عندما تستسلم أمة لتعيش الحاضر من خلال الماضي فقط حتما ستكون النتيجة مَرَّضية غير طبيعية، حينما نقرأ التاريخ نجد أن الكثير من الحضارات السابقة ضاعت واندثرت بعد تمسكها بمعيقات حالت دون استمرارها واستهلاكها لذات الموروث والمعروف من العلوم دون أي إنتاج جديد، ونأيها عن التفكير ورفضها لكل من ينتقد الفكر السائد في عصرها.. حالة مشابهة نعيشها اليوم ضمن العديد من التحديات والضعف ومواجهة لخطر الإنقراض الحضاري وهو خطر حقيقي يتربص بنا ويمنعنا من التقدم، وذلك من خلال تمسكنا الشديد بتلك الموروثات والعادات والتقاليد التي تعادي وتحد من التحضر.
نواكب اليوم سرعة في التغيير ضمن واقع مُعاش يحمل تدهورا واضحا في جميع مناحي الحياة، وما بين الإعتدال والتطرف يأخذ الدين موقعه الحالي لتغدو ظاهرة التدين والتعصب تملأ المجتمع وتكاد تغلق كل حيز به، فلا تترك مجالاً لم تتفاعل به سواء كان سياسيا أم اجتماعيا أم غيره من المجالات المختلفة، أصبحنا نشهد تحولات خطيرة فيما بين النصوص المتشددة التي أصبحت أكثر انتشاراً لتحل مكان تلك النصوص المعتدلة التي عهدناها قبل سنوات، كما أصبحت الهوية الدينية هي الهوية الطاغية بحيث تلغي أي هوية أخرى مهما كانت، مما يحد من التعددية والتنوع والاختلاف والمشاركة في تسيير الحياة، فلا يُفسح المجال للنقاش أو الحوار أو التفكير بصورة مغايرة عن المعايير الدينية السائدة، فكل ما هو مختلف هو كفر وكل من هو كافر مستباح!
هناك دائما حكم مسبق يدعو لإلغاء الآخر ورفض وجوده لا لشيء إنما فقط لأنه مختلف، فحين يعادي الإنسان صديقه أو جاره أو زميله أو حتى أخاه لمجرد أنه يختلف معه بالرأي أو المعتقد فهذا يعني بأنه لا يؤمن بالحرية والديمقراطية، وحين يؤيد رفضه وعدم الإعتراف به أو الإعتداء عليه لمجرد الاختلاف فهذا يعني تهديده في كينونته الإنسانية ووجوده مما يحرض على قبول الجريمة ويزرع الكراهية بين أبناء المجتمع الواحد.. إن من يتحلى بالأخلاق الإنسانية الرفيعة لا يمكن أن ينتهج وسائل الضغط والفرض بالقوة للدفع بالآخر نحو تغيير قناعاته، فمفهوم قبول الآخر المختلف بالفكر أو الرأي أو الدين أو العرق أو غيره، يعني القبول به كما يريد لنفسه وكما هو وليس كما نريد نحن له أن يكون وذلك بما يكفل حقه بالمساواة مع الجميع.
هذا الوضع جعل مجتمعاتنا تعيش حالة من الإنفصام حيث نعاني من عقدة الخوف من آراء الناس المخالفة ووجهات نظرهم، هذا الخوف الدائم والمقارنة فيما بين لغة الحياة العصرية وبين حياتنا اليومية جعلنا نعيش معضلة الثنائية فيما بين الحداثة والتقليد لندور في دوامة مفرغة وطريق ضيق المخارج، مما دفع بالكثير من الناس للتوجه نحو التدين بتطرف فأصبح لا يسيطر على عقولهم إلا أطياف الماضي وما كانت عليه المجتمعات الإسلامية في حالة من الإزدهار خلال فترة عصرها الذهبي، لدرجة إيمانهم المطلق بأن الحلول تقبع في الماضي فقط وفي نهج الإسلام السياسي!
عملياً لم ينتج هذا التفكير سوى عقلية متعصبة تتبلور حول الثقافة والتراث القديم بكل ما يحمل من أساطير وقصص حقيقية أو خيالية أو رموز.
