ظهرت في شرق أفريقيا عدة مقاومات شعبية ضد كل أشكال الاستعمار الأوروبي, منها مقاومة “ناتدي” في كينيا، وقبائل “وَهَيْهَي” (Wahehe)، ولعل من أبرزها؛ انتفاضة أبوشيري بن سليم الحارثي .
بالرغم من أن فكرة الكيان الوطني كانت مفقودة بسبب خضوع جزيرة زنجبار والشريط الساحلي المطل على المحيط الهندي لسلطة سلطان زنجبار، والمناطق الداخلية الخاضعة للقبائل المتناحرة فيما بينها، كـ “مساي” (Massai) و “وهيهي” في الجنوب و “نغوني” (Ngoni) في الوسط، إلا أن الأهالي لم يتقبلوا هذا الوضع الجديد والمتمثل في التنافس الإمبريالي علي أراضيهم، فقاموا بثورات وانتفاضات ضد الإمبريالية الألمانية وتواجدها بالبلاد، على الرغم من أنها كانت ثورات إقليمية محدودة الإطار الجغرافي، ولم تستطع تجنيد وتوحيد كل القبائل بسبب العداء التقليدي والحروب الدائمة فيها إضافة إلى تطبيق الألمان سياسة “فرق تسد” (1).
نظم سكان تنجانيقا الساحليون مقاومتهم حول شخصية وزعامة “أبو شيري” ، وكان ساحل تنجانيقا يغلب عليه من الوجهة الاجتماعية الثقافة الإسلامية, شأنه شأن ساحل كينيا، فهنا كان يعيش خليط من العرب والأفارقة يتزاوجون فيما بينهم بدون قيود ويتولون أمور التجارة المحلية، وكان عرب السواحل آنذاك – أي في القرن التاسع عشر – قد عملوا على زيادة نشاطهم زيادة كبيرة في المناطق الداخلية نتيجة للطلب على العاج والرقيق، وقد أدت هذه التجارة التي كانوا يريدون أن يحلوها مكان تجارتهم إلى اثارة حفيظة السكان المحليين وتشديد الخناق عليهم، وبخاصة العرب (2).
من هو أبوشيري؟
ولد أبو شيري قائد حركة المقاومة هذه عام 1845م ، لأب عربي وأم من الأورومو وكان حفيدا لواحد من المستوطنين العرب الأوائل الذين أقاموا على الساحل، كأحد أفراد جماعة اعتبرت نفسها من السكان المحليين، وقد قاوم كغيره سلطة نفوذ زنجبار على الساحل ودعا إلى الاستقلال(3).
أسباب الانتفاضة:
لقد جاءت انتفاضة أبوشيري في شرق أفريقيا لعدة اسباب منها:
1ـ معاهدات الحماية الألمانية:
تمكن المغامر الألماني “كارل بيترس” ، الذي أسس الجمعية الألمانية الاستعمارية من السفر سرّيا إلى شرق إفريقيا، وخلال ستة أيام أبرم اثنتي عشرة معاهدة مع رؤساء بعض القبائل في شرق إفريقيا، تقرر بموجبها تنازل رؤساء القبائل عن أراضيهم وحقوقهم فيه (4).
وبعد ستة أيام في زنجبار، بدأت الجماعة رحلتها غربا، عبر إقليم “ساداني” (saadani) وسارت بسرعة حتى وصلت إلى إقليم “أوساغارا” (Usagara)، حيث بدأت عملها مع الرؤساء والمشايخ المحليين في المنطقة، وكانت ثلاثة أسابيع كافية للقيام بالعمل ففي 17 ديسمبر كان “كارل بيترس” في زنجبار مرةً أخرى يحمل معه اثنتي عشرة معاهدة، تعطي لجمعيته السيادة على منطقة واسعة في “أوساجارا” و “أوسيجوا” (Useguha)، و “أوكامي” (Ukami) و “نغورو” (Nguru), وكانت هذه المعاهدات قصيرة وبسيطة، تمنح لجمعيته كل هذه الأراضي وما عليها من منشآت لاستخدامها لصالح الاستعمار الألماني، ولم ينس أن يذكر في آخر هذه الاتفاقيات أن هؤلاء الشيوخ هم سلاطين وملوك مستقلون ويتمتعون بكامل هذه السيادة(5).
كما وقّع “كارل بيترس” معاهدة بتاريخ 23 نوفمبر 1884م مع سلطان “نغورو” (Nguru) “مافينجي بنياني” (Mafungu Biniani) يتنازل فيها عن كل الحقوق لصالح ألمانيا. وأوضح له شفويا أنه وفقا للقانون الألماني, فإن هذا التنازل يشمل سيادة الدولة والممتلكات الخاصة، ويعطي “بيترس” أو ممثل الجمعية الاستعمارية الألمانية الحق في اختيار المزارع والطرق والاستفادة من التربة والغابات والأنهار، كما له الحق في استخدام المستوطنين كذلك في إقامة نظام إداري وقضائي وبيت للجمارك. ومقابل هذا التنازل والاستحواذ يتعهد “بيترس” بالدفاع عن السلطان وشعبه، ويترك المجال لحرية السلطان في ملكيته الشخصية الخاصة، وفي اليوم الثاني تم توقيع المعاهدة واعتبر سلطان “نغورو” صديقا لألمانيا (6).
