تعودت بعد تناول وجبة العشاء الذهاب إلى حانوت مجاور للبيت عملا بمأثور "من تعشى تمشى" من جهة، ومن جهة أخرى للمشاركة في جلسات سمر وشاي يحضرها بعض الجيران في الحي يتبادلون خلالها أطراف الحديث "غير المصنف" وبمشاركة محورية من صاحب الحانوت، إلى أن يحين موعد النوم فيغلق صاحب الحانوت أبواب حانوته ونتفرق كل إلى فراش نومه.
وفي إحدى ليالي الأسبوع الماضي تحلقنا كعادتنا حول صاحب الحانوت الذي وضع أمامه معدات الشاي ليبدأ السمر المعتاد، إلا أن حدثا مفاجئا غير روتين سمرنا، فقد توقفت سيارة أجرة أمام الحانوت ونزل منها أحد أقارب التاجر كان يقضي موسم الخريف مع الأهل في البادية بأعماق البلد، فاستقبله وعانقه بحرارة وأخذ مكانه بيننا، وواصلا استكمال طقوس " أسلام " المعروفة.. وبذلك انشغل عنا صاحب الحانوت تلك الليلة وحق له، فقد نزل عليه ضيف عزيز مليء الجعبة بأخبار وأحوال الأهل..
بدأ الضيف ينثر كنانته بكل ما يتعلق بالحي من " طواري " وأخبار، التاجر يسأل والضيف يجيب، من تزوجت ومن أنجبت، من قضى موسم الخريف هناك من المغتربين ومن غادر وما هي أحوال المرعى والماشية؟ فيقول الضيف إن بقرة فلان ماتت ( نفقت ) بمرض " بوصفير " وأن رجال الحي حفروا لها ودفنوها لكي لا تأكل الأبقار الأخرى فرثها وعظامها فتصاب بالعدوى، وأن رجال الحي اجتمعوا لبحث مشكلة دخان حرق الأشجار الذي يزاوله بعضهم للحصول على الفحم، والذي يتأذى منه سكان الحي، وأن أحد " الفحامين " قال في الاجتماع إنه سيحرق الفحم في المكان الذي يريده ومن تعرض له سيغرز سكينا في بطنه..! وأن " صاحب البيئة " جاءهم وقال لهم إن المهم هو ألا يحرقوا الفحم بالقرب من الأشجار الحية لأن دخانه " إِكَنْدِ " تلك الأشجار ويقتلها، فقالوا له إن صحتهم هم أهم عندهم من صحة الأشجار، وأنهم " تعاملوا معه " فتركهم وشأنهم..
ثم إن رجال الحي اجتمعوا أيضا لنقاش قضية بنك الحبوب المتهم من كان يسيره باختلاس رصيده، وعقدوا اجتماعا آخر لتدارس قضية حنفية المياه المتهم مسيرها أيضا بالتصرف في عائداتها بصورة غير نزيهة، وأنهم انتدبوا لها مسيرا جديدا وأنه لكي يُظهر أنه سيأتي بجديد قال لهم إن من لم يسدد فاتورة الماء في الوقت المناسب سيقتلع حنفيته إلى أن يسدد، فقال متدخل إن هذا الإجراء مجحف وغير قانوني، وحتى شركة الماء في المدن لا تعتمده.. لكن التاجر وضيفه أجمعا في النهاية على أن كلا من مسير بنك الحبوب ومسير الحنفية " تَموّلَا " من عائدات خدمتي الماء وبنك الحبوب.
وماذا عن الزراعة الموسمية " لحريثه " يسأل صاحب الحانوت؟ فيقول الضيف: ما شاء لله.. هناك مساحات كبيرة مزروعة باللوبيا " آدلكان " وقد وضع لها رجال الحي برنامجا للحراسة بالتناوب بينهم، وأنه إذا ساعد الحظ وسلمت تلك المساحات من فتك قطعان الإبل ومن مهاجمة الآفات فسوف " يغلبهم آدلكان " هذه السنة.