هذه العقلية ترفض رفضا مطلقا كل ما هو جديد من الأفكار والقيم الإنسانية كالديمقراطية وتقبل الآخر المختلف دينيا ونبذ الخرافة وغيرها، فكل هذه الأفكار مختلفة ودخيلة وكل ما هو دخيل هو خطر عليهم التخلص منه بحيث لا تدرك هذه الفئة من الناس بأننا في سباق حقيقي مع الزمن فإما أن نقضي على التخلف أو يقضي هو علينا، ولا يخفى على أحد بأننا نعايش موجة طاغية من الهوس والتعصب الديني، وها نحن نسمع من كل مكان أصواتا تنادي بعدم التفكير، إياك أن تفكر، إقبل واستسلم! رواج سوق الخرافة بات في ازدياد ونسمع فتاوى لا حصر لها من هنا أو هناك، نستقبل منهم كل غريب ومنغلق باحترام وإقبال أملاً في النجاة من واقع أليم، ويتم التسويق لقصص أشبه بالميثولوجيا الخرافية، ونتلقى كل هذا ونعيشه يوميا مما يؤثر على نفسية الفرد ويحدد ملامح شخصيته ومستوى تفكيره وتكوينه النفسي وإنتاجه الإنساني، بالتالي نحصل على واقع متخلف غبي مشوهاً للإنسان عقلا وروحاً..
من خلال هذا الحضور الطاغي للأديان يتحكم بنا الماضي فيسيطر على مجتمعاتنا ويصادرها ويصادر معها عقولنا وأفكارنا وتطلعاتنا ومستقبلنا، ولا زلنا نمرر كل هذا باحترام وتبجيل ونستغرب بأننا لا زلنا نعيش واقع التخلف في أوطاننا!
نحن حينما نعول على الدين كاعتقاد إنساني ليكون هو المنقذ الوحيد فقط دون مسيرة جادة من العلم والعمل علينا أن نعي بأن الأزمة الإنسانية التي نعيشها اليوم ستتفاقم بشكل خطير وستصبح أكثر تعقيدا.
فلماذا لا تأخذنا عقولنا إلى مساحات واسعة من الإنفتاح الحضاري ؟ وبالطبع هذا لن يحصل إلا إذا حررناها من أسر الماضي.
لماذا لا ننظر حولنا فنرى العالم بكل شفافية ووضوح، ولماذا لا ندرس مجتمعاتنا وأمراضها ومشاكلها ونلاحظ مجتمعات الآخرين بتقدمها وإنسانيتها وتفوقها الحضاري ؟ لماذا لا نتعلم من تجاربهم وأفكارهم العلمية والإجتماعية والإنسانية، فنأخذ منها كل ما هو مفيد وأساسي ونحاول بناء مجتمعات تواكب كل هذا التقدم العلمي والحضاري ؟ إلى متى سنعيش في حصن الماضي السحيق ومتى سندرك بأن الماضي ليس سوى ملاذ من لا حاضر ولا مستقبل له….
إن السياسة هي المحرك الديني لدى الشعوب، لقد بتنا ندرك بأن تصاعد التوترات السياسية هي السبب المباشر في تشبث الناس بالماضي وتدينهم المتطرف في محاولة يائسة للهروب من الواقع الحاضر وصعوبته أو التخفيف من حدته مما يخدم بعض المصالح السياسية من خلال طرحها لرسالة دينية ذات أبعاد سياسية.
أرجو أن لا أُفهم بشكل خاطئ فأنا موحدة بالله بإيمان تام ولم أكن يوما ضد الأديان كما أنني مؤمنة باحترام الرأي الآخر ونبذ العنف وحب الخير وكل القيم الأخلاقية التي تسمو بالإنسان وترتقي به ولها أنادي وأكتب دائما، ولا أمتلك أي توجه سياسي ولم أنتم يوما إلى أي حزب أو حركة سياسية، وكم أكره السياسة لأنها تُدخل
كل ما حولنا في نطاقها، فهي تقرر حياتنا ومصائرنا وتأكل وتشرب معنا في ذات الإناء، وتصادر عقولنا وتنام وتصحو بيننا بإسم الدين!
صباح بشير
كاتبة من فلسطين