نشأت الولايات المتحدة الأمريكية صندوقَ النقد الدولي في عام 1944 من أجل ترميم نظام التجارة العالمي بعد انهياره أثناء الكساد الكبير في الثلاثينات والحرب العالمية الثانية. ومنذ نشأته عمِل الصندوق كأداةٍ لخدمة حاجات الولايات المتحدة في سعيها نحو هدفٍ لم تحِد عنه: توحيد السوق الرأسمالي الدولي تحت هيمنةٍ أمريكية.
يتّخذ صندوق النقد الدولي دور الوسيط المالي المُطلق، فهو يقرّر أيُّ الدول مؤهلة للحصول على قروضٍ دولية وأيُّها لا. أُسِّس الصندوق في بادئ الأمر من أجل تقديم قروضٍ للبلدان كي تتمكن من دفع قيمة استيراد المواد والبضائع الحيوية للإنتاج الحديث والحياة الاجتماعية. ولكنّ صندوق النقد الدولي عمل لاحقًا على تنظيم الديون، ودوره الرئيسي حاليًا هو دعم الأنظمة المصرفية المتعثرة. يقرّر الصندوق السياسات المُحدِّدة للأوضاع الاقتصادية لكثيرٍ من الأمم، ومعها هامش الموت والحياة للعديد من الناس.
صندوق النقد الدولي جهازٌ دوليّ – مظهريًا – مكون من 192 بلدٍ عضو، ولكن حتى جريدة «نيو يورك تايمز» صرّحت يومًا في ومضةٍ نادرة من الصراحة بأنّ الصندوق «يتصرف ككلب وزارة الخزانة الأمريكية المدلل». توظِّف الولايات المتحدة تحكّمها بهذا الجهاز المتعدد الأطراف ظاهريًا لتفرض على البلدان الأخرى الإذعان للسياسات الأمريكية الاقتصادية.
صندوق النقد الدولي ونظام بريتون وودز
أُنشِأ كلٌ من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في مؤمترٍ دولي أقيم في بريتون وودز في ولاية نيوهامشر في شهر يوليو لعام 1944. أطّرت هذه المفاوضات بين المنتصرين المترقّبين للحرب العالمية الثانية الهيكل المالي للتسوية الاقتصادية التي جرت بعد الحرب، وكان الكاتبان الرئيسيان لاتفاقية بريتون وودز هما جون مينارد كينز من بريطانيا ووكيل وزارة الخزانة الأمريكية هاري ديكستر وايت. كان وايت أحد يساريّي «الصفقة الجديدة» الرائدين وأعلى مسؤولٍ أمريكيّ منصبًا يُتّهم بالعمالة للشيوعية تحت سطوة المكارثية، وقد ساهم أكثر من كينز في صياغة خطة صندوق النقد الدولي الأصلية وجعلها تتوافق مع الاحتياجات الأمريكية. ولكنّ وايت وافق مراجعة كينز لعقيدة السوق الحرة الكلاسيكية بوضوح، داعمًا التدخل الحكومي لحثّ الطلب وتنظيم السوق كوسيلةٍ للتغلب على نزعة السوق إلى تدمير ذاته دوريًا.
كان هدف صندوق النقد الدولي هو تجنّب تكرار كارثة الثلاثينات، حين قوّضت ضوابطُ صرف العملات نظامَ التسديد الدولي الذي كان أساسًا للتاجرة العالمية. أصبحت التجارة مقيّدة بشكلٍ كبير في الثلاثينات داخل كتل العملات (وهي مجموعاتٌ من الأمم تستخدم عملةً متماثلة، مثل كتلة الإسترليني للإمبراطورية البريطانية). أدّت هذه الكتل لانحسار التدفق الدولي لرأس المال وفُرص الاستثمار الأجنبية. وعلاوة على ذلك، أنتجت سياسات «إفقار الجار» – استخدام تخفيض أسعار العملات من أجل التقليل من قيمة الصادرات وبالتالي زيادتها – التي اتبعتها الحكومات خلال الثلاثينات انخفاضًا انكماشيًا مما أدّى لانخفاض الدخول القومية وانكماش الطلب وانخفاض التجارة الدولية. وفاقم انهيار التجارة الدولية الكساد الكبير. توجّب حينها تحصيح هذه المشكلة، إذ أنّ حضورها كان سيشكّل تهديدًا على توسّع الرأسمالية الأمريكية دوليًا ما بعد الحرب.
