في كلمته بمناسبة انطلاقة "الحوار الوطني الشامل، توعد رئيس حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، الشعب الموريتاني بأنه سيكون "بعد أيام على موعد مع موريتانيا جديدة" يتم رسم معالمها من خلال خريطة سيسجلها التاريخ باعتبارها وسام شرف على صدور صناعها!
ومع أن أياما مرت - بل أكثر من نصف شهر- وموريتانيا ما تزال كما كانت، إلا أن وثيقة –أعدت على عجل ومن دون كبير عناية- قدمها حزب الاتحاد للمتحاورين تستطيع على الأقل أن تكشف أبرز ملامح موريتانيا الجديدة التي بشر بها رئيس هذا الحزب، حيث اقترحت على المتحاورين "مبدأ صياغة دستور جديد يرسم ملامح الجمهورية الثالثة".
ومن دون الدخول في تفاصيل وثيقة أقل ما يمكن أن توصف به أنها تفتقر للجدية المطلوبة في عمل يمتلك الجرأة لادعاء القدرة على تحطيم جمهورية قائمة وبناء جمهورية جديدة، فإننا سنسلم جدلا هنا بأن الوثيقة ستنجح في تحقيق أهدافها وأن إجماعا سيحصل بين المتحاورين على "الجمهورية الثالثة". فهل يكون الأمر قد انتهى حينها لتتحقق نبوءة رئيس الاتحاد ولو متأخرة؟ أم أن الأمر يتطلب إجراءات أخرى ما تزال تنتظر مخرجات الحوار في ملتقى الطرق المؤدي إلى إمكانية إحالة الدستور الحالي إلى سلة المهملات؟
لقد كان رئيس الجمهورية أكثر صدقا ووضوحا حين وعد الشعب بأنه سيعرض نتائج الحوار على الشعب للمصادقة عليها وهو ما يعني أن الأمر يتعلق بعملية مراجعة للدستور لها أحكامها وإجراءاتها وليست مجرد نزهة كما يتصور بعض متهوري الساسة. هنا تظهر كفاءة خبراء القانون الدستوري الذين نجحوا في الابقاء على مساحات ولو ضئيلة تظل خارج الإرادة المنفردة لرئيس الجمهورية، من ضمنها المجال الخاص بمراجعة الدستور التي تواجهها عقبات تهدد بتأجيلها أو حتى بالوقوف في وجهها.
أحكام مراجعة الدستور:
خصص الدستور الموريتاني بابه الحادي عشر لمراجعة الدستور، محددا بأن كلا من رئيس الجمهورية وأعضاء البرلمان يملكون مبادرة مراجعة الدستور وأن أي مشروع مراجعة مقدم من طرف البرلمانيين، لا يناقش إلا إذا وقعه على الأقل ثلث أعضاء إحدى الغرفتين. أما المصادقة على مشروع المراجعة فتتطلب تصويت ثلثي النواب وثلثي الشيوخ ليتسنى تقديمه للاستفتاء (المادة 99).
تعتبر مراجعة الدستور نهائية إذا نالت الأغلبية البسيطة من الأصوات المعبر عنها في الاستفتاء (المادة 100).
لا يقدم مشروع المراجعة للاستفتاء إذا قرر رئيس الجمهورية عرضه على البرلمان مجتمعا في مؤتمر. وفي هذه الحالة لا يصادق على مشروع المراجعة ما لم يحصل على أغلبية ثلاثة أخماس الأصوات المعبر عنها. (المادة 101).
هذا بالإضافة إلى الفقرة 3 من المادة 99 التي تحظر من بين أمور أخرى الشروع في أي إجراء يرمي إلى مراجعة الدستور إذا كان ينال من الصبغة الجمهورية للمؤسسات أو من مبدأ التناوب الديمقراطي على السلطة والمبدأ الملازم له الذي يحدد مدة ولاية رئيس الجمهورية بخمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة طبقا لما تنص عليه المادتان 26 و 28 من الدستور.
