بدأت الحرب تلقي بظلالها عل الأوضاع العامة للبلد واتخذت منعطفا جديدا بتسرب عصابات البوليزاريو إلى الأعماق وانتشار عدة آلاف من الجيش المغربي في مناطق حساسة طبقا لما نصت عليه معاهدة الدفاع المشترك.
بدأ "المصطفى بن محمد السالك" فيما يمكن عمله من أجل أن لا تكون البلاد رهينة لدولة أخرى، وبدأ الوضع في نظره مثيرا للقلق، فإما أن تنهار بفعل عوامل مختلفة منها الصراعات الداخلية التي بدأت تدب بين أجنحة الجيش وتفاقم مشكل الهوية الثقافية وتردي الأوضاع الاقتصاديةن وإما أن تخضع لاحتلال غير مباشر يلقي بظلال من الشك على نوايا زعماء المغرب في إحياء حلمهم القديم في الحق التاريخي.
كان هذا الاحتمال الأخير بالنسبة له أكثر إثارة للقلق حيث أن العمليات العسكرية الجارية في موريتانيا كانت تدار في ذلك الوقت عن طريق لجنة دفاع مشترك تصدر الأوامر وتشرف على وضع الخطط العسكرية وكأن زمام الأمور توشك أن يضيع من بين أيدي حكامنا..
كان الخيار الأمثل في نظره أن يبدأ العمل من أجل تحرير البلاد من كافة أشكال الوجود العسكري كأول خطوة على طريق الإنفاذ، لكن هذه الخطوة لم تكن بالأمر السهل بل إنها محفوفة بالمخاطر.
كانت أول خطوة في هذه العملية تقتضي المطالبة بانسحاب كافة القوات المغربية عن الخطوط الأمامية للعمليات العسكرية وهو ما تحقق في إطار لجنة الدفاع المشترك ولعل الدافع الأساسي بالنسبة له هو أن يضمن إبعاد الجيش الأجنبي عن بعض المراكز الحساسة بما فيها مؤسسات السيادة الوطنية وبعد مضي فترة على اجتماع لجنة الدفاع المشترك أخذت الوحدات المغربية تنسحب من بعض المواقع الحصينة.
في مرحلة لاحقة طالب "ولد السالك" بوصفه قائدا للقوات المسلحة من الملك المغربي تحديد المسؤوليات فيما يتعلق بإدارة العمليات العسكرية وإبراز حدود مهمة كل طرف وذلك أثناء لقائه بالملك رفقة وزير الدفاع الوطني "محمذ ولد باباه".
استجابة لرغبته ومن أجل العمل على وضع خطة بهذا الشأن اقترح الملك المغربي تمديد إقامة "ولد السالك" فترة أطول في المغرب من أجل تدارس الوضع والتوصل لحل مشترك في إطار لجنة الدفاع الآنفة الذكر.
بعد انعقاد القمة التي تلت ذلك تمت الموافقة على سحب الجيش المغربي بكافة أفراده حتى من مدينة الداخلة ذات الأهمية الاستراتيجية، واستمرت أعمال اللجنة يومين وحضر المباحثات التي أفضت إلى هذا القرار عن الجانب الموريتاني "المختار ولد داداه" و"محمذن بن باباه" وتبنى الاجتماع كل المقترحات التي تقدم بها "المصطفى" في شأن ترتيبات الانسحاب مما أدى إلى البدء فورا في عمليات الترحيل.
كانت الصورة قائمة، لقد استنفدت موريتانيا جميع وسائلها في حرب الاستنزاف وأصاب الشلل أكبر مؤسساتها "اسنيم" التي لم تعد قادرة على تأمين الوقود الضروري للتحرك العسكري فقاطراتها تتعرض يوميا للقصف، وأصبح من بين قادة الجيش من يسعى في الخفاء للإطاحة بالحكم.
أصبح المصطفى يرى من الواجب عليه أخذ زمام المبادرة لاحتواء مضاعفات تغيير وشيك. كان ذلك بحكم موقعه كقائد للقوات المسلحة.
كان الجيش هو القوة الوحيدة المنظمة والتي يمكنها مباشرة التغيير كان منصبه ورتبته وخبرته بميزان القوى وشعوره بالمسؤولية اتجاه الوطن واتجاه الرئيس الذي كان يكن له احتراما كبيرا: كل ذلك كان يفرض عليه مسؤوليات أخلاقية لا مفر من تحملها.
انطلاقا من كل ذلك أخذ على نفسه أن يعمل على إيجاد مخرج بوضع مبادرة تراعي أولويات الإنفاذ وتتعامل مع التحديات المطروحة لاحتواء مضاعفات الحرب التي حطمت كل مصادر البلاد تقريبا وتدارك مأساة رجل يوشك أن يكون رهينة لجماعة ضغط اخترقت القرار السياسي ووجهته ضد المصالح الواضحة للأمة.
اختار المصطفى أخف الضررين مع ولي نعمته الذي كان يعترف له بالفضل الكبير فقد كان المختار رجل دولة حقا وإن جميع مواطني هذا البلد مدينين له بشيء ما.
كان أبا وقورا، وفيا لوطنه، متفانيا في خدمته. كان له أن يجتهد ويصيب لكنه أخطأ التقدير أيضا فسبحان من لا يخطأ.