شهدت الولايات المتحدة الأمريكية أثناء الحرب نموًا صناعيًا سريعًا وتكديسًا متسارعًا للرساميل بينما كان منافسوها مُنهارين عسكريًا واقتصاديًا. وامتلكت أمريكا مؤقتًا أغلبية رأس المال الاستثماريّ عالميًا ومعه الإنتاج الصناعيّ والصادرات، واستخدمت بالتالي مكانتها المهيمنة لإحياء اقتصادٍ دوليٍّ مفتوح، موحّدًا تحت سيطرة أمريكية تعطيها نفوذًا إلى الأسواق والمواد الخام دون أيّ عوائق. هدفت الولايات المتحدة لاختراق الأسواق المُغلقة سابقًا أمام كتل العملات التجارية الأخرى واستحداث فرصٍ جديدة أيضًا للشركات الأمريكية في الاستثمار الدولي عن طريق إلغاء القيود على التدفق الدولي لرأس المال، وكان أحد مساعي خطّة وايت-كينز لصندوق النقد الدولي هو إلغاء القيود على نقل البضائع والخدمات من بلدٍ لآخر ومحو كتل العملات ورفع ضوابط صرف العملات. يجري التسديد في التجارة الدولية وفق هذه الخطة من خلال عملات قابلة للتحويل، وتكون كلّ هذه العملات قابلة للتبديل إلى الدولار بأسعار صرفٍ ثابتة، والدولار بدوره بالإمكان تحويله إلى ذهب على الطلب. كانت قاعدة معيار الدولار-الذهب هي محور اتفاقية بريتون وودز. ووفق شرح دانييل سينغر:
أنشأ محرّرو الخطة – على الورق – مؤسسة دولية متعددة الأطراف للتعامل مع مشاكل العالم المالية. كان صندوق النقد الدولي في قلب هذه الخطة، إذ خُوّل له الإقرار بتعديلاتٍ استثنائية جدًا على معدلات الصرف الثابتة، بل وأن يعمل أيضًا كموفّرٍ للسيولة (وأصبح تدريجيًا المقرض الأخير). تمكّن صندوق النقد الدولي من تلبية متطلبات هذه الوظيفة بفضل التمويل القادم من مساهمات أعضائه وفق آلية حصصٍ معقدة تحدّدها القوة الاقتصادية للبلد المعنيّ، والتي حدّدت أيضًا مقدار الأموال التي يمكن لهذا البلد استعارتها. ولكي نعرض بدقّة الدور الحيوي للولايات المتحدة، ليس من الكافي أن نشير إلى الحصة الأمريكية من صندوق النقد الدولي، وهي الأكبر بفارقٍ كبير، والتي منعت من اتخاذ أيّ قرار لا توافق عليه واشنطن، وليس من الكافي أنّ نشدّد على أنّ الترتيب المالي الجديد كان معيار تبادل الدولار بالذهب، حيث أنّ كل العملات ارتبطت بقيمة الدولار المقدّرة بخمسة وثلاثين دولار لكلّ أوقيّة ذهب. يتوجّب علينا لكي نصفها بدقّة أن نصف الترتيب والخطة بأكملها كأداةٍ للهيمنة الأمريكية.
سبب السابقة التي أعطيت للوفد الأمريكي ومصالح التجارة الأمريكية واضحة وضوح الشمس. ومع نهاية الحرب، لم يكن هنالك إلّا منتصرٌ واحد من ناحية اقتصادية. امتلكت الولايات المتحدة حوالي نصف الإنتاج الصناعي للعالم، وثلث صادرات العالم و61 بالمئة من احتياطات الذهب. كانت اتفاقية بريتون وودز على نحوٍ ما تسليمًا متأخرًا للسلطة الجديدة. هيمنت بريطانيا على القرن التاسع عشر اقتصاديًا، وأما النصف الثاني من القرن العشرين فقد كان أمريكيًا.
كُلِّف صندوق النقد الدولي بإدارة العجز في الميزان التجاري لعدّة بلدان كي لا يؤدي ذلك إلى انخفاضٍ في قيمة العملة من شأنه أن يؤدي إلى انخفاض في الواردات. يمكن لهذه الدول تجاوز صعوبات التجارة قصيرة المدى وموازنة تسديد العجز عن طريق قروض صندوق النقد الدولي – والتي أطلق عليها حينها حقوق السحب الخاصة – والتي يسّرت تحقيق استقرارٍ في معدلات صرف العملات. عمِل الصندوق فعليًا على تمديد وتوسيع الإجراءات الكينزية – تدخّل الحكومة لدعم الطلب وتجنب الركود – من أجل حماية الولايات المتحدة والبلدان ذات الاقتصادات القوية من اضطراباتٍ في التجارة والنموّ الدوليين. وكان الأهم من ذلك هو أنّه في حال نشأت مشاكلٌ تجارية بنيوية، فسيقوم الصندوق بتصحيحها من خلال تخفيضٍ منظّم لقيمة العملة، عادةً بما لا يتجاوز العشرة بالمئة. يمارس صندوق النقد الدولي «الرقابة» على الاقتصادات الأخرى من أجل وزارة الخزينة الأمريكية مقابل قروضٍ لدعم العملات الوطنية.
كانت الركيزة الأساسية لنظام بريتون وودز، وليس صندوق النقد الدولي إلّا جزءً واحدًا منه، هي التفوّق الاقتصادي الأمريكي منقطع النظير. ولم يُحافَظ وقتها على أسعار الصرف ثابتةً ومستقرة إلّا من خلال قدرة واشنطن على تجاوز المصالح الوطنية المتعارضة والهيمنة عليها وفرض سياستها المالية والنقدية على أوروبا واليابان. بقي النظام على قيد الحياة طوال سنوات الطفرة الكبرى للخمسينات والستينات، حين كان الاقتصاد الأمريكي محرّك النمو والازدهار العالميين، وبُنيت الطفرة الأمريكية على تحفيزٍ حكوميّ هائل عن طريق إنفاقٍ عسكريّ غير منقطع. استهلك اقتصاد الأسلحة الدائم ما بين 8 بالمئة و12 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي ونصف ميزانية الحكومة الأمريكية سنويًا (وميزانية الحكومة الأمريكية اليوم تتجاوز الترليون دولار سنويًا). ولكن لم يكن من الممكن للحكومة الأمريكية ضمان إنفاقٍ عسكريّ ضخم لتحفيز الطفرة إلا مع انعدام وجود منافسٍ مُعتبر في السوق الدولي.
ولكنّ اقتصاد الأسلحة الدائم أصبح بحلول نهاية الستينات أحد الأسباب الرئيسية التي أدّت للانخفاض الأمريكي الاقتصادي النسبي مقارنةً بمنافسيها الرئيسيين، ألمانيا واليابان، واللتان برزتا كمنافستين للولايات المتحدة في السوق الدولي. وبالمقابل، كان أحد العناصر الرئيسية لانبعاث ألمانيا واليابان هو حقيقة عدم اضطرارهما لحمل عبئ الإنفاق العسكري. وبحلول نهاية الستينات، شارفت فترة الهيمنة الأمريكية منقطعة النظير على انتهائها. ساهم كلٌ من الهزيمة العسكرية الأمريكية في فيتنام وتزايد التضخم الذي سبّبه الإنفاق الحربي وأبرزا الانخفاض النسبي للقوة الأمريكية.
