العاصمة السياسية والإدارية لجمهورية مالي وأهم مدنها اقتصاديا وإستراتيجيا. يعني اسمها بلغة البامبارا “بحيرة التماسيح”، كانت أهم معاقل الاستعمار الفرنسي بالمنطقة قبل أن تصبح عاصمة البلاد بعد استقلالها سنة 1960.
تحتضن باماكو زائرها بسرعة، لكنها لا تبوح له بأسرارها بسهولة، فلا يستطيع اكتشاف كل خصائصها دفعة واحدة، فهي تفضل أن تحتفظ بما يمكنها من خصوصياتها، وتترك لزائرها اختيار النافذة التي يراها منها.
حين تحلق بك الطائرة فوق العاصمة المالية باماكو لا يمكنك أخذ صورة عنها تقدمها لقارئك، أو تحتفظ بها في دفتر رحلاتك، فالمدينة بلا ملامح، هي تماما كما يعنيه اسمها بلغة البامبرا (أكبر إثنية في مالي) “بحيرة التماسيح”.
من الأعلى تبدو لك باماكو أشبه ببقع طحلب متناثرة على صفحة الماء، تتنقل عيناك بين مروج خضراء، ومرتفعات تغطيها النباتات، يكاد بعضها يلامس أجنحة الطائرة وهي تقترب من المطار.
تقع باماكو على ضفاف نهر النيجر الذي يُقسّمها إلى ضفتين تربطهما ثلاثة جسور، أقدمها جسر الشهداء الذي أسس سنة 1957، ثم جسر الملك فهد المبني سنة 1992 بتمويل سعودي، ثم جسر الصداقة المالية الصينية المدشن سنة 2011، وتبلغ مساحة المدينة نحو 247 كيلومترا مربعا حسب تقديرات البرنامج الحضري الرسمي في مالي سنة 1996.
على الأرض لا تمنحك باماكو الفرصة لتتأمل ما حولك، فلا تكاد تعبر بوابة المدينة الجنوبية في حي “سالا بوبو” حتى تحيطك الأحياء، فيلفت انتباهك تجاور البيوت المتواضعة والفلل الفاخرة، ربما لتشعرك باماكو منذ البداية بأن الفقر والغنى يتساكنان هنا أبدا.
وحين تعتلي جسر الشهداء -أقدم جسور المدينة- لتعبر نهر النيجر في اتجاه الجزء الشمالي من المدينة تفاجئك إطلالة قصر “كلوبا” الرئاسي على المدينة من الشمال، في مشهد يحيلك إلى مكانة القائد في الثقافة الشعبية، وربما يذكرك بطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم في هذه المنطقة من العالم.
احتضانها للزوار
تحتضن باماكو زائرها بسرعة، لكنها لا تبوح له بأسرارها بسهولة، فلا يستطيع اكتشاف كل خصائصها دفعة واحدة، فهي تفضل أن تحتفظ بما يمكنها من خصوصياتها، وتترك لزائرها اختيار النافذة التي يراها منها.
تأخذك بحيائها وانفتاحها المتلازمين بساطة أهلها وغموضهم، انفتاحهم وتحفظهم، في ثنائية ربما تعود جذورها إلى معتقدات قديمة؛ فـ”التومو” الذي يشكل أحد المقدسات لدى بامبرا يجسده قناع على شكل رأس ظبي بعينين واسعتين، وفتحة فم ضيقة، في إشارة إلى التحفظ في الكلام، والتمعن بعمق في ما حولك، تجنبا لأي مطبات أو عوائق.
شوارعها معرض مفتوح، تعكس محتوياته من المنحوتات والملابس والمصوغات حضارة الماليين وثقافاتهم، ويجد فيه الزائر مبتغاه، من ثمرة “المانجو” إلى آخر ما أبدعه العقل الياباني من أجهزة إلكترونية.
تتنوع المشاهد والزوايا الملفتة في باماكو، لكن ربما أكثر ما يشد انتباهك أينما توجهت موجات الدراجات النارية الصغيرة المنصبة في شوارع المدينة كعرق الماليين في رحلة كدهم السرمدية.
وتبدو علاقة الماليين بالدراجة “دياكرتا” -كما يسمونها نسبة إلى موطنها الأصلي إندونيسيا- وثيقة ومتأصلة، فهي رفيقهم المؤتمن، تحملهم وأثقالهم، وربما أثقالا مع أثقالهم.
بطولات ومواقع سياحية
منذ اللحظة الأولى تأخذك باماكو في جولة عبر تاريخها من خلال النُّصُب التذكارية، وتكشف لك انتماءاتها الحضارية والجغرافية، مجسدة في شخصيات ورموز لها مكانتها وحضورها في ثقافة الماليين وحضارتهم.
بين الشخصيات الرمزية والمناسبات التاريخية تتنوع النصب في باماكو وتتعدد دلالاتها، تستحضر نضالات الماليين والأفارقة، دون أن تنسى آلام أشقاء في الدين لا يزالون يعانون القتل والتنكيل على يد المحتل الصهيوني في أرض الإسراء والمعراج.
