قد يضطر مقاتلو تنظيم «الدولة الاسلامية» للخروج من مدينة الموصل، وقد تنتهي المعركة هناك إلى تسديد ضربة قاسية للتنظيم على مستوى وجوده في العراق وسوريا، لكن هزيمة التنظيم بشكل نهائي تبدو مستحيلة عبر معارك من هذا النوع، هي أشبه بمعارك الكر والفر، والأمر ذاته ينسحب على الضربات الجوية التي يتلقاها التنظيم والتي لا يمكن أن تؤدي إلى سحقه أو إنهاء وجوده.
من يريد هزيمة تنظيم «الدولة» فعليه القضاء أولاً على أسباب وجوده، فهو ليس جيشا نظاميا من الممكن أن يخوض معركة وينهزم فيها فيتقهقر ويتلاشى، لكنه منظومة فكرية منحرفة تعشش في أدمغة مجموعة من الناس المقهورين والمضطهدين ممن يرون فيها انتقاماً لحالة الاضطهاد التي يعيشونها، وهذا ما يعني أن الخلاص من التنظيم ومقاتليه يقتضي بالضرورة تجفيف منابعه الفكرية وإنهاء الظروف الموضوعية التي أدت إلى نشوئه وظهوره، وأولها الشعور الجمعي العام لدى الطائفة السنية في أكثر من مكان (سوريا والعراق بشكل خاص) بأنهم الفئة المضطهدة والمغلوبة على أمرها، على الرغم من أنهم الأغلبية.
تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) ظهر في أعقاب موجة من التحولات التي شهدتها المنطقة العربية، التي بدأت بالغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وما تلاه من انتهاكات بشعة لم يعرف لها العرب مثيلاً من قبل، بلغت ذروتها وتجلت بشكل واضح في الصور التي تسربت عن سجن أبو غريب، ثم جاءت مجازر النظام السوري لتستهدف التجمعات السكانية المصنفة على أنها «مناطق السُنة» لتسكب مزيداً من البنزين على النار، وهو ما تزامن في الوقت ذاته مع موجة الثورات المضادة التي شكلت ضربة لآمال وطموحات ملايين الشباب الذين وجد كثير منهم أن التغيير السلمي لم يعد ممكناً في العالم العربي.. وبين هذا وذاك بدأت الأنظمة العربية حملة تستهدف التيارات الإسلامية المعتدلة، وهو ما يُغذي –بالضرورة- التيارات المتشددة.
تُدرك الكثير من الأنظمة العربية أن استهداف التيارات الاسلامية المعتدلة يؤدي إلى انعاش المتطرفين، والشواهد على ذلك كثيرة ولا تحتاج لأذكياء حتى يتأكدوا من ذلك، ومن يُحدق في تاريخ كل من مصر والجزائر يُدرك هذه الحقيقة، إذ أن موجة العنف التي ضربت البلدين خلال القرن الماضي كانت ناتجة عن حملات استهداف سابقة استأصلت «الاسلام المعتدل» فاتجه المحبطون واليائسون إلى حركات التطرف والتشدد وجنحوا نحو العنف. لكن المشكلة اليوم أن بعض الأنظمة العربية باتت ترى في الإسلام السياسي المعتدل تهديداً لوجودها بسبب أنه يخرج منتصراً من أي عملية انتخابية، أو ثورة شعبية، ولذلك فإن هذه الأنظمة باتت معنية أصلاً في تعزيز التيارات المتشددة دون غيرها لأنه يُصبح من السهل محاربتها وتحريض العالم ضدها!
وبالعودة إلى معركة الموصل البائسة، فان الطريق لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» لا يمكن أن يبدأ بالهجوم على الموصل أو الرقة، ولا بمزيد من المجازر في حلب وإدلب، وإنما ينبغي تغيير الظروف الموضوعية التي أدت إلى ظهور التنظيم وترعرعه وتحوله إلى واحد من أكبر الدول العربية، حيث يُسيطر التنظيم اليوم على مساحة جغرافية تزيد عن مساحات ست دول عربية على الأقل، فضلاً عن أن أكثر من ستة ملايين مواطن يخضعون لحكمه اليوم.
الحرب ضد «داعش» والقضاء على التنظيم تبدأ بوقف الاستهداف الطائفي في العراق وسوريا قبل كل شيء، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا بتحرك دولي جدي يفرض السلام ويُحقق الأمن لسكان المدن المنكوبة في كل من العراق وسوريا، وبعد ذلك فعلى العالم أن يدعم الحراك السلمي للتغيير في العالم العربي لأن فشل التغيير السلمي يعني دوماً شيوع حالة من اليأس والقنوط قد تدفع في كثير من الأحيان إلى تعزيز العنف والرغبة في التغيير بالقوة، وبين هذا وذاك فلا يمكن القضاء على تنظيم «الدولة»، وغيره من التنظيمات المتطرفة والعنيفة، إلا بتعزيز وجود الحركات الاسلامية المعتدلة وتركها تعمل في النهار، وكف أيدي بعض الأنظمة العربية عن محاربتها، لأن هذه الحركات هي الضمانة الأساسية لمحاربة الارهاب وهي الوسيلة الأنجح والأصح لمحاربة الفكر المنحرف، فالأفكار لا يمكن مواجهتها بالسلاح ولا بالحرب، وإنما بالعقل والاقناع والفكر البديل.
لهذه الأسباب كلها، فان معركة الموصل ليست سوى حلقة جديدة من حرب عبثية، سيدفع ثمنها الأبرياء ولا أحد غيرهم، وستكون مناسبة جديدة لارتكاب مزيد من المجازر بحق النساء والأطفال والشيوخ ممن لم يتمكنوا من الهروب حتى الان، ومناسبة جديدة لمزيد من الشحن الطائفي المدمر الذي تشهده المنطقة.
محمد عايش
كاتب فلسطيني