كان من الواضح أنّه لم يعد بإمكان أمريكا الإبقاء على هيمنتها على النظام الدولي باستخدام الطريقة القديمة، ولم يعد بالإمكان الحفاظ على نظام اتفاقية بريتون وودز. ومع ضعف الدولار، لم يعد بوسع أمريكا تحمّل تكلفة نظام أسعار صرف ثابته مربوط بالذهب. تلا ذلك سلسلة من أزمات العملات لدى منافسيها الأكثر ضعفًا: أولًا لدى الفرنك الفرنسي، ومن ثمّ الجنيه البريطاني، ومن ثمّ أتى دور عملتها، الدولار. وبعد عامين ألغيت أسعار الصرف الثابتة واستبدلتها أسعار صرفٍ عائمة. أفسحت طفرة ما بعد الحرب العالمية المجال لأزمةٍ اقتصادية طويلة المدى اتّصفت بعودة اختلال التوازن الاقتصاديّ وركودٍ دوريٍّ حاد.
عودة النيوليبرالية: برامج التكييف الهيكلي
أثناء السبعينات، أدّى ضعف القوة الأمريكية وانهيار اتفاق بريتون وودز لانخفاض سلطة المؤسسات العميلة لأمريكا. خسر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي نفوذهما في الأسواق المالية الدولية لصالح البنوك الخاصة ووكالات الائتمان. بدأت البنوك الأوروبية والأمريكية وبالخصوص اليابانية بشغل الدور الرئيسي في تعويم القروض الحكومية.
أعطت أزمة القروض في الثمانينات للولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي فرصةً لإعادة فرض سلطتهما. ولكن في بادئ الأمر، صرفت إدارة الرئيس رونالد ريغن النظر عن صندوق النقد الدولي لرؤيتها له كخادمٍ لتنظيمات الدولة الكينزية المعادية لكفاءة السوق الحرة، ومصدر دخلٍ اشتراكويّ لدول الرعاية الاجتماعية في العالم الثالث. ولكنّ الريغنيين غيّروا نبرتهم بعد الأزمة المصرفية المكسيكية لعام 1982، حين أدركوا أنّ صندوق النقد الدولي بالإمكان استخدامه لإعادة فرض أجندة السوق الحر النيوليبرالية.
ولّدت أزمة «الركود التضخمي» لبداية الثمانينات – ركودٌ حاد صاحبه تضخّمٌ متفشٍّ – انفجارًا في الديون في أرجاء أفريقيا وأمريكا اللاتينية. أصيبت البنوك الخاصة بالذعر لخوفها من خسائرٍ محتملة في القروض وأصبحت غير راغبة في الإقراض. وكانت أكبر عشرة بنوكٍ دولية ورساميلها ومدخراتها مُهدّدة في بلدانٍ مهدّدة بالتخلّف عن دفع القروض. ومن أجل التغلّب على كارثة السوق الحر المحتملة للنظام المالي الدولي، غيّرت الولايات المتحدة دورَ صندوق النقد الدولي لدورِ المقرض الأخير دوليًا. كان دورُه الجديد حينها هو توفير القروض حين ترفض وكالات الائتمان الخاصة ذلك خوفًا من المخاطر. هذا الدور كان مشابهًا للدور الذي لعبه الاحتياطي الفيدرالي وغيره من البنوك المركزية فيما يتعلق بالبنوك الخاصة داخل بلدانهم.
قام صندوق النقد الدولي بتوفير «قروض مرحلية» إلى الدول من أجل تيسير قدرتها على تسديد وإعادة هيكلة القروض التي تسلّفتها من البنوك الخاصة الدولية. وكان لدى الصندوق شروط اقتراض، بمعنى أنّه فرض تشكيلةً من الشروط يتوجّب على البلد المقترض التقيّد بها من أجل الحصول على تمويله. تولّى الصندوق بذلك – لحجم قروضه الهائل ودوره كضامِنٍ للمقرضين الدوليين وعلاقته بالقوة الإمبريالية الأمريكية – سُلطة فرض شروطٍ لم يجرؤ أيّ بنكٍ خاص أبدًا اقتراحها حتى.
كان هدف قروض صندوق النقد الدولي تحت نظام بريتون وودز الأصلي هو منع تخفيض قيمة العملات ودعم الطلب. قبلت الطبقة الرأسمالية الأمريكية بهذه الإجراءات حين كانت الولايات المتحدة المُصَدِّر الأكبر في العالم وامتلكت فائضًا ضخمًا في الميزان تجاري واعتمدت بقية العالم على عملتها لتسديد قيمة هذه الواردات. ولكن في الثمانينات، قَلبَ صندوق النقد الدولي كلّ سياساته السابقة رأسًا على عقب: فرض الصندوق الآن تخفيضًا متعمّدًا لقيمة العملات وتقليصًا إجباريًا للدخل الوطني والطلب من أجل الحد من الواردات، وكلّ ذلك من أجل ضمان تسديد القروض إلى رأس المال المالي الدولي.
