منذ الإعلان في يوم 14 يناير من العام 2015 عن وثيقة الوزير الأول الداعية إلى الحوار والموريتانيون يعيشون في حيرة شديدة، ويتساوى في ذلك الجميع، فلم يسلم من هذه الحيرة القادة الكبار في المعارضة ولا القادة الكبار في الموالاة، وربما يكون الوزير الأول، والوزير الأمين العام للرئاسة المكلف
بملف الحوار، ورئيس الحزب الحاكم أشد حيرة في هذا الأمر من المواطنين البسطاء.
إن قادة الصف الأول في الموالاة يعانون هم أيضا من حيرة شديدة، ويمكنني أن أقول ـ وبكل اطمئنان ـ بأنهم لا يفهمون أي شيء مما يجري، بل إني أكاد أجزم على أن ليس من بينهم من يستطيع أن يفسر لنا ما يجري ولا أن يحل لنا ألغاز ملف الحوار ولا أن يفك لنا طلاسمه.
نحن ـ إذاً ـ في الحيرة سواء، أغلبية ومعارضة، نخبا وبسطاء، ونحن جميعا ليس فينا من يعرف ما الذي يفكر فيه الرئيس عزيز ولأي شيء يخطط. في أوقات كثيرة يُخيَّل إليَّ بأن الرجل لا يعرف هو أيضا ماذا يريد بالضبط؟
إن المتأمل في ملف الحوار وفي محطاته، وفي تعامل الرئيس عزيز مع هذا الملف خلال العشرين شهرا الماضية سيخرج باستنتاج يقول بأن عزيز هو رئيس في منتهى الغباء السياسي. وإن المتأمل في فترة حكم الرئيس عزيز، وفي خططه للوصول إلى السلطة وفي أساليبه في التعامل مع معارضيه سيخرج باستنتاج مناقض لذلك، وهو الاستنتاج الذي يقول بأن الرئيس عزيز هو شخص في منتهى الدهاء السياسي، أو إن شئتم، في منتهى المكر السياسي.
فهل الرئيس عزيز في منتهى الغباء السياسي أم هو في منتهى المكر السياسي؟ لو استطعنا أن نجيب على هذا السؤال لتمكنا من فك الكثير من طلاسم ملف الحوار، ولكن المشكلة تكمن في أنه ليس باستطاعتنا أن نجيب على هذا السؤال بإجابة قاطعة.
إن هذا التناقض البين في سلوك الرئيس عزيز وفي تصرفاته قد أوقعنا في حيرة شديدة، فالطريقة التي تم بها الإعلان عن وثيقة الوزير الأول، وما تبع ذلك من تصرفات ومن دعوات للحوار، بل ومن تنظيم لحوارات عبثية (حوار السابع من سبتمبر2015، والحوار المنتظر في مساء الخميس الموافق 29 سبتمبر 2016) ليؤكد لنا بأننا أمام ألغاز في غاية التعقيد.
إننا إذا ما تتبعنا أسلوبا منطقيا في التحليل فإنه يمكننا أن نقول بأن هناك خمس فرضيات يمكن وضعها كمنطلق لأي تفكير جاد يحاول أن يميط اللثام عن الدوافع أو الأسباب التي جعلت الرئيس عزيز يتقدم بعرضه الذي تقدم به من أجل إطلاق حوار جديد من قبل أن يكتمل عام على الانتخابات الرئاسية، ومن قبل يكتمل عامان على الانتخابات التشريعية، وهو العرض الذي كان قد وعد فيه بتنظيم انتخابات بلدية وتشريعية ورئاسية سابقة لأوانها مع حل المجلس الدستوري واللجنة المستقلة للانتخابات وتشكيل مجالس ولجان توافقية.
إن هناك خمس فرضيات يمكن تقديمها لتفسير الأسباب التي دفعت بالرئيس عزيز إلى التقدم بذلك العرض، وهذه الفرضيات هي :
الفرضية الأولى: أن يكون السبب وراء ذلك العرض هو أن الرئيس عزيز كان يفكر في مأمورية ثالثة، وكان يريد أن يشرعها من خلال تنظيم حوار جديد مع المعارضة.
الفرضية الثانية : أن يكون الرئيس لا يفكر في مأمورية ثالثة، وإنما يفكر في طريقة ما تمكنه من ربح سنتين أو ثلاث على مأموريتيه الاثنتين وذلك من خلال الترشح في انتخابات رئاسية سابقة لأوانها.