في حي “كالابانكورا” الشعبي بـالضاحية الجنوبية لباماكو يستقبلك نصب “سوغولون” (أو الجاموسة) ليذكرك بملحمة “سوندياتا كيتا” مؤسس إمبراطورية مالي التاريخية، ورمز البطولة لدى قبائل الماندينغا، ثم يستوقفك وأنت تخطو شمالا “نصب السلام” تعلوه تلك الحمامة التي تحاول الإقلاع دون جدوى، تماما كما هي الحال في هذا البلد.
وفي قلب المدينة ينتصب الزعيمان الأفريقيان التحرريان الكونغولي باتريس لومومبا، والغاني كوامي نكروما، وغير بعيد من الأخير يستحضر الماليون علاقتهم بـالمسجد الأقصى والشعب الفلسطيني وشهدائه، من خلال ساحة القدس حيث مجسم الأقصى ونصب الشهيد محمد الدرة.
نصب المدينة تخفف شحوبها وتقدمها بروح جمالية، لكنها أيضا تشكل مصدر اعتزاز لطيف واسع من الشباب المالي، الذي لا يزال الحلم الأفريقي يسكنه، حسب تعبير عضو المكتب التنفيذي لشباب أفريقيا عبد الله سليمان ميغا.
ويقول ميغا إن لكل واحد من هذه النصب قصة تذكرك بزمن العزة، فوجود لومومبا ونكروما هو استذكار واحتضان لقادة النضال الأفريقي، ونصب الاستقلال يرتفع في المكان الذي أهان فيه المستعمر أحد الوجهاء الماليين حيث أنزله عن مقعد في اجتماع عام وأجلسه على الأرض ليمنح مكانه لأحد الفرنسيين.
أما الباحث في مجال التراث ومساعد مدير المتحف الوطني المالي ساليف مالا فيقول في حديث للجزيرة نت إن النصب تحكي فصولا من تاريخ وملاحم الشعب المالي، لتقدمها للأجيال بأسلوب يضفي مسحة جمالية على ما يقرؤونه في المناهج التعليمية، وهي إلى جانب ذلك تحاول أن تقدم هذا التاريخ للزائر ليتعرف على مالي حضارة وشعبا وانتماء.
محطات بارزة
ويشير ساليف إلى أن بعض النصب يجسد محطات بارزة في تاريخ مالي الحديث، كما هو حال نصب الاستقلال الذي يخلد النضال ضد المستعمر، في حين يشكل بعضها تخليدا لملاحم تاريخية، مثل نصب سوغولون (الجاموسة) الذي يجسد إحدى شخوص ملحمة “سوندياتا كيتا” التاريخية، ويرمز إلى الدور المحوري لوالدة الإمبراطور وقواها الخارقة، وفقا للحكايات المؤسِّسَةِ في ثقافة قبائل الماندينغا.
وتجسد ساحة القدس وتمثال “الطفل الشهيد” (محمد الدرة) بعدا آخر في ثقافة الماليين له مكانته الخاصة في النفوس حسب تعبير سليمان ميغا.
ويقول ميغا إن “القدس جزء من مقدساتنا، والمسجد الأقصى ملك لنا كما هو ملك للفلسطينيين، وحين نساند نضالهم فإنما نقوم بواجبنا”.
ويضيف بلغة عربية فصيحة “رغم بعد المسافة، ومحدودية التواصل فإن الأقصى يبقى في القلب، وتظل نضالات الغزاويين وكل أهل فلسطين مفخرة لكل مسلم وكل حر ومناضل من أجل العدالة والحق، هكذا تعلمنا، وعلى ذلك تربينا”.
الهروب من الزحمة
وجد الماليون في “دياكرتا” وسيلة نقل رحيمة بالجيب، قادرة على التسلل بسلاسة وسط الزحام، لذلك أحبوها وتوطدت علاقتهم بها، وباتت علاقة سكان جنوب البلاد بها شبيهة بعلاقة أهل الشمال بالجمل.
باماكو (ظهر التمساح) نشأت في القرن 17 الميلادي من اندماج أربع قرى متجاورة، قبل أن تخضع للاستعمار أواخر القرن 19، لتصبح مركزا إداريا يتبع قيادة المستعمرات الفرنسية لغرب أفريقيا في داكار.
نشأت المدينة في البداية على الضفة الشمالية لنهر النيجر، لكن النمو الديموغرافي فرض التوسع العمراني فتمددت إلى الضفة الجنوبية، واحتفظ الشمال بالأسواق التجارية القديمة، والطابع الأفريقي للعمارة، واحتضن الجنوب أغلب الدوائر الحكومية، والأحياء الحديثة نشأة ومعمارا.
باماكو اليوم تشكل الواجهة الخارجية للبلاد ومركزها التجاري، وتحتفظ ذاكرتها بالكثير من الحكايات، وتحتضن في قلبها إثنيات وقوميات تمثل “مالي الجنوبي”، وتحاول أن تتقرب إلى “مالي الشمالي”.