لم تُمنَح قروض صندوق النقد الدولي إلّا للبلدان التي وافقت على الإقرار بـ«برامج التكييف الهيكلي»، حيث طالب الصندوق من خلال هذه البرامج بخصخصة الشركات التي تديرها الدولة، وبُرِّرَ ذلك تحت ذريعة ضعف كفاءة مؤسسات الدولة وأنّ تدخل الدولة يؤذي الأرباح. وإن لم تُقبل هذه الأعذار، بُرِّرت ببساطة بذريعة أنّ بيع مؤسسات الدولة سيجمع الأموال الضرورية لتسديد جزءٍ من الديون. وباسم تخفيض العجز والدين الحكومي، أمر صندوق النقد الدولي الحكومات بتخفيض إنفاق الرعاية الاجتماعية على الصحة والتعليم ومعاشات التقاعد، وطالب بتخفيض قيمة العملات من أجل تقليص القيمة الحقيقية للرواتب. كان الهدف هو الحدّ من طلب الواردات والتشجيع على النموّ القائم على التصدير. وقُلِّص أيضًا الدعم المُيسِّر لشراء الأطعمة لصالح زيادة الصادرات.
فَرضت شروط الإقراض الخاصة بالصندوق علاوةً على ذلك «إلغاء الضوابط التنظيمية»، أي إلغاء دعم الصناعات المحلية وخفض الحواجز التجارية، حيث هدفت خطة الصندوق-الأمريكية لتدمير استراتيجية «استبدال الواردات» والتي هدفت للتنمية من خلال أسواقٍ محلية محمية ببضائع بديلة مُنتجة محليًا. وهدفت خطّة الصندوق لاستخدام القروض كسلاحٍ من أجل ترويج الاستراتيجيات «القائمة على التصدير» والخادمة لمصالح الأسواق الأجنبية ومصالح الشركات المتعددة الجنسيات والبنوك الدولية. روّج صندوق النقد الدولي أيضًا لإلغاء القيود على الاستثمارات الدولية وروّج لحوافز من أجل جذب رأس المال الأجنبي.
لم توقّع أي دولة على مثل هذه الشروط الوحشية حتى جعلت أزمة ديون الثمانينات حصولها على قروضٍ أجنبية أمرًا مستحيلًا، وبالتالي لم تتمكن هذه الدول حينها من استيراد الأطعمة والمواد الخام والآليات اللازمة للإنتاج العادي. كانت القروض وسياسات التجارة سلاحًا استُخدِم لتقييد البلدان المُثقَلة بالديون أثر فأكثر بشبكة نظام تجارةٍ عالمي لم يخدم غالبًا إلّا مصالح وحاجات الشركات والبنوك الأمريكية.
في الثمانينات، أقيمت مفاوضاتٌ حول 187 قرض تكييف هيكلي. مثّلت هذه القروض «الدواء المرّ» الذي لا يمكن لأي منظمة سوى منظّمةٍ تبدو في ظاهرها منظمة موضوعية غير ربحية ومتعددة الأطراف مثل صندوق النقد الدولي القيام بها دون الخوف من أيِّ محاسبة سياسية. أدّت برامج التكييف الهيكلي لانتشار الجوع وسوء التغذية والفقر والمرض والموت في أرجاء العالم الثالث. وتحت إشراف وتنفيذ صندوق النقد الدولي، دخلت كلُّ دولة أفريقية تقع جنوب الصحراء الكبرى تقريبًا برنامج تكييفٍ هيكلي، وفي كلٍّ من هذه البلدان، شكّلت تلك البرامج كارثة للشعوب الأفريقية ولم تساعد أبدًا على استعادة النمو. في الثمانينات، انخفض الناتج القومي الإجمالي في البلدان الأفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى بمقدار 2،2 بالمئة سنويًا، وانخفض متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي إلى مستوياتٍ أقلّ من مستويات ما قبل الاستقلال. قامت الحكومات من أجل تسديد قروضها بتخفيض الإنفاق على الصحة بنسبة 50 بالمئة والتعليم بنسبة 25 بالمئة. في تنزانيا، كان الإنفاق على تسديد الديون أكثر بستة أضعاف من الإنفاق على الصحة – وهو التفسير الذي يحتاجه المرء ليفهم سبب كون 40 بالمئة من الشعب التنزاني يموت قبل عمر 35. وكانت موزمبيق التي اجتاحتها الفيضانات في عام 2000 – حيث كان دينها في عام 1998 يعادل 8،3 مليار دولار – تسدد 1،4 مليون دولار أسبوعيًا لتسدد ديونها. دفعت موزمبيق في أقل من سنةٍ واحدة أكثر ممّا تمّ التعهد به لها من أموال إغاثة.
قام صندوق النقد الدولي بـ«تكييف» البلدان: خُفِّضَ إنفاقُ الحكومات للفرد سنويًا منذ 1980 وحتى عام 1987 وحُوِّلت تلك الأموال لتكاليف تسديد ديونٍ متزايدة بالفوائد. وفي أمريكا اللاتينية، ازدادت حصة الميزانيات الحكومية المخصصة لدفع فوائد الديون من 9 بالمئة حتى 19،3 بالمئة. وتحت إشراف صندوق النقد الدولي، أصبحت الثمانينات «العقد الضائع» لأمريكا اللاتينية. في تشيلي، خفّضت شروط إقراض صندوق النقد الدولي الأجور الحقيقية بنسبة 40 بالمئة. وخفّض قرض صندوق النقد الدولي إلى المكسيك في أزمة ديون عام 1982 الأجور الحقيقية إلى النصف خلال العقد التالي، بينما قُلِّصَ الاستثمار في الصحة والتعليم وغيرهما من الأساسيات إلى النصف أيضًاـ وتضاعفت نسبة موت الرّضع خلال تلك الفترة ذاتها في المكسيك نتيجة سوء التغذية ثلاثة أضعاف.