الفرضية الثالثة: أن يكون الرئيس عزيز قد أصبح يفكر بشكل جاد فيما بعد العام 2019 وأنه يعد العدة لتهيئة الظروف المناسبة لتوريث السلطة لمن يثق به، وأنه يريد أن يقوم بذلك التوريث في ظل جو توافقي يأتي بعد حوار مع المعارضة.
الفرضية الرابعة: أن يكون الرئيس عزيز قد أصبح يفكر بشكل جاد فيما بعد العام 2019، ولكنه غير مهتم بتوريث الرئاسة، وأن كل ما يهمه هو توفير الضمانات اللازمة لعدم متابعته من بعد مغادرة السلطة.
الفرضية الخامسة : أن يكون الرئيس عزيز لم يفكر يوما في أي فرضية من تلك الفرضيات السابقة، وأن يكون غرضه من تقديم تلك الوثيقة والتلويح بالحوار وما تبع ذلك من حديث بلا أول وبلا آخر عن هذا الحوار، أن يكون كل ذلك لا يُراد منه إلا إشغال الرأي العام عن أمور أخرى، وعن الأزمات التي تتخبط فيها البلاد.
والآن دعونا نتوقف مع هذه الفرضيات فرضية فرضية، وذلك لإثبات بأنه ليس من بين هذه الفرضيات أي فرضية يمكنها أن تفك لنا طلاسم ملف الحوار.
1 ـ إذا كان الرئيس عزيز يفكر بشكل جاد في مأمورية ثالثة فإن ذلك يتطلب منه جر المعارضة وبكل أطيافها إلى الحوار، فالمأمورية الثالثة قد تشكل خطرا كبيرا على نظام الرئيس ولد عبد العزيز إن هي جاءت بعد حوار شامل مع المعارضة، فكيف ستكون خطورتها إن هي أتت من دون حوار أو إن هي أتت بعد حوار هزلي كالذي سيتم تنظيمه اليوم.
2 ـ أن يكون الرئيس لا يفكر في مأمورية ثالثة وإنما كان يفكر فقط في طريقة ما يربح من خلالها سنة أو سنتين إضافيتين. لو كانت هذه الفرضية سليمة لسارع الرئيس عزيز إلى تنظيم حوار جدي في السنة الماضية لكي يتمكن من ربح سنة أو سنتين. أما الآن وبعد أن أكمل الرئيس عامه الثاني من مأموريته الثانية فإن طرح مثل هذه الفرضية لم يعد مقنعا.
يمكن للبعض أن يقول بأن الرئيس عزيز كان يفكر بشكل جدي وقت إصدار وثيقة الوزير الأول في مأمورية ثالثة أو في ربح سنة أو سنتين على الأقل، ولذلك فقد قام بالتقدم بتلك الوثيقة التي حوت نقاطا مغرية وهامة، ولكن الرئيس بعد تقدمه بتلك الوثيقة تبين له بأنه لن يكون بالإمكان ربح سنة أو سنتين، وأن المعارضة لن تشرع له مأمورية ثالثة من خلال الحوار، وأن الدول الغربية لن تقبل بمأمورية ثالثة، هذا فضلا عن بعض الأحداث التي تفجرت في بعض الدول الإفريقية بعد عرض تلك الوثيقة، والتي أكدت بأن هناك مخاطرة كبيرة في محاولة تشريع مأمورية ثالثة.إن القول بذلك قد يساعدنا في تفسير السبب الذي جعل حماس السلطة لتنظيم حوار والذي بلغ أعلى مستوياته عند الإعلان عن وثيقة الوزير الأول يتراجع بشدة من بعد ذلك، وذلك بعد أن تبين للرئيس بأنه لن يكون بإمكانه أن يربح سنة أو سنتين إضافيتين، ولا أن يشرع مأمورية ثالثة. هذا القول رغم منطقيته إلا أنه يصطدم بسلوك وبتصرفات مناقضة له قام بها الرئيس عزيز بعد أن تبين له بأنه لا إمكانية لتشريع مأمورية ثالثة. دعونا نفترض بأن الرئيس كان يفكر فعلا في مأمورية ثالثة، وأنه قد تبين له من بعد ذلك ومن خلال ردود أفعال المعارضة والدول الغربية بأنه لن يكون بإمكانه تشريع مأمورية ثالثة. إن الوصول إلى هذا الاستنتاج كان يستوجب من الرئيس أن يعمل ـ وبتدرج ـ على إغلاق ملف الحوار، فما دام هذا الحوار غير قادر على تشريع مأمورية ثالثة، فما هي أهميته أصلا بالنسبة للرئيس سوى أنه سيظهر بأن نظامه يتخبط في أزمة سياسية ولابد لها من تنظيم حوار مع المعارضة للخروج من تلك الأزمة، ومن فضلكم لا تقولوا لي بأن السلطة القائمة يمكنها أن تنظم حوارا لا تريد منه إلا تطوير الديمقراطية في هذه البلاد. الملاحظ هنا بأن الرئيس عزيز ومنذ أن تبين له بأن المأمورية الثالثة لن يقبل بها لم يعمل على إغلاق ملف الحوار، وإنما ظل يعمل على تذكير الموريتانيين به كلما حاولوا أن ينسوه أو يتناسوه.
