كان عرب شبه الجزيرة في الجاهلية قبائل تكسب قوت يومها من الغزو نتيجة قلة الموارد . كانت القبيلة التي تفرض سيطرتها على القبائل الاخرى ترى أن رجال بقية القبائل قد اصبحوا عبيدا، ونساؤهم سبايا، واملاكهم غنائم. وكان شيخ القبيلة هو الزعيم الأوحد، هو الأول والأخر، أقواله تصبح قوانين، واصغر رغباته تصبح أوامر . هكذا كان حال شيوخ القبائل والعشائر في جاهلية الأمس وهكذا هو حالهم في جاهلية اليوم .
جاء الاسلام وأحدث ثورة على هذه الثوابت والأخلاقيات. ولعل ما جاء في أخر خطاب لرسول الله )خطبة الوداع) ما وضع النقاط على الحروف حيث جاء فيها تحريم الإستيلاء على أموال الغير، وتحريم القتل ، والمساوة بين الناس والأجناس، وهذه المبادئ نسفت مبادئ الجاهلية وأسست لنظام أنساني جديد وهذه بعض المقتبسات من خطبة الوداع:
“أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب . إن أكرمكم عند الله اتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى – ألا هل بلغت….اللهم فاشهد
أيها الناس إنما المؤمنون إخوة ولا يحل لامرئ مال لأخيه إلا عن طيب نفس منه – ألا هل بلغت اللهم فاشهد.
أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم … ألا هل بلغت اللهم فاشهد”
واطلقث ثورة الاسلام الحريات الدينية كما جاءت أمرا صريحا في القران الكريم”لا اكراه في الدين” .
وجاء الاسلام بنظام إجتماعي ونظام إقتصادي وصفته المنظمة الأوروبية للتنمية الاقتصادية( (OECDأن للاسلام نظام خاص مميز يختلف عن الرأسمالية و الإشتراكية . كانت الحضارة العربية الاسلامية هي من أوصل قبائل العرب لان تفتح العالم من المحيط الأطلسي حتى الصين في أقل من 100 سنة.
السلفية الفكرية أو الجمود الفكري نقلاً عن السلفية الدينية!
عنصران طرءا على هذه الحضارة . أولهما الجمود الفكري الذي أوقف باب الاجتهاد، وهو باب التطوير خصوصاً في القرون العثمانية الأخيرة وفصل اللغة العربية عن الحضارة الاسلامية. وثانيها أن الاستعمار قد توصل إلى أن بعث الجاهلية الاولى وتكريس حكم القبائل والعوائل سيمكنه من السيطرة ، فخلق دولاً ودويلات قبلية وعائلية ترفع أعلاماً يسهل على الإستعمار إدارتها سواء بطريقة مباشرة أو عن بعد .
مجتمع القبائل والعوائل هو مجتمع كراهية حتى أن ناسه يكرهون أنفسهم وفيه يتحاور الناس حوار الطرشان . في هذا المجتمع الكل يكره الكل والكل يركض وراء نفسه ومن بعده الطوفان. في هذا المجتمع يُؤلهُ الناس شيوخهم والناس في هذا المجتمع أطوعهم لمخلوق وأعصاهم لخالق.
لست فقيهاً ولا ادعي ذلك. ولكن ما أعرفه أن مصادر التشريع في الاسلام هي القرآن الكريم وصحيح الحديث بالاضافة الى بابين آخرين هما القياس والاجتهاد. فالقياس هو الاستقراء على الحالات المتجددة إلى ما يشبهها من السنه. وفي العلوم الحديثة يسمى ذلك إستقراء EXTRAPOLATION . أما باب الاجتهاد فهو إيجاد التفسيرات من مجتهدين ضليعين في الفقه لتفسير حالات لم يكن لها شبيه في الماضي باستعمال الفقه والعقل والاستنباط من روح الفكر الاسلامي .
حول سلاطين دول القبائل والعوائل “وعاظهم” إلى فقهاء مدفوعي الأجر لاصدار فتاوى حسب الطلب على قاعدة “إدفع وارفع″ . وهكذا تم إقفال باب الاجتهاد وحُفظ ذلك الفكر السامي للحضارة الاسلامية في ثلاجة الزمن البعيد.