ومع كلِّ ذلك، كانت ديون بلدان العالم الثالث مع نهاية العقد أكبر من وقت بداية برامج التكييف الهيكلي. عوضًا عن «إنقاذ» هذه البلدان، أوقع صندوق النقد الدولي هذه البلدان في شَرك ديونٍ لا منتهية. زاد انخفاض قيمة العملات من جبل الديون، إذ توجّب دفعها بالدولار. وقوّض التقشف نموّ هذه البلدان حتى أصبح من الصعب عليها المواكبة على تسديد الفوائد. دُبِّرت قروضٌ جديدة للحفاظ على تدفّق تسديد الفوائد إلى البنوك، وغرقت البلدان أكثر فأكثر في الديون، مما ألزمها أكثر فأكثر على تخصيص حصصٍ متزايدة من الاقتصاد الوطني كإتاوة للطبقات الرأسمالية الدولية. كان منطق صندوق النقد الدولي هو أنّ الديون ستحفّز نموًا اقتصاديًا من شأنه أن يتيح تسديد الديون، ولكن الحقيقة هي أنّ أغلب الديون الدولية المتواجدة لم تُسدّد إلّا بزيادة التسليف الدولي. منذ 1976 وحتى 1982 تضاعف الاقتراض الأجنبي في أمريكا اللاتينية، و70 بالمئة من القروض الجديدة استُخدِمت لتسديد الفوائد على القروض القديمة.
وعلى الرغم من الكوارث التي سببها صندوق النقد الدولي، نراه أعلن أنّ أزمة ديون الثمانينات حُلَّت عن طريق برامج التكييف الهيكلي الخاصة به، وعزّى نسب النمو المتزايدة والتصدير المتّسع والاستثمار الأجنبي الجديد لبرامجه. ولكن الواقع هو أنّ الديون الدولية لبلدان التكييف الهيكلي منخفضة الدخل ازدادت من 110 مليار دولار في 1980 حتى 473 مليار دولار في عام 1992، وازداد تسديد الفوائد من 6،4 مليار دولار حتى 18،3 مليار دولار خلال الفترة ذاتها. في إندونيسيا، ازدادت نسبة الدين الخارجي ما بين 1980 و1992 من 29 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي حتى 67 بالمئة. هنا زُرِعت البذور لأزمة التسعينات المالية الأسوء.
فرَضَ صندوق النقد الدولي سياساتٍ ضحّت بحياة ملايين العمال والفلاحين وصحّتهم من أجل ربا الطبقة الرأسمالية الدولية. أشارت الأمم المتحدة لانخفاض توفّر الطعام للفرد في نصف البلدان الخاضعة لبرامج التكييف الهيكلي. هذه كارثة خلقها الإنسان، وولدتها سياسات صندوق النقد الدولي التي أجبرت بنغلادش وتنزانيا وبيرو ومصر وباكستان وغيرها من البلدان على إلغاء دعم الأطعمة. أدخلت سياسات السوق الحرة الخاصة بصندوق النقد الدولي أكثر من مليار شخصٍ في بؤسِ عيش حياةٍ بأقل من دولار واحد يوميًا، ومن أجل ماذا؟ من أجل أن «يُنقَل» مقدارٌ ضخم من ثروة هذه الأمم وأموالها إلى جيوب رأسماليين أجانب.
صندوق النقد الدولي وأزمة التسعينات المالية
في الثمانينات، استعيدت القوة العسكرية للإمبريالية الأمريكية، بعد أن دمّرتها حرب فيتنام، تدريجيًا عن طريق مراكمة الأسلحة والتدخل في بلدانٍ صغيرة عاجزة عسكريًا مثل غرناطة وليبيا ولبنان وباناما. هذه التدخلات كانت تمهيدًا لتدخلّاتٍ أكبر في التسعينات – في الخليج الفارسي ويوغسلافيا – والتي هدفت لإعادة إرساء الهيمنة العسكرية الأمريكية. وقياسًا على ذلك، كانت استعادة صندوق النقد الدولي كالمُقرض الأخير في أزمة ديون الثمانينات للعالم الثالث فاتحةً للدور الأكبر الذي سيلعبه صندوق النقد الدولي في أزمة التسعينات المالية مع تصاعد القوة الأمريكية الاقتصادية مجددًا.
ومع تنامي الجبروت الأمريكي الاقتصادي أصبحت مركزيّة صندوق النقد الدولي لسير أسواق رأس المال الدولية واضحًا. أصبحت كلٌ من تايلاند وإندونيسيا وكوريا الجنوبية وروسيا والبرازيل في التسعينات متّكلةً على القوة المالية الأمريكية. ومع أنّ هذه البلدان كانت رسميًا مرتهنةً لصندوق النقد الدولي فهي كانت مدركة تمامًا لعلاقات القوّة الجديدة للإمبريالية. على سبيل المثال، ووفق ما أشار ديفيد ساغنر في صحيفة «نيو يورك تايمز» في الثاني من أكتوبر عام 1997:
حين أوشكت كوريا الجنوبية على نفاذ العملة الصعبة لتسديد ديونها، أرسَلَت قبل ذلك بأيامٍ قليلة مبعوثًا سريًا وهو كيم كيهوان للعمل على خطة إنقاذ. أشار كيهوان لاحقًا: «لم أكلّف نفسي عناء الذهاب إلى صندوق النقد الدولي. اتّصلت بمكتب السيد سمرز في وزارة الخزانة الأمريكية من منزلي في سول، واستقلت طائرةً متجهة لواشنطن واتّجهت إلى الوزارة مباشرةً. كنت أعلم أنّ هذه هي الطريق لحلّ الأمور»…أوفدت وزارة الخزانة ديفيد ليبتون، وهو أكثر مخضرميها خبرةً في خطط الإنقاذ الطارئة، للإشراف من خلف الكواليس على مفاوضات صندوق النقد الدولي مع الحكومة في سول.
