أسس تشريعية وقواعد مدنية، بعيدا عن الأسس التقليدية للمجتمع الطبيعي.
وحتى لا نغرق في المثاليات والأحلام، فمن المعلوم أن الإنسان بطبعه شرير تجاه أخيه الإنسان ( ثنائية القوة والمصلحة)، لكن لابد أن نتذكر أيضا أن هذه الحقيقة نفسها هي التي أدت إلى ظهور كل لاتفاقيات والمواثيق الحقوقية، وعيا من الإنسان نفسه بضرورة الاعتراف والاحترام المتبادل، من أجل البقاء ووضح حد لثنائية العبد والسيد.
وبالتالي فإن انتشار الوعي والتعليم من مصلحة الجميع، حتى يتمكن كل معرفة حقوقه ويطالب بها، ويعرف واجباته ويؤديها طبقا للأساليب المدنية السلمية، وتشيع ثقافة المساواة وتكافؤ الحظوظ بين مطلق البشرية، دون أن نصل بالضرورة إلى نهاية التاريخ.