قبل مفاوضاته مع السادات سأل كيسنجر: كيف اتفاوض معه؟
أثناء وبعد حرب أكتوبر 1973 سأل كيسنجر أهل الاختصاص في جامعة هارفارد في علم المفاوضات عن أفضل طريقة واسلوب يتفاوض مع السادات خصوصاً وحكام العرب عموماً. كذلك جاءت CIA بفيلم عن حياته إبتداءً من قريته في ميت أبو الكوم وربما حافي القدمين إلى غليونه وهو في قصور الملك فاروق، وفكفك خبراء علم النفس والاجتماع كل عقده . إستقر الراي أن أفضل طريقة للمفاوضة معه هي إسلوب شيخ القبيلة لاستدراجه لاتخاذ قرارات منفردة وغير مدروسة وذلك بالابتعاد أكثر ما يكون عن إتخاذ القرارات بوجود المتخصصين المصريين وأكثرهم أصحاب كافآت عالية في تخصصهم. وهكذا كان . هذه الحكاية قرأتها أولاً في كتاب كيسنجر” سنوات الغليان” .
يقول كيسنجر أنه في إحدى زياراته المكوكية بين مصر وإسرائيل في محادثات فك الارتباط ، أخبرته جولدا مائير عدد الدبابات وقطع المدفعية والجنود التي يسمح الجيش الاسرائيلي بتواجدها شرق القنال. يقول كيسنجر أنه قرر أن يقول للسادات نصف ما طلبته إسرائيل ليكون مجالاً للمناورة وقرر أن يجتمع منفرداً أولاً مع السادات في أسوان. يقول كيسنجر أنه فوجئ عندما وافق السادات على رقم النصف دون مناقشة وان إجتماعاً موسعاً إنعقد بعد ذلك مع ذوي الاختصاص بمن فيهم رئيس الأركان عبد الغني الجمسي. وعندما قال كيسنجر الأرقام دق الجمسي على الطاولة وقال: هذا لا يمكن، لان ذلك يعني أن يكون الجنود والدبابات والمدفعية رهينة لا يمكن الدفاع عنها. يقول كيسنجر أنه نظر إلى السادات بعد ما قاله الجمسي وأن السادات نظر الى الجمسي وقال له : “اسكت يا ابني، احنا اتفقنا.” فبكى الجمسي في الاجتماع.
في برنامج تلفزيوني شاهدته لاحقاً أقر الجمسي بصحه هذه القصه وأن عيناه قد دمعتا .
… وشيخ القبيلة الفلسطيني ياسر عرفات !
بينما كان الدكتور حيدر عبد الشافي وفيصل الحسيني يفاوضا إسرائيل في مدريد بكفأه ووطنية مشهوداً لها متمسكين بثوابت حقوق الشعب الفلسطيني وبينما كانت هناك ثورة (الانتفاضة الأولى ) بقيادة الشباب في الداخل وفي حين فشلت كل أجهزة الأمن الاسرائلية أن تتعرف أو تخترق تلك القيادة الشابة في الداخل بل وفشلت كل أجهزة الامن الأسرائيلية بما فيها جيش الاحتلال من أن تخمد تلك الثورة بعد أكثر من خمس سنوات، وحيث لقت تلك الثورة تعاطفاً عالمياً غير مسبوق على القضية الفلسطينية ، ذهب خفافيش الليل إلى أوسلو من دون أعلام الوفد المفاوض في مدريد ومن دون أن يستشار احد . شيخ القبيلة عرفات وبطانته خافوا من بروز قيادة بديلة شابة في الداخل فهرولوا بوفدهم إلى أوسلو لا يلوون على شيء. كان على رأس وفد أوسلو مناضل اسمه محمود عباس يفتخر أنه لم يناضل يوماً في حياته ! تنازل وفد أوسلو على 78% من فلسطين مقابل الاعتراف بالشيخ ومنظمته . وكانوا في عجلة من امرهم قبل أن تتجذر قيادة الداخل .
