أحداث السجن المدني في نواكشوط التي اندلعت بداخله يوم الثلاثاء الماضي كانت تحمل أثرا من دلالة، وكانت بمثابة الناقوس المنذر بخطورة المآلات والأوضاع السيئة التي وصلت إليها الأحوال بسبب الأداء السيئ والرديء لقطاع العدالة في بلادنا وما يمثله هذا القطاع من تكريس للظلم وتشويه لسمعة القضاء، وإساءة بليغة إلى مفاهيم الحق وقيم العدل والمساواة..
هذه الأحداث أكدت كذلك صدق النظرية القائلة إن شدة الضغط تولد الانفجار، وأن سياسة العصا المرفوعة والقبضة البوليسية لا تأتي إلا بأسوأ النتائج..
وبما أن هذه الأحداث وقعت داخل السجن بعيدا عن متناول الصحافة وأعين الجماهير فقد رأيت من المناسب إخراجها من سجنها بحرية كتابية ليستخلص الساسة والمثقفون وعامة الناس ما شاؤوا أن يستخلصوا منها من عبر ومدلولات..
بداية الأحداث وأسبابها
كانت البداية الفعلية للأحداث بعد صلاة العصر عندما سمعنا أصواتا كثيرة تتعالى من داخل السجن، وكنا نعلم أن سجناء الحق العام مضربون عن الطعام منذ يومين بسبب قلة ورداءة الموجود منه؛ حيث أن المديرة العامة للسجون لم تصرف لهم شيئا من المبلغ الزهيد المقرر لغذائهم طيلة هذه الفترة حتى وقف حماره في العقبة، وكنا نعلم كذلك أنه قل أيحظى بالعلاج من السجناء المرضى إلا من أصيب بشلل أو غيبوبة أو نزيف حاد، ومع ذلك لن يحظى بالمتابعة الصحية والعناية المطلوبة، وكنا نعلم أن أغلب نزلاء السجن يبقون فيه لفترات طويلة دون محاكمة، وأن الحريات التي يصدرها القضاء يبقى الكثير منها حبرا على ورق دون تنفيذ لها كما هي حالنا نحن في العنبر رقم (4) منذ أكثر من عشرة أشهر –كما يعلم الجميع- وكنا نعلم أيضا من خلال التجربة أن السلطات لا تبالي بإضراب السجناء ولا بأي نوع من أنواع الاحتجاجات السلمية القانونية التي يقومون بها احتجاجا على الظروف السيئة والأوضاع المزرية التي يعيشونها داخل السجن وتعيشها أسرهم خارجه دون أي عطف أو رحمة أو رعاية ممن غيب عنها الكافل والمعيل؛ لكن الذي لم نكن نعلمه ولا نتوقعه أن تبدأ السلطات بممارسة العنف والقمع بهذه الطريقة العشوائية على السجناء عقابا لهم على الإضراب والامتناع من العد اللذين هما حق يكفله القانون..
المشهد الأول..
أخذت الأصوات ترتفع أكثر فأكثر بصورة غير معهودة، فبادرنا إلى المنفذ الوحيد لعنبرنا الذي هو عبارة عن شباك صغير في الباب بمساحة شبر مربع مقطع بالقضبان العريضة فكان ما شاهدناه كالتالي:
مجموعة من رجال الحرس الوطني مدججين الكرابيج والحجارة يرتدون خوذات واقية يهاجمون السجناء ويرمونهم بالحجارة؛ حيث يبدو أنهم لم يستفيدوا من المثل الشعبي القائل: «المجانين ما ينتعت لهم الزرگ ابلحجار» ومباشرة رد السجناء بحجارة أشد كثافة وقوة، ففرت مجموعة الحرس بسرعة؛ تاركة وراءها بعض الخواذات والكرابيج.. وكاد أحد أفرادها يموت حين مسك به السجناء وأشبعوه ضربا وجرد من زيه الرسمي.. وغير الرسمي.