عقبة مجلس الشيوخ:
يتطلب مشروع مراجعة الدستور إذا ليتسنى عرضه على الاستفتاء، مصادقة ثلثي النواب وثلثي الشيوخ. وإذا كانت السلطة تمتلك أغلبية جاهزة داخل الجمعية الوطنية، فإنها قد تواجه صعوبات كبيرة في الحصول على أغلبية ثلثي الشيوخ لصالح مشروع مراجعة يتضمن الشطب بكل بساطة على مجلسهم من منظومة المؤسسات الدستورية.
فلا أحد يجهل حجم الرفض الذي يعبر عنه الشيوخ لفكرة القضاء على مجلسهم وهو الرفض الذي أدى في وقت سابق لأزمة قوية مع الحكومة وحزبها، لم يتم التغلب عليها إلا بتدخل من الرئيس فرض على كل من الوزير الأول ورئيس الحزب الحاكم أن يقدما اعتذارهما للشيوخ. فهل تم تجاوز الأزمة حينها بشكل نهائي، أم أنها تمت تهدئتها فقط على أن تنفجر بقوة في وقت لاحق حين تبدأ الإجراءات الفعلية للإجهاز على مجلس الشيوخ؟
يتحدث مراقبون عن أن الجمر ما زال ملتهبا تحت الرماد في انتظار هبوب عاصفة مشروع المراجعة، بل يتم تداول معلومات حول لقاءات متواصلة يجريها صقور الشيوخ وأن موقفا علنيا رافضا للتعديل الدستوري قد يصدر من وقت لآخر، مع أنه تجدر الاشارة إلى وجود مجموعة معتبرة من شيوخ المعارضة جاهزة لدعم شيوخ الأغلبية في رفض توفير نسبة الثلثين لمشروع المراجعة المنتظرة.
عقبة المجلس الدستوري
من بين المهام المسندة للمجلس الدستوري أنه يسهر "على صحة عمليات الاستفتاء ويعلن نتائجها" (المادة 85 من الدستور).
وفي حالة ما إذا ظهر مجلس الشيوخ كعقبة فعلية أمام مشروع المراجعة المقترحة، لن يصبح أمام رئيس الجمهورية سوى محاولة القفز فوق هذا العائق–على غرار سابقة غامر بها رئيس فرنسي سابق- انطلاقا من تصور كون نفوذه الشخصي أقوى وأوسع من سلطاته الدستورية.
في مثل هذه الحالة يمكن للرئيس أن يلجأ مباشرة لاستفتاء شعبي حول "الدستور الجديد" وحينها لن يبقى مجلس الشيوخ المتمرد مكتوف الأيدي. لكن ما الذي يمكنه فعله في هذه الحالة؟
ما دام الأمر يتعلق بانتهاك صريح لأحكام المادة 99 من الدستور، فلماذا لن يكون متاحا أمامه التقدم بطعن لدى المجلس الدستوري في "عمليات الاستفتاء" باعتبارها نتاج إجراءات تنتهك مادة صريحة من الدستور؟
سؤال قد يجيب عليه الخبراء الدستوريون بطرق مختلفة، غير أن المجلس الدستوري بتشكيلته الحالية والخلافات الموجودة بين بعض أعضائه مع سلطات عليا في البلاد والاستياء المتولد لديه من طريقة الشطب عليه هو الآخر، كل ذلك قد يدفعه لعدم رؤية حليف أفضل من المادة 99 وعندها ستجد الجمهورية نفسها أمام أزمة قد تكون لها تداعيات خطيرة خصوصا على مستقبل السلطة الحاكمة!
عقبة الاحتقان الجهوي
أظهرت التطورات الحاصلة في قاعات الحوار وامتداداتها الإعلامية، أن الجدل الدائر بدلا من أن يقرب وجهات النظر بين المتحاورين، قد ساهم إلى حد بعيد في توسيع الشروخ الحاصلة أصلا ليس فيما بين المتحاورين فقط بل داخل المجتمع ككل.