حسب كتاب “حروب الأشباح” كان أول ما فعله الشيخ بعد عودته إلى فلسطين أن أرسل أحد رجاله إلى تل أبيب ليلتقي مع المخابرات الأمريكية والاسرائيلية. وتم تأسيس قوة من 15000 جندي تم تسميتها “الأمن الوقائي” . كان اول اعمال هذه القوة أن زجت قيادة الداخل وشباب الثورة الانتفاضة في السجون وبدأت بالتنسيق الامني مع المخابرات الاسرائيلية والامريكية وحول الشيخ وبطانته مقاومي الماضي وأكثرهم من الشباب الطيب المخلصين الى قوات حراسة وكناسة للاحتلال تحت مسمى التعاون الأمني كما نصت عليه إتفاقية أوسلو وهكذا تم تحويل المناضلين إلى قوات حراسة وكناسة حتى لمستوطنات العدو المدانة من العالم كله. وتمّ تكريس الاحتلال وقضم اراضي ما تبقى من فلسطين .
ولما أفاق الشيخ من غفلته حوصر في المقاطعة وبقى يستمع إلى أم كلثوم تغني “فات الميعاد” حتى تمّ اغتياله وبتعاونٍ من بطانته كما يدعي البعض.
في عالم حكم القبائل والعوال كاد أن يكون ايلي كوهين من الموساد وزير دفاع في سوريا لولا تَحَفّظ إسرائيل على ذلك التعيين حفاظاً على غطاء جاسوسها والذي تمّ اكتشافه بالصدفة . ومن يدري فيمكن أن يكون أو صار أحد من الموساد اليوم أحد شيوخ قبائلنا .
…في حكم القبائل والعوائل يوجد دائماً رأي ولا يوجد رأي آخر!
صديقي الدكتور منار الفرا أمارس رياضة المشي معه بين الحين والاخر. هو من مريدي الرئيس جمال عبد الناصر، لكنه حدثني عن حدود حرية الرأي في عهده . وانا اقتبس قصته كما رواها حرفياً . قال الدكتور الفرا:
“كان ذلك في 1963 كما اذكر وكنت طالباً بكلية الطب في جامعة عين شمس في ذلك الوقت . وكانت احداث الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا ، والعراق على أوجها. وكان المد القومي من مظاهرات وخلافه يجتاح القاهرة تأييداً للوحدة ولعبد الناصر الزعيم الخالد. فدعوت الى مؤتمر عام بمدرج كلية الحقوق بجامعة عين شمس وكنت عريف الحفل وبين كل فقرة وفقرة كنت أقول )أن العودة هي طريق الوحدة( . كان شعار الرئيس عبد الناصر أن الوحدة طريق العودة . وانتهى المؤتمر وعدنا الى بيوتنا . وبعد منتصف تلك الليلة طرق باب منزلي المواجه تقريباً لمنزل الزعيم عبد الناصر فقمت لفتح الباب فسلمني شخص لا اعرفه استدعاءاً في صباح اليوم التالي الى مباحث أمن الدولة في لاظوغلى بالقاهرة لمقابلة المقدم شعراوي المسؤول عن الطلبة الوافدين الى مصر مع التأكيد على عدم التخلف . وطبعاً ضربت اخماساً في أسداس لا اعرف سبب هذا الاستدعاء وفي الصباح ذهبت الى مقابلة المقدم شعراوي وبعد التحقيقات سألني: أتعرف من هو صاحب شعار (الوحدة طريق العودة ) . وهنا أدركت سبب هذا الإستدعاء. وقال لي: أتريد أن تكمل دراستك بكلية الطب فقلت له طبعاً فقال لي: هل” الوحدة طريق العودة” أم “العودة طريق الوحدة” ، فقلت له أن “الوحدة هي طريق العودة” !
تمتدح جيهان السادات بأن عصر السيسي هو عصر الحريات المطلقة لا قبله ولا بعده شيء. وتقول: “في عصر عبد الناصر ما حدش كان يئدر يفتح بئه (فمه)”، لذلك صار زوجها رئيس جمهورية.
في عصر مرسي (ما كنشي السيسي يفتح بئه)، فصار رئيس جمهورية.
هل اكتشفت السر لتصبح رئيس جمهوريةً؟ الجواب : ما تفتحش بئك .
د. عبد الحي زلوم