لو طلبت مني المشاركة في الحوار المنعقد الآن في قصر المؤتمرات بانواكشوط لما قبلت لأن جدية المساعي المماثلة توجب التمهيد لها باجتماعات خبراء يعدون أوراقا تكون مدارا لنقاش العوام والخواص ومن العبث بمكان جمع الناس من مشارب وتخصصات مختلفة لنقاش معضلات شتى في وقت وجيز.. وكنت في الحقيقة أود أن أعقل قلمي خوفا من التشويش على الإخوة المؤتمرين تحسبا لإمكان حدوث معجزة ما.. ولكن الحديث عن تعديل الدستور وقصور الحوار بدل شموله والقنوط من نتيجة إيجابية أرغماني على إبداء رأي في الموضوع.. ولأنني اعتدت مواجهة الإستخفاف بدساتير بلادي (كما أثبت في مقالاتي وفي كتابي مباحث في سبيل العدل الذي نشر سنة 2010) لم يطاوعني ضميري في التخلي عن مؤازرة دستور الجمهورية في هذا الظرف الخاص (1).. كما أن الإعتداء على الملكية الفكرية بإقحام آرائي، في الحوار، وتحويرها دون استشارتي أو نسبتها إلي على الأقل خرق يستحق التنبيه المواجهة (2) كل ذلك وغيره يدعوني إلى تجديد حث الموريتانيين المخلصين إلى التفكير في سبل تسوية الإرث العسكري في بلدهم (3).
1.
ليس من السهل على من يعتقد سمو الدستور ومكانته في النظام القانوني عقل قلمه بينما يعبر بعض المترددين في قصر المؤتمرات عن مسعى صريح لتذليل أب القوانين والعبث به.. لا بد أن ندرك أن تعديل الدساتير ليس بالعمل الهين فلا بد من إجماع وطني مرجعي ولجان تأسيسية ملمة ومدة طويلة إذ ليس من السياسة ولا الكياسة في شيء نحر دستور الجمهورية في وسط غير معقم وترك العوام ينهشون أعضاءه النبيلة ويتراشقون بها.
السعي لتعديل الدستور في هذا الظرف نوع من الهروب إلى الأمام فالأولى أن يحترم الموريتانيون حكاما ومحكومين القواعد الموجودة أولا حتى يكون لتعديلها معنى فلا يجوز أن نحترم القانون الأساسي عندما يصادف هوى في أنفسنا ونسعى لتعديله عندما لا يحقق مصالحنا الضيقة. يتعين أن ندرك أن التعديلات الدستورية المزمعة ستكلف الشعب الموريتاني، بغض النظر عن التجاذبات السياسية ونتائجها المحتملة، أعباء كبيرة في زمن الشح ولن تفضي للنتيجة التي يتوقع المنظمون فحتى لو مهدوا لاقتراع عام ونجحوا في الوصول إليه فإن الكثير من المواطنين لن يكلف نفسه عناء الذهاب إلى مراكز التصويت لاعتباره الأمر عبثا، خاصة وأن ثمة قوى معارضة ستقيم الحملات وتعمل على إقناع المواطنين بأن الإستفتاء مجرد انقلاب على الدستور وتكريس للحنث في اليمين وسيجدون نسبة معتبرة من الشعب تصوت بلا للتعديلات.. سيدرك، الإخوة بعد فوات الأوان، أنهم أهدروا إجماع الموريتانيين على قانون أساسي مهم لبقاء الدولة.
2.
لعل من الأفكار الأكثر رواجا في الحوار الوطني، المنعقد في انواكشوط هذه الأيام، الحديث عن أهمية إلغاء بعض المؤسسات المزدوجة.. وقد تضمنت الوثيقة الصادرة أمس (6 أكتوبر 2010) عن حزب الإتحاد من أجل الجمهورية اقتراحا يتعلق بالإستعاضة عن المجلس الإسلامي الأعلى ووسيط الجمهورية بالمجلس الأعلى للفتوى والمظالم.. دون الإشارة إلى اقتباس أصل الفكرة من مقال نشرته عدة مواقع، منها الأخبار، بتاريخ 15 يناير 2016 تحت عنوان: “علة انفصام المرافق العمومية في موريتانيا“.. وناقشته قناة شنقيط التلفزيونية آنذاك في برنامج “استديو التحرير” الذي استضاف لذلك الصحفي أحمد ولد محمد المصطفى، رئيس تحرير موقع الأخبار.. وقد تضمنت النسخة الفرنسية من المقال المعنونة:
Services Publics Analogues en Mauritanie SPAM
الذي نشر على موقع Cridem بتاريخ 12 فبراير 2016 نفس الثلاثية التي تضمنتها ورقة الحزب الحاكم دون الإشارة إلى اقتباسها الذي لاحظه بعض الثقات الحاضرين للحوار. ولا مراء في أن من المخالف لقواعد الملكية الفكرية تضمين آراء الآخرين في وثيقة عمومية دون نسبتها لهم. ولعل أسوأ ما في ورقة الحزب الحاكم اقتراح تغليب مرسوم على قواعد دستورية أقرها الموريتانيون وضمنوها في دستورهم وإلا فما الفرق جوهريا، في التسمية، بين “المجلس الإسلامي الأعلى” و”المجلس الأعلى للفتوى والمظالم”.
3.
يجب أن يتعاون الموريتانيون عسكريين ومدنيين على “تسوية الإرث العسكري” في حكم البلاد وأن تتضافر جهودهم لتسيير كيانهم الجامع بطريقة حضارية تحقق مصالحه وتكفل له احترام الآخرين فكما أن من غير اللائق أن تسند قيادة الجنود للمدنيين لا يفلح العسكريون عادة في تسيير الشؤون المدنية ولذلك يتعين على قادتهم إعلان البراءة منها.
وكما كتبت في مقال “تسوية الإرث العسكري” فإن “المسؤولية الكبرى تقع على الرئيس محمد ولد عبد العزيز، زميل العسكريين ورئيس المدنيين الذي بدأ العد التنازلي لمأموريته الأخيرة، وهي مأمورية يتصرف فيها الرؤساء عادة بحرية ويقظة ضمير، لذلك يتعين عليه أن يطلب تقريرا مسببا عن درجات الدولة الموريتانية في آخر التقارير الدولية وأن يأمر باستقصاء حول الأوضاع العامة للبلد وأن يبادر إلى المساهمة الجادة في تسوية الإرث العسكري بإعادة الاعتبار للتخصص والتقيد بالقانون وتبني الدراسات قبل العزم وبإرساء الدولة على أسس أكثر مدنية وشفافية.. ولن يتمكن من ذلك إلا بطاقم متخصص يتبنى أساليب مدروسة ومقنعة.”.
وقد حملت تصريحات الناطق الرسمي باسم الحكومة، مساء الخميس 6 أكتوبر 2016، المتعلقة بجواز إهدار مبدأ التناوب السلمي على السلطة بحجة أنه حديث على بلدنا صفعة للمدنية في هذه البلاد لأن ذلك المنطق يعني دعوة الموريتانيين للتنازل عن الدولة الطارئة والتخلي عن القيم الجمهورية وإخلاء الرئاسة ومختلف المرافق والإستعداد للعودة لحياة البادية التي، رغم تعلقي الشخصي بها، أعتقد أنها لم تعد تناسب كياننا خاصة بعد أن قضى الأمراء نحبهم ولم يعـد في بيدائنا من يقيم العـدل.
* محامي موريتاني
[email protected]