كانت وظيفة صندوق النقد الدولي كالمقرض الأخير أمرًا مركزيًا في محاولة احتواء الأزمة المالية لعامي 1997-1998. في أوائل التسعينات، كان متوسط مجموع قروض صندوق النقد الدولي (باستثناء خطة إنقاذ المكسيك في عام 1995) 8 مليار دولار سنويًا، ولكن في الثمانية عشر شهرًا لتلك الأزمة، رتّب صندوق النقد الدولي خطط إنقاذٍ تصل قيمتها إلى 200 مليار دولار، أي ما يعادل خمسة أضعاف خطة مارشال بعد الحرب العالمية الثانية. تجاوز هذا المجموع قدرة أيّ نظامٍ بنكيٍّ خاص أو أيّ وكالة سوى الدولة الأمريكية وفروعها. كان صندوق النقد الدولي يجرّب دورًا جديدًا: العنصر المانع لانهيار النظام المصرفي الدولي.
وأكبر خمس حزم إنقاذٍ لتلك الفترة معروفة جدًا. نشأت كلّها من الهزات التي ضربت الأسواق المالية منذ أغسطس 1997 حتى ديسمبر 1998: تايلاند (17 مليار دولار) وإندونيسيا (43 مليار دولار) وكوريا الجنوبية (57 مليار دولار) وروسيا (21 مليار دولار) والبرازيل (41 مليار دولار). تقصّدت هذه القروض – التي وُفِّرَت بأسعار فائدة أقلّ من أسعار السوق – إعادة رسملة الأنظمة البنكية الوطنية الموشكة على الانهيار من أجل حماية المُودِعين والمُقرضين الأجانب. وفي حزمة الإنقاذ لجنوب كوريا، دفع صندوق النقد الدولي لبعض المُقرِضين الأجانب مباشرةً. ومع حزم الإنقاذ الخاصة بصندوق النقد الدولي و«شروطها»، ضُغِط على البنوك الأجنبية كي أن تعيد مفاوضة قروضِها مع هذه البلدان مع توقع التسديد التام مستقبلًا. بدون قروض الصندوق هذه، كانت هذه الانهيارات المالية ستوعد بأزمة ائتمانٍ دولية، حيث خاف ملّاك البنوك والمصانع في العالم من أنّ البنوك ستعاني من خسائر كبيرة في الرساميل وستصبح أضعف من أن تقدم قروضًا جديدة، وبالتالي معثّرةً سيرورة النظام المالي الدولي ومُدخلةً العالم في دوّامة ركود.
كان هدف برامج التكييف الهيكلي الأول لأزمة 1997-1998 المالية هو إنقاذ البنوك والمستثمرين الغربيين واليابانيين، ولكن في مجال التمويل ليس هنالك ما يسمى بوجبة غذاءٍ مجّانية. تقود الولايات المتحدة «عصبة من الإخوة المتعادين»؛ تقوم بحماية البنوك الدولية تحت مظلتها ولكنّ سياساتها لا تحرّكها إلا مصالحها الخاصة. حاولت شروط إقراض صندوق النقد الدولي إعادة إرساء الهيمنة الأمريكية ولكن هذه المرة ليس على البلدان الفقيرة غير النامية كما في الثمانينات، وإنما على آسيا – دولٌ الدرجة الثانية التي اعتُبِرت حينها أسرع أجزاء الرأسمالية العالمية نموًا. نُفِّذ ذلك على حساب منافسين أمريكا: البنوك الأوروبية، ولكن بالأخص اليابانيين الذين أزاحوا أمريكا في جنوب شرق آسيا في السبعينات والثمانينات.
هذا التنافس ما بين الإمبريالية الأمريكية والإمبريالية اليابانية من أجل جنوب شرق آسيا سمح في بادئ الأمر للأزمة بأن تنتشر وتنمو لأبعادٍ كارثية. في بداية الأزمة الآسيوية، عرضت الحكومة اليابانية تأسيس «صندوق النقد الآسيوي» من أجل الإنقاذ وحجمه كان من المفترض أن يكون 100 مليار دولار. ولكنّ هذا المقترح هدّد النفوذ الأمريكية في آسيا، وهو أمرٌ ترى فيه أمريكا أهميّةً أكثر بكثير من التصدي لانتشار الأزمة. استخدم وزير الخزانة الأمريكية حينها روبرت روبن حقّ النقض على مقترح اليابان بذريعة أنّه سيُضعف سلطة صندوق النقد الدولي، إذ أنّه «أقرب ما يملكه النظام النقدي العالميّ للشرطيّ الفعال» على حد وصف «ذا إيكونومست». علاوةً على ذلك، وفّر إنقاذ المنطقة تحت رعاية الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي للبنوك الأمريكية الغنية بالسيولة فرصةً أفضل لحل محلّ البنوك اليابانية الضعيفة حينها في أرجاء جنوب شرق آسيا كانفتاحٍ أكبر لزيادة اختراق الشركات الأمريكية في المنطقة.
أدّت حزمة إنقاذ تايلاند لتذمّر مجلّة الطبقة الحاكمة البريطانية «ذا إيكونومست»، قائلةً: «تثارُ أسئلة في تايلاند حول السرعة التي سُمِح بها للأجانب باقتناص البنوك والشركات المالية المحلية بعد الموافقة على قرض صندوق النقد الدولي ذو قيمة 3،9 مليار دولار في أغسطس». وأثارت حزمة الإنقاذ الكورية المجلة أكثر حتى أنّها أخيرًا اكتشفت أنّ صندوق النقد الدولي «أصبح تابعًا للسياسة الخارجية الأمريكية» وأنّ «فتح كوريا الجنوبية للبنوك الأجنبية عنصرٌ من عناصر الأجندة الأمريكية ثنائية الأطراف». تجاوزت شروط القروض الآسيوية الخاصة بصندوق النقد الدولي بكثير ما يلزم لتحقيق الاستقرار وتسديد الديون، حيث طالب الصندوق بالسماح للبنوك الأجنبية (والأمريكية خصوصًا) بالدخول مباشرةً – في عمق الأزمة – حتى يتمكنوا من الاستحواذ على البنوك المتواجدة بأسعارٍ منخفضة جدًا. وهذه الحلقة من السطو الأمريكي بُرِّرَت في الصحافة الأمريكية بذريعة أنّ الأزمة المصرفية الآسيوية نشأت عن الفساد الآسيوي، أو ما يسمى بـ«رأسمالية المحاسيب»: تحالفٌ شرّير ما بين الشركات والبنوك والحكومات، وهو على ما يبدو أمرٌ مختلف عن التحالف ما بين الحكومة الأمريكية والشركات الأمريكية وصندوق النقد الدولي!
