بعد ذلك بفترة، وبينما كنت أتهيأ للنوم بعيدا عن صخب العاصمة عند "احسي كابون" حيث التمس الراحة والاطمئنان، كان قد مضى من الليل ثلثاه إذا بضوء سيارة يخترق الظلام وما إن أمضى وقت يسير حتى سمعت صوت ثلاثة أبواب تغلق فعلمت أن السيارة تقل ثلاثة أشخاص على الأقل ثم سمعت أصواتهم يتهامسون فعرفت صوت "مولاي أحمد بن الغرابي" الذي ما لبث أن دخل علي وأبلغني أن في السيارة رجلان من خاصة الرئيس جاءا إليه بعد أن خلد إلى النوم في شأن قرار إلقاء القبض علي، وذكرا له أنهما كانا مع الرئيس حين دخل عليه مدير الأمن وطلب منه الاذن بسجن خمسة أشخاص أنا من ضمنهم فاعترضا عليه فيما يخصني والتمس منه أحدهما أن يرجئ البت في الأمر إلى أن يلقاني في تلك الليلة فقبل مع إصراره على رفض أية شفاعة من كثرة ما سمع عني.
خرجت معه في اتجاه السيارة وبعد تبادل التحايا مع زميلي أوضحا لنا أن التهم الموجهة إلي تتعلق بالصلات المشبوهة مع بعض شخصيات الحكم القديم والعمل لصالح المغرب.
أخذ مني الغضب مأخذا كبيرا وقلت في انفعال: "إن كل تلك التهم صحيحة لا سبيل إلى إنكارها"، وما ذلك إلا لأني أصبحت مستعدا لتحمل تبعات هذا الموقف بالنظر إلى أن الإنسان إذا سلب الكرامة وحق العيش الآمن لم يبق له ما يحرص عليه وقد فقدت كل هذه الأشياء. فمن ناحية أشعر يوميا بمرارة المتابعة في كواليس الأمن والدرك وأتعرض للاستجواب بعد أن صودر جواز سفري، وفيما يتعلق بوسيلة العيش فقد ضرب على حصار محكم حتى أفلست بعد أن كانت لي مؤسسة مرموقة ولم يعد لدي ما أخسره.
كانت الكلمات تنهال على لساني بهذه الحدة ردا على مرارة الظلم وأسلوب المراوغة والممارسات المقيتة والتفاني في الإهانة على مدار الساعة، بل إن ذلك كان تعبيرا عن درجة الإحباط والشعور باليأس وفقدان الأمل من كثرة ما تعرضت له من ملاحقات.
لم يكن من "مولاي أحمد" إلا أن قاطع هذه التداعيات يصوت جهود ولم انتبه إليه إلا وهو يقول: "كذبت! كذبت! كذبت عد إلى رشدك واستعذ بربك فإن تكن فيها فنحن السفهاء أنت قدوتنا وملهمنا إلى طريق الخير".
تلكأت قليلا وتوقفت كأنما اتنفس الصعداء وقد أنست من مولاي أحمد تأثرا وانفعالا، ثم قلت "اللهم ألمهني رشدي وأعوذ بك من شر نفسي".
بعد ذلك عدت لأقول "إن كل تلك التهم تلفيق وبهتان وأنا بريء منها براءة الذئب من دم يوسف وإنما هي مزاعم يلجأ إليها المبطلون وبائعو الضمائر بين الفينة والأخرى من أجل الإساءة إلي".
لما كان الصباح اتصل بي أحد الرجلين وهو عسكري وقال إنهما اجتمعا بالرئيس في تلك الليلة وأبلغاه تفاصيل ما جرى وبعد جهود مضنية عدل عن أمره بإلقائي في السجن لكنه وعد بأن لا يتراجع أمام أية محاولة أخرى بل أكد عزمه على رفض أية وساطة من أي كان إذا ما تكررت الإدانة وأضاف محاوري أن المهم هو المستقبل.
أجبته أن الأمر بالنسبة لي ليست فيه مزايدة وأن المسألة لا تتعلق باحتمال وقوع تطور في موقفي إذ لا مساومة على ولائي للوطن، لكنها قضية تتعلق بأشخاص يكيفون الأمور على هواهم لينسجوا منها تهما وفق تحليلاتهم التي لاشك تجد آذانا صاغية لدى رئيس الجمهورية.
انتهى حديثنا وخرج من عندي وأنا غير راض عن الطريقة التي تمت بها معالجة القضية ومرت فترة لم أتعرض خلالها لمضايقة بيد أن ذلك لم يدم طويلا فحليمة سرعان ما رجعت لعادتها القديمة. يقول المثل: "اطرد الطبع من الباب يأتيك من النافذة".