2ـ معاهدة 1886م (29 أكتوبر إلى 1 نوفمبر):
شكل “وليام ماكينون” – الذي كان رئيس مجلس الملاحة البريطانية في الهند – وبعض الرأسماليين البريطانيين شركة شرق إفريقيا البريطانية، وكان ذلك في عام 1885م، إذ تلقت الشركة الميثاق الملكي في سبتمبر 1888م، ولأنه يود اختلاف حول الأراضي الموجودة بين الساحل والبحيرات, اقترحت الحكومة البريطانية والألمانية تعيين اللجنة لترسيم حدود أراضي زنجبار، إذ وافقت الحكومة الألمانية على اقتراح “سالسبوري” (Salisbury) القاضي بدراسة المطالب على أساس المعاهدات الموقعة مع الرؤساء الأفارقة (7 )، ونصت المعاهدة على أن:
– تعترف كل من بريطانيا وألمانيا بحقوق سيادة زنجبار بإفريقيا الشرقية، في جزر زنجبار و بمبا ،و “مافيا” و “لامو” ، وعلى الشريط الساحلي الممتد من نهر “مينيغي” عند رأس “تونغي” جنوبا لغاية “كيبيني” الواقعة عند مصب “تانا” شمالا، وهو شريط يبلغ طوله تسع مئة ميل وعرضه عشرة أميال، وعلى مدن “كيسمايو”، براوة” ، “ماركا” ، “مقديشو” ، و “زينج”، والأراضي التابعة لها في الداخل، على أن لا يزيد امتداد هذه الأراضي للموانئ الأربعة الأولى عن عشرة أميال وبالنسبة للمدن الأخرى عن خمسة أميال(8).
-تؤيد إنجلترا ألمانيا في مفاوضاتها مع السلطان للحصول على امتيازات في جمارك دار السلام و “بانجاني” (Pangani) لشركة شرق إفريقيا الألمانية(9).
– يقسم الإقليم الواقع بين نهر “روفوما” و “ناتا” إلى منطقتي نفوذ، ويمر الخط الفاصل بينهما عند مصب نهر “أومبا” (Umba) إلى بحيرة “جيب” “jipe”، يمتد من هناك بين مقاطعة “شاجا” و “تافيتا” إلى القاعدة الشمالية لسلسلة جبال “كلمنجارو” ، ثم إلى النقطة التي يقطع فيها خط واحد درجة من خطوط العرض جنوبا، إلى الشاطئ الشرقي من بحيرة “فيكتوريا”.
– تتعهد كل من الدولتين بأن لا تتدخل في منطقة نفوذ الأخرى بعقد معاهدة حماية، أو بالحصول على أراضي أو بعرقلة نشاطها بأي شكل من الأشكال .
– تستخدم إنجلترا وساطتها للتسوية الودية للخلافات التي قد تنشأ بين السلطان، وبين الشركة الإفريقية الألمانية بخصوص منطقة كلمنجارو.
-تعترف الدولتان بأن ساحل ويتو يبدأ من خط الساحل الممتد من كيبيني، حتى أقصى خليج ماندا(10).
إن أسباب هذه الانتفاضة تكمن في تنازل السلطان للألمان عن الشريط الساحلي لمدة خمسين عاما، بما في ذلك حق فرض الضرائب على الأهالي وجمعها، خصوصا إذا ما علمنا أنه جرت العادة أيام حكم السلطان السماح للكثير من رؤساء القبائل بفرض الإتاوات على القوافل التجارية العابرة لأراضيهم، وعليه اعتبر ذلك تهديدا لمصالحهم من الناحية السياسية والاقتصادية، وبالتالي تجريد زعماء كأبي شيري بن سليم الحرثي و “بوانا هيري” (Bwana Heri) من هذا الامتياز.
ويمكن فهم الأسباب الحقيقية لهذه الثورة، أنها كانت نتيجة لنشاط الشركتين الألمانية والبريطانية ، فقد نتج عن تقلد الشركتين الألمانية والبريطانية مهام الحكم والإدارة في الشريط الساحلي الخاضع لسيادة سلطنة زنجبار (أي الشريط الساحلي بين تنجانيقا وكينيا) أن قام الأفارقة والسواحليون والعرب بمحاولة أخيرة يائسة للتخلص من سيطرة الألمان والإنجليز على السواحل، ومع أن ساحل تنجانيقا انقلب إلى ميدان حرب حقيقية إلا أن ساحل كينيا لم يشهد حوادث ذات عنف أو شغب ذات بال، ويرجع ذلك إلى سياسة “جورج ماكينزي” مدير شركة إفريقيا الشرقية البريطانية في “مومباسا” تلك السياسة التي قامت على أساس استرخاء الأهالي واحترام سيادة سلطان زنجبار في الظاهر بالإضافة إلى “حرص ماكينزي” وصبره الشديدين.