دعت حزمة الإنقاذ الكورية أيضًا لإعادة الهيكلة هادفةً عمدًا لإفلاس بعض الشيبولات – تكتلات الشركات – المثقلة بالديون، والتي كانت مُنافِسةً شرسة للشركات الأمريكية. أحدها، دايو موتورز، كان لديها مصانع قُيِّمت بأنها أكثر كفاءة من مصانع السيارات الأمريكية. سمح إفلاسها الذي طالب به صندوق النقد الدولي لفورد وجنيرال موتورز بالتنافس على فرصة الاستحواذ عليها بقيمة ستة مليار دولار وهو سعرٌ منخفض بشكلٍ لا يصدّق، وأشارت مجلة «ذا إيكونومست» حينها لكون «غرض صندوق النقد الدولي الخفي» في إنقاذ كوريا الجنوبية «هو فتح الأبواب للشركات الأمريكية».
أنقذت أموال صندوق النقد الدولي البنوك الدولية ونجحت في آخر المطاف بالتزامن مع سياسات مقاومة الانكماش الأمريكية واليابانية في احتواء الأزمة، وذلك مع أنّ 40 بالمئة من العالم أُدخِل في أسوء ركود مرّ به حينها منذ الحرب العالمية الثانية. ولكنّ ذلك الانتصار شابهُ الألم. على سبيل المثال، من الأمور المُقَرّ بها على نطاقٍ واسع في الدوائر المالية الدولية هو أنّ برامج صندوق النقد الدولي ساعدت على مفاقمة الأزمة ونشر «الإنفلونزا الآسيوية». أمَرَ الصندوق بتخفيض قيمة العملات على أساس كون ذلك سيساعد البلدان على حلِّ أزمتها عن طريق التصدير، فخفّضت كوريا، على سبيل المثال، قيمة عملتها – الوون – إلى النصف وخُفِّضت قيمة الروبية الإندونيسية إلى ثلث قيمتها السابقة. فاقم ذلك من ثقل الديون القاصم مسبقًا، حيث لزم تسديدها بقيمة دولارٍ متزايدة في سعرها، ودمّرَ ذلك بدوره الأنظمة المصرفية الوطنية وأدى لانهياراتٍ مالية.
زاد رفع أسعار الفوائد التي أمر بها صندوق الأمر الدولي والمصمَّمة لمنع هرب الرساميل وجذب رأس المال الأجنبي مِن حدّة الانهيار. لم تتمكن الشركات القويّة سابقًا من مواكبة تسديد ديونها وأفلست رسميًا لحملها قروضًا تضاعفت أو ازدادت لثلاثة أضعاف قيمتها قبل اندثار سعر العملة وجرّت معها أنظمة مصرفية وطنية إلى الهاوية. استمرّت الرساميل الأجنبية بالهرب من المنطقة على الرغم من – أو بسبب – برامج صندوق النقد الدولي. حتى البنك الدولي اتّهم صندوق النقد الدولي بالتعامل مع المشكلة بطريقة خرقاء، محوّلًا أزمة إقليمية لكارثةٍ دولية.
روّع فشل استراتيجية الإنقاذ الآسيوية الخاصة بالصندوق أسواق البورصة الدولية وأدّى إلى ذعرٍ بشأن عملات البلدان الناشئة في أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية وأفريقيا في صيف 1998. أصبحت روسيا والبرازيل هي الحلقات الضعيفة الجديدة في النظام الدولي، وفي يونيو لعام 1998، رتّب الصندوق حزمة إنقاذ بقيمة 21 مليار دولار لروسيا، وطمأن المستثمرين بأنّ المعطيات الأساسية الروسية بوضعٍ جيّد، ولذلك شجّع أسواق رأس المال الدولية على تعويم الدين الروسي. احتفظ الأوليغارشيّون الروسيون الذين أداروا البنوك الروسية بالقروض في جيوبهم لكي يموّلوا نقل أصولهم إلى خارج روسيا، وأدّى هرب الرساميل هذا إلى انخفاض سعر الروبل الروسي، مما أدّى إلى ذعرٍ مصرفي ودفع الحكومة الروسية إلى الامتناع عن تسديد الدين العام. وفتح ذلك الأبواب لأزمة صيف 1998 المالية، وقد كانت حينها أكبر تهديدٍ طرأ على النظام المالي الدولي منذ الانهيار المصرفيّ في الثلاثينات. عانت البنوك الدولية من خسائر جسيمة في روسيا على الرغم من ضمانات الصندوق، وأفلست حينها «لونغ تيرم كابيتال مانجمنت»، وقد كانت قبل ذلك صندوق تحوّط تبلغ قيمته المليارات، وتدخّل الاحتياطي الفدرالي لهندسة إنقاذ صندوق التحوط، زاعمًا أنّ تصفية محفظة «لونغ تيرم كابيتال مانجمنت» قد تؤدي لتهديد النظام المصرفي الأمريكي.