المشهد الثاني:
بعد أن انسحبت فرقة الحرس مسرعة نحو بوابة السجن، وتمكنت من إغلاق بعض الأبواب بينها وبين السجناء.. بدأت الفرقة المنتشرة فوق سطح السجن ترمي على السجناء قنابلها الدخانية بشكل مكثف؛ مما أدلى إلى تكون غمامة كثيفة من الدخان حجبت الرؤية داخل السجن؛ بما في ذلك العنبر الذي نوجد فيه فقد امتلأ -هو الآخر- بالدخان حتى كدنا نختنق. وللأمانة فإن رجال الحرس لم يتعمدوا -فيما يبدو- رمي شيء منها في عنبرنا؛ لأنهم على يقين تام بأن لا علاقة لنا بالوضع المتأزم بينهم وبين سجناء الحق العام رغم أننا نعاني من الظلم الصريح ما هو أشد وأوضح؛ لكن لم يكن يخفى عليهم أيضا أننا سنتضرر -لا محالة- نظرا لتقارب العنابر وضيق السجن.
لم يفد رمي القنابل الدخانية بكميات كبيرة داخل السجن شيئا؛ بل إنه زاد من غضب السجناء المتمردين ودفعهم للقيام بمزيد من العنف، فانتزعوا الأبواب الحديدية وحطموا كاميرات المراقبة.. وغيرها من المعدات؛ وفي هذه الأثناء قاموا بكسر باب العنبر الذي نحن فيه، وانتزعوه بسرعة دون أن يستغرق منهم ذلك أكثر من دقيقة واحدة تقريبا. وكنا نتوقع أن يهاجمونا وأن ينهبوا أشياءنا عقابا لنا على عدم مشاركتنا لهم في الإضراب؛ لكن كانت المفاجأة أنه لم يقع شيء من ذلك، وأن مجموعة منهم اتجهت نحو الكاميرات وهشمتها ثم رجعت إلى الباب ووقفت به تحرسنا وكبيرهم يقول: "اطمئنوا أيها الدعاة.. نحن هنا نحرسكم، ولن ينالكم أحد بسوء؛ لأننا نعلم أنكم طيبون ومظلومون وليست عندكم مشكلة" أذكر هنا أن أحد الزملاء قبل نزع الباب خاطب رجال الحرس الواقفين على السطوح يتابعون ما يحدث قائلا لهم: "تعالوا انزلوا ووفروا لنا حماية من جموع هؤلاء الغاصبين قبل أن يقتحموا علنيا حيث يوجد من بينهم لاشك قتلة مجرمون" فأجابه أحدهم: "احموا أنفسكم فنحن لا نستطيع الآن أن ينفعكم بشيء" ثم اختفى؛ بينما قال آخر: "نحن لا يعنينا ما يحدث في الداخل؛ المهم أنه لن يخرج أحد منهم رأسه من السجن إلا فتتناه بالرصاص".
وفي هذه الأثناء أخذت مجموعات كبيرة من السجناء تتجه نحو البوابة الرئيسة للسجن؛ لكن الحرس طلبوا منهم التوقف عن ذلك مقابل توقف الحرس عن رمي القنابل الدخانية عليهم فوافقوا على ذلك.
المفاوضة.. والحل
ثم طلبت منهم قيادة الحرس وإدارة السجن إرسال مندوبين للتفاوض؛ لكنهم رفضوا. وبقي الوضع على هذه الحالة المؤذنة بالانفجار في أي لحظة. إلى أن طلبوا منا التوسط بينهم وبين السلطات التي لا يثقون بما تقول –حسب تعبيرهم- ثم أرسل نقيب الحرس بواسطة سطح السجن؛ لأن الداخل لم يعد بإمكان حرسي أن يدخله –أرسل هو الآخر- إلى الإسلاميين يريد منهم قبول الوساطة فتطوع أحدهم لها هو الآخر؛ حيث استمرت إلى ما بعد منتصف الليل دون التوصل إلى اتفاق نهائي.
وفي الصباح تم قطع الماء والكهرباء بالكامل عن داخل السجن؛ مما أدى إلى انتشار العطش بين السجناء الذين هددوا بالرد على ذلك بإشعال حريق في السجن إذ لم يصلهم الماء قبل الساعة الواحدة وتجدر الإشارة هنا إلى أنها ليست المرة الأولى التي تستخدم فيها سلطاتنا الأمنية الجوع والعطش وسيلة للعقاب والتعذيب ضد المعتقلين والسجناء.
وفي الزوال استؤنفت المفاوضات بحضور المفتش العام للسجون والمدعي العام لدى المحكمة العليا ومديرة السجون، وتم التوصل في نهايتها -بعد عدة ساعات من النقاش- إلى اتفاق ينهي الأزمة بين المساجين والإدارة، ويتضمن استجابة السلطات لأغلب مطالب السجناء؛ فأنهى السجناء عصيانهم وبدأت عملية إصلاح ما تلف وإعادة تركيب أبواب العنابر،وانتهت أزمة الـ24 ساعة داخل السجن المدني بنواكشوط.
