لايمكن الحديث عن خطاب الكراهية أو ما ينعتها البعض بالعنصرية لجماعة أو مجتمع ما بمنظار الأحداث والمواقف السياسية الراهنة ، لأنها ظاهرة لا تنفجر بشكل مفاجئ أو عارض إنما هي حالة لها جذورها وأسبابها التاريخية، لذلك فإن علم الاجتماع وليس النظرة السياسية الانيه هو الميدان للحكم على هذه الظاهرة ومعرفة أسبابها ، نكتب هنا عن خطاب الكراهية في بلد مثل لبنان لمناسبة تصاعد هذا الخطاب مترافقا مع أحداث وتصرفات وقوانين سادت في هذا البلد العربي الجميل خلال سنوات إقامتي فيه التي تزامنت مع احداث كبرى شهدتها المنطقة ولا سيما الجارة الكبرى سوريا .
كانت الصدمة الأولى عندما شاهدت تعامل رجال الحدود اللبنانيين مع القادمين من سوريا بداية العام 2013 ، كانت مشاهد مروعه، استخدم فيها رجال الأمن الضرب والشتم والإهانة تجاه مئات السوريين المنتظرين على الحدود للدخول إلى لبنان . ثم تبعتها حوادث متفرقة وصلت إلى منع السوري بقرار من بعض البلديات اللبنانية من التجول بعد الساعة السابعة في مناطق مختلفة شمالا وجنوبا . قبل أيام ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بفيديو صادم لبرنامج يعرض على إحدى القنوات المحلية يستخدم فكرة الكاميرا الخفية ، البرامج كان ضحيته شاب سوري جاء طالبا للعمل ، ولكن ما حدث معه هو عملية تنكيل وصلت حد تجريده من ملابسه وطرحه أرضا وترويعه لأن الممثلين في البرنامج انتحلوا صفة رجال أمن . لا مجال هنا لذكر الواقعات كلها. لكن المتابع يدرك أن ثمة كراهية تشق طريقها في العمق .
منذ أيام برزت قضية إشكالية أخرى تتعلق بمخيم عين الحلوه للاجئين الفلسطينيين ، فقد شرعت السلطات ببناء جدار عازل من الاسمنت يطوق المخيم ،وهو ما أثار موجة سخط لبنانية وفلسطينية ،على هذا الإجراء الذي يعيد للذاكرة مأساة جدار الفصل العنصري الإسرائيلي حول الضفة الغربية . لا يعيش الإنسان الفلسطيني في لبنان مثل سائر البشر ، فلا عمل ولا حقوق لا حماية ولا مستقبل . إنهم مجرد أرقام تعيش على الهامش . ثمة اطفال ولدوا هناك لا ذنب لهم إلا أنهم ابصروا نور الحياة على هذا الواقع المأساوي.
إذا أردنا أن ننظر بواقعية إلى أسباب هذا النهج اللبناني تجاه الفلسطيني والسوري علينا أن نفتش في عمق التاريخ الاجتماعي لان الكراهية كما ذكرنا ليست حدثا عارضا يولد فجأة. إنما هي صيرورة هادئة تعشش في طيات الجماعة نتيجة أحداث مرت وعاشها العقل الجمعي وعانى منها فترة زمنية انتقلت عبر جيل واحد على الأقل . لا يقيس هذا الشعور تصرفاته مقياس السياسية أو الوطنية إنما هي تصرفات تأتي انعكاس للتاريخ الاجتماعي الكلي للجماعة .