وبشكل خاص أججت بعض المواضيع المعروضة للنقاش احتقانا جهويا غير مسبوق، كما ساهم الطابع العرقي والفئوي والطائفي أحيانا لبعض المواضيع في بروز اصطفافات تجاوزت حدود الانتماء الحزبي، لصالح مواقف خصوصية مدمرة للانسجام المواطني. وهو ما كشف مستوى ضعف مؤسسية الأحزاب المتحاورة الفاقدة لأي نفوذ على أعضائها والعاجزة عن تأطيرهم للمشاركة بإيجابية في حدث بحجم "الحوار الوطني الشامل".
ويمكن القول اليوم بأن هذا الاحتقان الجهوي غير المسبوق، الذي ينضاف للائحة الاحتقانات السابقة أصبح يهدد نجاح الحوار وأكثر من ذلك إمكانية التصويت بالموافقة على مخرجاته إذا ما تم تنظيم استفتاء حولها.
الفخ المنصوب للرئيس
قد لا يظهر انطلاقا من النظرة الأولى للعقبات التي تواجه مخرجات الحوار، أننا أمام فخ منصوب للرئيس بل إن كلمة الفخ قد تبدو خارج السياق، لكن إذا ما دققنا النظر في مصدر هذه العقبات نجدها نتاج جهود مجموعة محددة ممن منحهم الرئيس ثقته، بغض النظر عن ما إذا كانت قد خططت لذلك بوعي أم أنه جاء نتيجة عدم كفاءتها وسوء تدبيرها، وإلا فمن كان السبب في تفجير الأزمة مع مجلس الشيوخ ودفعه للتمرد من خلال الاستفزاز المتكرر له والتجني عليه؟ ومن جعل من الحوار الحالي مسرحا لتصفية الحسابات وشغل المتحاورين بمواضيع شائكة أو خارج جدول الأعمال؟
تنضاف إلى ذلك فكرة "الجمهورية الثالثة" المستوحاة من تجربة فرنسية مشؤومة، تلك الجمهورية التي أعلنت بأغلبية صوت واحد والتي انهارت نتيجة هزيمة عسكرية مذلة. وبالنظر إلى أن التعديلات المقترحة لا ترقى لمسوغات إعلان موت جمهورية وولادة أخرى، فإن فكرة "الجمهورية الثالثة" لا تعدو كونها محاولة لدفع رئيس الجمهورية لمواجهة استحقاق انتخابي سابق لأوانه ربما لثنيه عن محاولة تنظيم انتخابات بلدية ونيابية سابقة لأوانها قد تطيح بمنتخبين كثر والأهم من ذلك أنها قد تطيح بالحكومة وملحقاتها.
بالفعل ما يجري هو محاولة محمومة لدفع الرئيس لوضع كل ثقله خلف استفتاء محاصر بالعقبات وغير مضمون النتيجة سلفا. وهنا يكمن الفخ لأن الرئيس حين يتبنى مجموعة من الاصلاحات معتبرا بأنها تمثل إصلاحات جوهرية بالنسبة للبلاد، فإنه لن يألو جهدا في سبيل تمريرها، لكن ماذا لو جاءت نتيجة الاستفتاء سلبية ووجد الرئيس نفسه في مأزق محرج؟ ألا يعتبر التجييش الحالي داخل الأغلبية ضد مخرجات الحوار، إسنادا قويا للمعارضة الجاهزة لبذل الغالي والنفيس من أجل إفشال استفتاء يضر بسمعة الرئيس ويجعل وضعه أكثر هشاشة؟
والمشكلة أن الوقوع في هذا الفخ قد يقود إلى ما هو أبعد من إحراج الرئيس لأن هذا الأخير حين يربط مصيره السياسي بنتائج الاستفتاء، قد يجد نفسه مضطرا للاستقالة حين ترفض أغلبية الشعب الموافقة على إصلاحاته. وهو ما لا يمكن أن يفوت على من أحكموا نصب هذا الفخ من ذوي الثقافة الفرنسية بالنظر لشهرة السابقة الفرنسية –أيضا- في هذا المجال.
ألم يكن رفض الفرنسيين للإصلاحات التي طرحها الجنرال ديغول في استفتاء 1969 –في خضم الغليان الثوري الناجم عن أحداث 1968- سببا مباشرا في استقالته من الرئاسة واختفائه من المشهد السياسي؟
السفير