أعرف أنكم لا زلتم تنتظرون جانب " الطرافة " في هذه الحكايات فكل ما تقدم منها كان أحاديث عادية.. ذلك لأنها، أي الطرف، جاءت في آخر حديث التاجر وضيفه بعد أن أوشك سمرنا على نهايته، وهممنا بالانصراف إلى بيوتنا وهم صاحب الحانوت بإغلاق أبواب حانوته، فكان من الطريف أن تكون الدراسة آخر ما سيسأل عنه صاحب الحانوت وهو يرج نعاسا ويغلق آخر أبواب حانوته، وإن كان ذلك ليس هو كل ما في القصة من طرافة فسأل ضيفه قائلا: وماذا عن افتتاح المدرسة وهل بدأ التلاميذ يدرسون؟ فقال الضيف إن الدراسة لم تبدأ بعد لأن المعلم لا زال متغيبا في رحلة علاج ( أحجاب ) لأبنه المصاب بالمس.. قلت ولماذا لا تطلبون من الإدارة معلما مكانه لكي لا يضيع مستقبل أبنائكم؟ قال: إنه ( راجل من الناس ) ولا نريد التسبب له في مشكلة.. وإليكم الأطرف!
حيث سأل صاحب الحانوت ضيفه أيضا وهل حصلت المدرسة على مقاعد؟ سألته، وأنا أعرف أنه لا زالت توجد مدراس تنقصها المقاعد بفعل تشتت هذه المدارس وتوزيعها الفوضوي، مدرستكم بلا مقاعد؟ قال كانت لها مقاعد لكنها بيعت، قلت ومن باعها؟ قال باعها المعلم، قلت لا حول ولا قوة إلا بالله، المعلم يبيع المقاعد! لمن ولماذا يبيعها؟ قال يبيعها لتجار المنطقة يستخدمونها لصناعة رفوف البضاعة ( اتياسير )، قلت ولماذا لا تبلغون عنه الإدارة؟ قال لأنه ( راجل من الناس ) لا نريد التسبب له في مشكلة.. غمز لي أحد الحضور بعينه وهو يحاول التحكم في الضحك وقال " المجتمع مزال ابعيد "!
فعلا، المجتمع " مزال ابعيد " وتعكس ذلك الكثير من المظاهر والسلوكيات خصوصا بالمناطق الداخلية التي لا تزال بعيدة عن أعين وسائل الإعلام وغيرها من وسائل التوعية والتأطير، وتتغذى تلك المظاهر والسلوكيات وتتجذر بفعل تداخلات معقدة ل " المنفعية " والمصالح، أو القرابة والعصبية القبلية والجهوية ما بين أفراد المجتمع نفسه، أو بينهم وبين المصالح الإدارية ممثلة في الولاة والحكام وممثلي المصالح الخدمية الجهوية من تعليم وصحة وماء وكهرباء وبيئة.. وبينهم وبين المنتخبون وما أدراك ما المنتخبون! فكل هؤلاء يكون أحيانا دورهم سلبيا، وبدلا من أن يكونوا هم أنفسهم وسيلة توعية وتأطير من خلال تربية الناس هناك على مفهوم الدولة والمواطنة والمصالح العامة وتقديمها على غيرها من أي اعتبارات أخرى، نجدهم ينساقون وينجرفون في هذه المظاهر والسلوكيات لا فرق بينهم في ذلك وبين من لا يزال يتصرف بعقلية ما قبل الدولة من أفراد أو جماعات المجتمع! مع حذرنا طبعا من التعميم غير المنصف، فهناك حالات يتصرف حيالها المسؤولون طبقا لما تمليه عليهم مسؤولياتهم، وإليكم هذه القصة الطرفة الأخرى التي تجسد ذلك التصرف بمسؤولية..
ففي السنة الماضية جرى تحويل وتبادل لبعض حكام المقاطعات، فبدأ أحد الحكام المحولين إلى مقاطعة أخرى الاستعداد للانتقال إلى مقاطعته الجديدة، ف " حاش " كل المتاع الذي كان ببيته، بما في ذلك الأمتعة المملوكة للدولة والتي من المفترض أن كل موظف يتركها في مقر إقامته لأنه سيجد إقامته الجديدة في المقاطعة المحول إليها مجهزة، ولكي يجد من سيخلفه إقامة مجهزة كذلك.. لكن السيد الحاكم لم يترك في بيته سوى " الدص " بما في ذلك غرفة النوم التي تزود بها الدولة عادة مقرات الولاة والحكام تحسبا لمبيت كبار الضيوف في المقاطعات كالرئيس والوزراء.. حتى المصابيح والستائر وسكاكين وملاعق المطبخ..!