بسبب الإهمال الرسمي
أصبح السجن مركزا للمخدرات وأكاديمية كبرى لفنون الإجرام
بدلا من أن يحظى السجن المدني -كما في سجون الدول الأخرى- بعناية خاصة لإعادة تأهيل نزلائه وإصلاحهم وعلاجهم نفسيا وتكوينهم معرفيا ومهنيا ليخرجوا منه -بعد قضاء فترات العقوبة- وهم أعضاء صالحون في المجتمع فإن السلطات الرسمية -على العكس من ذلك- تتخذه مجرد مكان تحشر فيه المجرمين والأبرياء المظلومين على حد سواء؛ ولا تبذل لهم أية عناية تذكر، بل تترك الحابل فيه يختلط بالنابل.. مما جعل عتاة المجرمين فيه هم سادة الموقف وليس بإمكان أي نزيل بداخل السجن أن يخرج عن هيمنة أحدهم. والطابع العام للحياة داخل السجن تطبعه مظاهر الإجرام كاستعمال المخدرات والمشاجرات والضرب والطعن بالسكاكين، والسب والشتم والكلام الساقط، وممارسة عمل قوم لوط، والسرقة والتبجح بارتكاب مختلف أنواع الجرائم، وشرح أمثل الطرق العملية لارتكابها أمام بقية السجناء؛ مما يجعل الداخلين للسجن -ممن لهم قابلية لتعلم الإجرام- يتخرجون منه وقد حصلوا على دورة مجانية مكتملة في فنون الإجرام؛ الأمر الذي يزيد بشكل دائم من انتشار الجريمة وتفشيها في المجتمع، وتعريض أرواح الناس وممتلكاتهم وأعراضهم للخطر..
أما السجناء الذين ليست لهم قابلية لتعليم الإجرام فإنهم يتأذون ويتضررون ضررا بليغا له انعكاساته وتأثيراته النفسية الخطيرة من كثرة ما ينالهم من أذية ومن كثرة ما يشاهدون ويسمعون من سيئ الأقوال والأفعال.
ولو أن السلطات المعنية كانت توجد لديها الإرادة الصادقة لإصلاح السجن لفعلت ذلك؛ لكن هذا هو مكمن الخلل وأصل الكارثة..
ولا يفوتني في هذا الصدد أن أذكر بالرسالة التي أرسلتها مجموعة العلماء والدعاة المسجونين في العنبر رقم (4) من السجن المدني قبل أربعة أشهر إلى وزير العدل يطلبون فيها إتاحة الفرصة لهم للقيام بواجب الدعوة والتعليم والإصلاح داخل السجن؛ بعد أن منعوا من القيام بذلك من منابر مساجدهم.
وهي الرسالة التي لم تلق أي تجاوب، ولم تحظ برد من الوزير ولا من أعوانه.
وفي الأخير لابد من التنبيه على أن عقوبة السجن -وغيرها من العقوبات التعزيرية والمنصوصة شرعا- هي مما يلزم تنفيذه بحزم في حق مرتكبي الجرائم حماية للمجتمع وردعا للمجرمين؛ لكن ذلك لا يعني جواز ظلم السجين وتعدي حدود الشرع في حقه والاعتداء على كرامته أو تعريضه لما يزيده فسادا ويزيد من نقمته على الدولة والمجتمع وعزمه على ارتكاب المزيد من الجرائم.. كما لا يجوز تعريض أي سجين لما يفسد دينه أو أخلاقه أو يضر بصحته، مثل جعله في مكان واحد مع أناس فاسدين أو مصابين بأمراض معدية..
وإلى أن يبزغ فجر إصلاح حقيقي وتستيقظ الضمائر وتنبعث الإرادة الصادقة لدى المسؤولين يبقى السجن المدني أكاديمية كبرى لتخريج المجرمين، ومركزا لنشر الجريمة والفساد بين سكان مدينة نواكشوط وغيرها من مدن الوطن، فرحماك يا الله وحفظك لعبادك الضعفاء.
الأستاذ محمد محفوظ ولد إدومُ
(عنبر سجناء الرأي الإسلاميين)
السفير: العدد 348 بتاريخ 21 يوليو 2006