انتشرت الأزمة ووصلت إلى البرازيل، ومع تعرّض سياسات صندوق النقد الدولي لتمحيصٍ وغضبٍ شديدين، أُجبِر الصندوق على تعديل سياساته، فرتّب حزمة إنقاذٍ قيمتها 41 مليار دولار للبرازيل، ولكن هذه المرة بشرط ألّا تخفّض البرازيل من قيمة عملتها، وذلك على الرغم من إدراكٍ واسع الانتشار في السوق بأنّ قيمة العملة البرازيلية – وهي الريال – مبالغٌ فيها. ومن أجل الحدّ من تخفيض سعر العملة، أجبرت سياسات صندوق النقد البرازيل على رفع أسعار الفائدة حتى 30 بالمئة وأكثر. ولكنّ الرساميل استمرّت بالهرب من البرازيل عالمة أنّ قيمة عملتها المبالغ فيها لا يمكن لحكومة مفلسة أن تدافع عنها لمدة طويلة. لم تنقذ سياسة الصندوق الريال البرازيلي، ولكنّها ضمنت أنّ البرازيل وأغلب بلدان أمريكا اللاتينية ستدخل أزمة في عام 1999.
كان الأثر الإنسانيّ لشروط إقراض صندوق النقد الدولي على البلدان المتّكلة عليها – ولا يزال – مريعًا. في كوريا، فرض صندوق النقد الدولي سياسةٍ تسريحٍ على مستوىً شاسع، حتى انتشرت نكتة في كوريا تقول بأنّ معنى اختصار اسمه (IMF) هو «I’M Fired» (أنا مطرود). تسبّب ذلك بهجر العوائل الفقيرة أطفالها، حيث سُمّيَ هؤلاء بـ«أيتام صندوق النقد الدولي». وفي تايلاند، أُدخِل عددٌ كبير من الأطفال إلى مجال الدعارة، وفي إندونيسيا انخفضت نسبة الالتحاق بالمدارس بمقدار 25 بالمئة، وفي الأرجنتين طالبت شروط الإقراض بتعديل قانون العمل لإلغاء إمكانية التفاوض النقابيّ على المستوى الوطني ومنح أصحاب الشركات حقّ طرد عمّالهم ساعة يشاؤون. والبرنامج الذي فُرِض على دكتاتورية سوهارتو رفع سعر الأرز بنسبة 38 بالمئة وزيت الطبخ بنسبة 110 بالمئة والوقود بنسبة 70 بالمئة. أشعل ذلك انتفاضاتٍ أدّت لسقوط سوهارتو في عام 1998. أصبحت شروط التقشف التي فرضها الصندوق خطرًا على صحّة الطبقات الحاكمة المحلية، وبذا أُجبِر صندوق النقد الدولي على التراجع: لزم أن تصبح شروط الإقراض أقلّ وحشية خوفًا من حقيقة عدم تمكّن أيِّ طبقة حاكمة محليّة، مهما كانت فاسدة وخانعة للرأسمالية الغربية، من تنفيذها بدون إشعال انتفاضاتٍ مُعتبرة.
على الرغم من الأخطاء التي هدّدت النظام المالي الدولي أجمع وعلى الرغم من السياسات التي ساعدت على إدخال 30 إلى 40 بالمئة من العالم في ركودٍ اقتصادي، خرج صندوق النقد الدولي وأسياده الأمريكيون من الأزمة متبسّمين، فقوّتهم ازدادت مقارنةً بمنافسيهم، وتمّ احتواء الانهيار المالي، والسوق الأمريكيّ أُقِرَّ به كالمستورد الأخير (importer of last resort)، قويٌّ كفاية لاستيعاب الصادرات من عالمٍ ينزلق إلى الركود ومتمكّن من إنقاذ العالم – مهما كان ذلك الإنقاذ مؤقتًا – من دوامة الأزمة.
جعلت كميّة الرساميل التي لا يتمكّن سوى صندوق النقد الدولي من جمعها النظامَ المصرفيّ الدولي مدركًا لاعتماد الصندوق على الإمبريالية الأمريكية. في عصر العولمة، بدأ صندوق النقد الدولي بالتصرف كبنكٍ مركزيّ عالمي تحت سيطرةٍ أمريكية، وهذا دورٌ مهمٌّ جديد للصندوق. مهما كان سوء معالجة الصندوق لأزمة التسعينات، لم يكن هنالك بديلٌ سوى انهيار السوق الحر. ومع أنّ تلك التجربة كانت مريعة بالنسبة للملايين، فقد كانت مُجزيِة لقلّة كما كانت الأيام المُترفة للإمبريالية المبكرة. سبّب صندوق النقد الدولي ضررًا لعددٍ من الناس ليس بوسع أيّ جيشٍ غازٍ أن يضاهيه. الإمبريالية «السلمية» مُميتةٌ كما هو وجهها الآخر: الحرب، وذلك على الرغم من البريق الإنسانوي الذي يحبّ الليبراليون كساءها به. ويا له من انتصارٍ مدوٍّ للإمبريالية الأمريكية – وشركاتها وبنوكها – أنّ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية كُلِّفت بعد ذلك بتكرار ذات السياسات في بلدانٍ أكثر نموًا وأكثر غنًا.
كان الوعي الموقِظ بسياسات هذه المؤسسات المشينة المتعلقة بظروف العمل وبالبيئة – والحركة المناهضة لها – بارزًا في سياتل في نوفمبر وديسمبر لعام 1999 في الحركة المناهضة للعولمة. نُظِرَ لهذه المؤسسات حينها كمؤسساتٍ مرتبطة بطمع الشركات متعددة الجنسيات. وذلك أمرٌ جيّد، ولكنّ النضال ضدّها سيكون أكثر نجاحًا إن رُبطت فظائع آثار هذه السياسات مع إدراك كون هذه المؤسسات تشكّل الذراع الاقتصادية للإمبريالية الأمريكية. والتضامن الأممي اللازم للتغلب عليها يجب أن يكون جزءً من نضال الطبقة العاملة من أجل اشتراكيّةٍ أممية.