جعل كل ذلك في سيارته، ولأنها لم تسع كل العفش والعيال فكر في حيلة ينقل بها بقية المتاع دون اللجوء لتأجير سيارة، فاتصل على رئيس المركز الصحي بالمقاطعة مدعيا أنه مريض ويريد سيارة إسعاف المركز لتنقله على جناح السرعة إلى العاصمة، لم يستطع رئيس المركز الصحي رفض طلب الحاكم لأنه إداريا هو المسؤول الأول بالمقاطعة فأرسل له سيارة الإسعاف، لكنه اتصل فورا بالمندوب الجهوي للعمل الصحي بعاصمة الولاية وأخبره بالأمر، فاتصل الأخير بوالي الولاية وأخبره، ليتصل الوالي بالمدير الجهوي للأمن ويأمره بإرسال عناصر ترابط لسيارة الإسعاف وهي في طريقها إلى العاصمة ويأتوه بها بمن وما فيها ففعل.
وصلت سيارة الإسعاف إلى الوالي رفقة عناصر الشرطة وهي تحمل السيد الحاكم وبعض عفشه.. فأمر سائقها بالعودة بها فورا إلى مركزها في المقاطعة، وأرسل السيد الحاكم إلى المستشفى الجوي بعاصمة الولاية مع أمر للطبيب الرئيس بإجراء كشف طبي عليه، فإذا كان فعلا يعاني حالة صحية مستعجلة جهز له سيارة إسعاف المستشفى الجهوي، وفي حالة العكس يخلي سبيله ليتدبر طريقة توصله إلى العاصمة، فأجري عليه الكشف وإذا به لا يعاني أية مشكلة صحية وانتهت القصة!
نعم انتهت القصة التي كان فيها الحاكم غير مسؤول هذه النهاية المسؤولة، لكن كلا من رئيس المركز الصحي، والمندوب الجهوي للعمل الصحي، والوالي، والمدير الجهوي للأمن، والطبيب الرئيس تحملوا مسؤولياتهم كل في ما يعنيه.. وإن كانوا اقتصروا في تحمل تلك المسؤولية على منع استخدام سيارة الإسعاف في غير ما خصصت له، ولم يتحملوا نفس المسؤولية لمنع الاستحواذ على الأمتعة والتجهيزات المنزلية الدولة.. ربما لأن هناك من قصر في الإخبار بهذا الجانب من لا مسؤولية الحاكم كما فعل رئيس المركز الصحي الذي لولا مبادرته لكان للقصة نهاية أخرى تختلف، وقد قلت لمسؤول في المقاطعة كان هو من حكى على القصة لو كنت مكانك لتحملت مسؤوليتي ولرفعت تقريرا بالموضوع فقال: هذا " شيباني من الفلانيين " مقبل على التقاعد ولم أشأ أن أكون أنا هو من يتسبب له في مشكلة..! وما أدراني، يقول، إذا ما رفعت تقريرا بتصرفه أن يجد من يغطي عليه وربما دفعت أنا الثمن؟
فكم ستتغير وتتحسن أحولنا أكثر لو تحمل كل مسؤولياته، وكان كل المسؤولين سلسلة مترابطة والحلقات الناظمة لها هي تحمل المسؤولية فقط؟! إن الأشواط المهمة التي قطعناها كانت ستكون أسرع وأكثر بروزا، وسياساتنا التنموية أكثر نجاعة لو كانت واكبتها إدارة فعالية.. والأمل اليوم في المجالس الجهوية المنتظرة إذا ما تم ترشيحها وانتخابها لهدف واحد فقط هو إقامة التنمية في أوساط مجتمع بنيويا وقدراتيا عقلياتيا " مزال أبعيد ". والخشية هي أن تكون تلك المجالس " ضعيفة المناعة " ضد عدوى الإدارة التقليدية والمنتخبون التقليديون..