3ـ إذا كان الرئيس عزيز يفكر بشكل جاد فيما بعد العام 2019، وسواء كان يفكر في توريث السلطة لشخص يثق به، أو كان يفكر في تغيير النظام السياسي لضمان استمرار نفوذه، أو كان يفكر في الخروج الكامل من السلطة مع ضمان عدم متابعته قانونيا. إن كل تلك الفرضيات تتطلب ـ ومن قبل أي شيء آخر ـ مصالحة مع المعارضة، وخلق جو توافقي يمهد لحوار شامل يمكن الرئيس من توريث السلطة أو من الخروج منها بشكل كامل مع ضمان عدم الملاحقة القانونية. إن سلوك وتصرفات الرئيس تدحض مثل هذه الفرضيات فهو بدلا من أن يتصالح مع المعارضة وبدلا من أن يخلق جوا توافقيا يمكن أن يفضي إلى حوار شامل، بدلا من كل ذلك فقد عمل على تغذية خلافه مع المعارضة، ويكفي هنا أن نستحضر بعض الفقرات من خطاب النعمة لنتأكد بأن الرئيس عزيز قد عمل على زيادة العداء مع المعارضة بدلا من العمل على كسب ثقتها.
4 ـ فيما يخص الفرضية الخامسة والتي تقول بأن الدعوة إلى الحوار لم تكن من أجل الحوار، وإنما كانت من أجل إشغال الرأي العام عن أمور أخرى . هذه الفرضية مشكلتها تكمن في أن الدعوة إلى الحوار قد أنطقت الأزمة السياسية وجعلتها أزمة ناطقة بدلا من أن تبقى أزمة صامته. فأن يعلن الرئيس عن استعداده لإلغاء نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية بعد وقت قصير من تنظيمها، فإن ذلك شكل طعنا رسميا في نتائج تلك الانتخابات، وإن ذلك قد أنطق الأزمة السياسية التي كانت صامته. فأي شيء سيكسبه الرئيس من إنطاق هذه الأزمة؟ وأي شيء سيستفيد منه النظام إذا ما شغل المواطنين عن أزمات أخرى من خلال خلق أو إنطاق أزمات أخطر؟
هذا السؤال الأخير لن يكون بإمكاننا أن نجيب عليه بشكل منطقي إلا إذا جئنا بفرضية جديدة في منتهى الخطورة، وتقول هذه الفرضية بأن الرئيس عزيز يعمل عن قصد على تأزيم الأوضاع، وعلى إنطاق الأزمات من أجل البقاء في الحكم. إن تعامل الرئيس عزيز مع ملف الوحدة الوطنية ومع الملف السياسي، وجهده المبذول من أجل تفخيخ اللحمة الوطنية وإنطاق الأزمة السياسية ليوحي بأن الرجل يريد أن يوصل البلاد إلى حافة حرب أهلية، وعندما يظهر للجميع بأن البلاد مقبلة لا محالة على حرب أهلية، عندها سيكون بالإمكان تأجيل الانتخابات الرئاسية أو إلغائها نهائيا إذا ما حل موعدها، وبالتالي بقاء الرئيس في الحكم، وبالتأكيد فإن هناك من الشعب الموريتاني من سيرحب بذلك، عندما يكون البديل له هو دخول البلاد في حرب أهلية لا تبقي ولا تذر. إن ما يحدث في بعض الدول الشقيقة والمجاورة من فتن سيجعل الغالبية العظمى من الموريتانيين ترحب بالدكتاتورية إذا كانت هي التي ستحمي البلاد من التفكك. لن يختلف الأمر كثيرا عند الشركاء الغربيين، والذين لا تهمهم الديمقراطية في غير بلدانهم، فهؤلاء عندما يجدون مبررا لدعم أي دكتاتورية، فلن يتأخروا في دعمها، ولاشك أن الوقوف في وجه تفكك بلد أخر في مثل هذا الوقت سيكون كافيا لجعل الشعوب الغربية تتقبل من حكوماتها بأن تدعم رئيسا دكتاتوريا في موريتانيا.