كثير من اللبنانيين عانوا لسنوات من الهيمنة الفلسطينية في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي في العصر الذهبي لمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان ، تصرف الفلسطيني وقتها في لبنان على أساس أنه صاحب الأرض ، قاوم إسرائيل هذا صحيح، ولكنه حكم وتحكم بالمجتمع وفرض خياراته واولوياته . تصرف بعض الفلسطينين أو أغلبهم باستعلاء واصطدموا عسكريا بقوى لبنانية لها حاضنتها الشعبية ، فرح الكثير من اللبنانيين بخروج الفلسطيني من لبنان عام 82 ليس لأنهم عملاء لإسرائيل او غير وطنيين إنما كانوا يرون انهم قد يستعيدوا حرية فقدوها أو كرامة فردية خسروها او بلد هم ابناؤه ولكنه دمر وتقسم . نحن هنا لا نحاكم تفاصيل تلك المرحلة ومن أخطأ ومن كان يملك الحق ولا نحاكم بالمنظار السياسي ، إنما نسلط الضوء على حقبة تشرب فيها العقل الجمعي للمجتمع اللبناني ، صورة الفلسطيني الغريب الذي حكمه وتسيد عليه ، لم تكن تصرفات الفلسطينيين وقتها نابعة إلا من نفس المفهوم الاجتماعي فقد اذل (بضم الالف )الفلسطيني بعد خروجه من فلسطين 48 في لبنان ، وعندما سنحت له الظروف وامتلك القوة ، تصرف وفق مفهوم العقل الجمعي الخازن للشعور القهري ومارس لا شعوريا ومن دون قرار يستند إلى التاريخ القهري سياسية انتقامية تعطيه تعويضا نفسيا عن سنوات الإذلال ليس فقط في لبنان بل من إسرائيل و في الأردن . يفسر بعض علماء الاجتماع مثلا السلوك العدواني لإسرائيل واجرامهم بأنه نتيجة الاضطهاد الذي تعرض له اليهود في أوربا خاصة قبل الحرب العالمية الثانية . ويقول علماء الاجتماع أن الشخص العدواني هو أكثر الأشخاص تعرضا للعدوان في مراحل عمره الأولى .
التعامل السيء في لبنان مع السوريين يخضع لذات المعيار ، فقد دخل السوريون لبنان وتصرف بعض الضباط والجنود باستعلاء ومارسوا الإذلال للسكان من اللبنانيين ، عينوا حكومات واطاحوا بزعامات ، تصرفات فردية لكنها متكررة تجاه السكان تحط من كرامتهم . لسنا في وارد التقييم السياسي كما ذكرت واكرر ، انما نحاول فهم ما الذي يدفع مجتمع أو بعضه إلى تبني سياسية الكراهية . باعتقادنا انها نتيجة تلك الحقب الصعبة والمؤلمة التي مر بها اللبنانيون.
لا يقرر اللبناني اليوم أن يكون كارها أو عنصريا ، انما هو انعكاس لتركم ثقافة مجتمعية حفرت طريقها إلى السلوك الآني ، بغض النظر عن محددات السياسية وظروفها .
إذا نحن أمام ظاهرة تعتبر طبيعية بمفهوم علم الاجتماع المجتمعي ، ولكن أيضا لابد أن نذكر هنا أننا لسنا أمام ظاهرة كلية تعم المجتمع اللبناني بأسره ، فهناك إعداد كبيرة من اللبنانيين ليس لديهم ذات الشعور مطلقا ، بل هم اليوم في طليعة مكافحي هذه الظواهر ومناهضيها ، ويمتلك لبنان نخبة من الإعلاميين والكتاب والسياسين القادرين فعلا على لجم هذه الظاهرة وهم يفعلون .
إن استمرار هذه الظاهرة وتصاعدها يضر بلبنان مستقبلا قبل أن يضر بالشعوب التي يمارس عليها الكراهية ، فكما بينا فإن الاضطهاد والكراهية تبقى كامنة في العقل الجمعي وتتحول إلى ثقافة تورث من جيل إلى آخر ، وعندما تتغير الظروف تظهر ويمارسها الأفراد دون وعي ومن دون قرار. وعلى السياسين في لبنان أن يدركوا انهم يزرعون قنابل موقوتة في طريق مستقبل أبنائهم ، فالتسامح واليد الممدودة والاحتضان والمعاملة الحسنة هي من تجعل المستقبل مضمونا والبلد آمنا لا سياسية الجدران والعزل والإهانة . إن الكراهية تولد الكراهية . فهل يستقيم هذا الحال في بلدان كانت يوما بلدا واحدا وشعوبا كانت بالأمس القريب شعبا واحدا .
رغم كل ذلك نبقى متفائلين ففي الصورة أيضا هناك من يقدم الدماء من اللبنانيين دفاعا عن وحدة سوريا ، وهناك من اللبنانيين من يقف بكل شجاعة في وجه إسرائيل من أجل فلسطين ومن أجل كرامة العرب ، هناك جنود سوريون استشهدوا دفاعا عن عروبة لبنان وهناك عمال وتجار وصناعيين سوريين يبنون لبنان اليوم ، وهناك من النخب اللبنانية الكثيرون ممن مازالوا مؤمنين بالعروبة ويدافعون عنها . نحب هذا البلد الجميل درة الشرق وشعبه الطيب ، ولا نريد له إلا الخير والاستقرار .
كمال خلف