مجتمعاتنا العربية مجتمعات متدينة محافظة، ولكنها مجتمعات يعيش أفرادها بوجهين، بمنطقين، وجه للتدين والورع والأخلاق والمبادئ، ووجه للمصلحة والمنفعة، وجه يصلي به، ووجه يتزلف به، وجه يحرم به «سفور» المرأة، ووجه يسافر به الى الغرب ليتفرج على السافرات براحته، وجه تحج فيه بكامل ورعها، ووجه تضطهد به عاملتها، هكذا نحن نعيش بوجهين والعملة واحدة، تدور حسب اللحظة ومنفعتها.
ولكن لم؟ لم نحن نعيش حياتين؟ لم نحيا بانفصام حاد بين ما نقول وما نفعل، بين ما نؤمن وما نظهر؟ تبدو الظروف السياسية والفساد الاجتماعي هما الأقوى تفعيلاً لوجوهنا المختلفة. فالإنسان العربي المسلم المحافظ بطبعه لربما يود أن يبقى مبدئياً، ولكن كيف يفعل وهناك نظام يتربص به، سجون مستعدة لاستقباله وفساد قابل لأن يلتهمه التهاماً؟ يضطر الإنسان الورع هذا أن يترك ورعه جانباً فينافق نظامه حفاظاً على أمنه، وأن يستخدم وسائطه ليصل الى حقوقه وأحياناً ليعتدي على حقوق الآخرين ويلتهم فرصهم ومستحقاتهم حفاظاً على فرصه التي يعلم هو تماماً أنها ستضيع ان وقف هو في الصف وستُسرق ان التزم هو القانون والنظام.
وبما أن الكل يسرق، يبرر هذا الإنسان «العملة» لنفسه التعدي على حقوق غيره، فان لم يلتهمها هو، سيأتي من هو أكبر بفكيه مشرعتين على مصراعيهما، وعليه، فهو أولى، وهكذا يتبرر الفساد كبيره وصغيره كل يوم.
الا أن الموضوع لا يقف حد السياسة وفسادها، فهناك أيضاً صعوبة اتباع قراءة دينية تبدو غائرة في القدم بتناقضها الشديد مع حقوق الإنسان والعقل والمنطق وحتى الرغبات البسيطة الطبيعية. لا تسمح هذه القراءة بالقولبة التاريخية للنص الديني، فهي تراه صالحاً لكل زمان ومكان حتى في نطاق ما لم يعد يصلح للزمان والمكان. وعليه يعاني المسلمون من قضايا عفا عليها الزمن وانتهى منها العالم المتحضر مثل قضايا العبودية والولاية على المرأة وقضايا الحدود سواءً الشخصية بالقطع والرجم أو العامة مثل حد الردة. هذا التناقض بين الفهم التقليدي القديم للنص الديني، وهو الفهم المنتشر والمثبت بين عامة المسلمين، وبين الحياة الحضارية اليومية التي تبلطها قاعدة الحريات وتسقفها مفاهيم حقوق الإنسان، يخلق انساناً متناقضاً متصارعاً مع نفسه، فمن جهة هو ملزم بالدفاع عن وتبرير الكثير من التشريعات التي ما عادت صالحة، ومن جهة أخرى هو ملزم، وأعتقد أنه راغب كذلك، في العيش في حياة القرن الواحد والعشرين الذي يجرم العبودية ويساوي الجنسين ويحفظ حقوق الحريات وأهمها حق حرية الاعتقاد. وهكذا تجد الإنسان المسلم في صراع دائم وحالة دفاع مستمرة عن فلسفة تحرم عليه قيادات الدين المؤسسي إعادة فهمها وقراءتها وفي الوقت ذاته تفرض عليه الدفاع عنها.
هذا، وفي مجتمعات تحكمها روابط اجتماعية معقدة ومفهوم الشرف والسمعة الغامض، تصبح مقاومة مثل هذا الفكر والإصرار على القراءة التجديدية والخروج عن الصف القديم مخاطرة شديدة ومعاناة وتعريضاً للنفس لكل درجات التشويه والتكفير بل والطعن في الأخلاق. فما هو فاعل الإنسان المسلم وهو محاصر بين القرنين السادس والسادس عشر بعد الألفين الميلادي؟ كيف يحيا حياة طبيعية رائقة وهو محمل بعبء التبرير والدفاع عن قيم ما عادت مقبولة أو وهو مدفوع الى العزلة والكراهية لكل جديد ومتطور بدافع من اغترابها عن قيمه ومفاهيمه؟
لقد خلق قساوسة المسلمين في داخل كل انسان منا نفساً متنازعة متناقضة في صراع مع نفسها ورغباتها وعالمها الذي تحيا فيه، صنعوا منا منافقين على طول الخط، نبدي غير ما نبطن، نستمتع بما نحرم ونحرم ما به نستمتع بالخفاء، نعيش حياتين وبوجهين وبمنطقين، لا منطق لأي منهما، فأي حياة هذه وأي انسان نصنع وأي مستقبل نرتجي ونأمل؟
د. ابتهال عبدالعزيز الخطيب