هذه مجرد فرضية أخرى، وهي تتناسب مع روح المخاطرة التي يمتلكها الرئيس عزيز، ولكن هذه الفرضية لها أيضا ما يدحضها.
إن الشيء الذي يمكن أن نؤكده هنا، ونحن لا تفصلنا إلا ساعات معدودة عن انطلاق النسخة الثانية من مهازل سبتمبر هو أن الرئيس عزيز يعمل ـ بوعي أو بغير وعي ـ على جعل مثل هذه الحوارات حوارات بلا مصداقية، ولتبيان ذلك، فإليكم ثلاثة أدلة:
1 ـ رفض الرئيس عزيز لتوجيه أي دعوة لمؤسسة المعارضة. إن توجيه دعوة لهذه المؤسسة والتي تنخرط فيها أحزاب مشاركة في الحوار سيحرج زعيمها الذي لن يكون بإمكانه رفض تلبية تلك الدعوة، وحضور زعيم المعارضة لحوار كهذا سيشكل إحراجا كبيرا لحزب هام من أحزاب المنتدى، بل إنه سيشكل إحراجا كبيرا للمنتدى . فلماذا لم يوجه الرئيس عزيز أي دعوة لمؤسسة المعارضة للمشاركة في الحوار وهو الذي يوزع الدعوات ذات اليمين وذات الشمال على كل من هب ودب؟
2 ـ رفض الرئيس عزيز لتقديم أي رد مكتوب على وثيقة الممهدات، ولو أراد الرئيس عزيز أن يعمل على تفكيك المنتدى وعلى إجبار بعض مكوناته على المشاركة في الحوار لقدم ردا مكتوبا، فعند تقديم رد مكتوب، ومهما كانت طبيعة ذلك الرد، فإن الخلاف سيقع بين مكونات المنتدى في تقويمه، فهناك من سيقول بأن الرد كان كافيا وبالتالي فإنه سيشارك في الحوار، وهناك من سيعتبره غير كاف ويرفض بالتالي المشاركة في الحوار. إن تقديم أي رد مكتوب في الفترة الماضية كان سيفكك المنتدى، ولكن الرئيس ظل يرفض تقديم مثل ذلك الرد، وظل بالتالي يعمل ـ بوعي أو بغير وعي ـ على تماسك المنتدى حتى تجاوز هذا المنتدى مرحلة الخطر، واليوم لم يعد تقديم مثل ذلك الرد المكتوب يكفي لتفكك المنتدى، ويرجع الفضل في كل ذلك للرئيس عزيز.
3 ـ الارتباك في تحديد مواعيد الحوار وإهمال الأمور الشكلية التي يتسبب إهمالها في نزع المصداقية من هذه الحوارات. فأي مصداقية لحوار لا يتم التأكد من موعد انطلاقه إلا ساعات من قبل افتتاحه؟ وأي مصداقية لحوار لا يتم تحديد لوائح المشاركين فيه من قبل انطلاقه؟ وأي مصداقية لحوار لا يحصل المشاركون فيه على بطاقات دعوة؟
ما سيتم تنظيمه اليوم لن يختلف عما تم تنظيمه في السابع من هذا الشهر من العام الماضي، ومن المؤكد بأن مهزلة 29 سبتمبر 2016 لن تأتي بنتائج أفضل من تلك التي أتت بها مهزلة 7 سبتمبر 2015.
إن تكرار نفس الأساليب سيؤدي حتما إلى الحصول على نفس النتائج.
حفظ الله موريتانيا..