كان الألمان متحمسين لوضع إدارة استعمارية في نهر “أومبا” (Umba) ، مثل البريطانيين الذين وضعوا المسؤولية الاستعمارية في شركة تجارية، و في عام 1882م وقع القنصل البريطاني في زنجبار اتفاقية مع السلطان “خليفة” ، تكون بموجبها الشركة الألمانية حرة في تنظيم التجارة وربط الاتصالات والتنقيب عن المواد الأولية والمعادن وجمع الضرائب في أملاك مقاطعة سلطنة زنجبار، وبدأت الشركة في تطبيق هذه الاتفاقية في أُغُسْطُسَ برفع علمها في عدة مدن على طول ساحل المستعمرة، وكان كارل بيترس يمثل هذه الجمعية وبدأ في توسيع السيادة الألمانية بالقوة والعنف.
انزعج العرب من نشاط المبشّرين والوسائل التي لجأ إليها لجلب السكان، مع أنهم في البداية قد تجاهلوا تحويل الأفارقة إلى المسيحية، لكن ازدياد نشاطهم خاصة في ازدياد النفوذ البريطاني والحماية التي يحصل المبشرون عليها من قبل الشرطة والجيش، وعليه لجأوا إلى إقامة هذه الشعائر التنصيرية علانية في أسواق “مومباسا”، وقد وصل بهم الأمر إلى أن أصبحت راهبات جمعية الكنيسة التبشيرية تقوم بزيارة النساء العربيات في منازلهن ووعظهن, وقد حذر “ماتيوس” في مومباسا من شعور الأهالي المناهضين الذين تثيرهم حماسة هؤلاء المبشرين، وأن الأهالي يقولون لولا وجود الحكومة البريطانية ما كان هؤلاء الكهنة يجرؤون على إلقاء المواعظ الدينية في الشوارع العامة
وهو الأمر الذي جعل مجموعة من القواد العرب يفكرون في تغيير هذه الحياة الجديدة.
في أُغُسْطُسَ 1888م ثار أبو شيري زعيم مقاطعة “بانغاني” قائدا للقوات العربية واتخذ باغامويو (Bagamoyo) عاصمة لمقاطعته، وكانت قواته فاقت القوات الألمانية, وبالتالي لم تستطيع القوات الألمانية توقيف هذه الثورة، وعليه طلبت الشركة الألمانية المساعدة من الحكومة الألمانية، فأمرت الحكومة “هيرمان ويسمان” تولي هذا المنصب وسار بقواته نحو “تانا” و “أوغندا” , وجمع حوالي ألف رجل و350 من “الزولو” والصوماليين الذين كانوا مع الجيش المصري، وأمر السلطان خليفة الناس في زنجبار بعدم مساعدة أبو شيري بالأسلحة، وجلب البريطانيين والألمانيين سفنا حربية وحاصروا الساحل من أجل تطبيق أوامر السلطان، وقد استطاع “ويسمان” الوصول إلى دار السلام و “باغامويو” .
وتجدر الإشارة إلى أن أبوشيري قد نظّم حين كان شابا حملات إلى الداخل لتجارة العاج، واشترى من أرباحه مزرعة زرعها بقصب السكر كما قام بحملة ضد قبائل “نيامويزي” (Nyamwezi) ، وقد أتاح له ذلك تجميع محاربيه و استخدمهم فيما بعد ضد الألمان، وقام سكان الساحل تحت قيادته بإطلاق النار على سفينة حربية ألمانية في “تانغا” (Tanga) في سبتمبر 1888م، وأعطوا للألمان مهلة يومية
للجلاء عن الساحل، وبعد ذلك هاجموا “كيلوا” (Kilwa Kisiwani) وقتلوا الألمانيين الذين كانوا بها ثم هاجموا “باغامويو” بثمانية آلاف رجل. وعليه، أرسلت الحكومة الألمانية 200 بحارا و60 ضابط ألماني وضابط صف، وقام “هيرمان ويسمان” بحملة توعية ضد العرب السواحليين حيث تم تهدئة بعض المناطق الداخلية خاصة تلك القريبة من نهر “روفوما”.
نتائج المقاومة:
لم يمض شهران حتى احتلّ الألمان “بانغاني” و “تانغا” بعد أن قصفوهما بمدافع أسطولهم, وحاول أبوشيري إثارة القبائل ولكن المحاولة دون دون جدوى، وفي أواخر 1889م تمكن الألمان بفضل أسلحتهم الحديثة من سحق الثورة وأعدموه شنقا في 15 ديسمبر في “باغامويو” .