أكد العلامة عبد الله ولد بيه في مداخلته أثناء افتتاح الملتقى الثالث لمنتدى تعزيز السلم، الذي انطلقت فعالياته اليوم في أبو ظبي تحت شعار: "الدولة الوطنية في المجتمعات المسلمة"، على أهمية إيلاء الأفكار التي تساهم في تخريب الاجتماع العربي والإسلامي الاهتمام الكافي من قبل جمهور العلماء والأكاديميين والعاملين في المجتمع الأهلي والمدني، من أجل ترشيد الأفكار وتصحيح المفاهيم وتحقيق المناط الفقهي والتربوي بما يخدم الأمة التي باتت "تسجل الأهداف ضد نفسها" عبر خلق مناخ من الصراعات والتطاحنات بين مكونات الجسد الواحد، ولهذا "علينا أن نقوم بدور هام في التنبيه إلى إطفاء الحريق وإنقاذ الغريق"، حسب تعبير رئيس منتدى تعزيز السلم.
السلم الدائم
تساءل ابن بية، في معرض كلمته الافتتاحية للدورة الثالثة للمنتدى، عن أهمية موضوع السلم في المجتمعات المسلمة. وفي معرض جوابه على هذا السؤال، شدد على أهمية السلم في هذه الحقبة التي تتميز، في رأيه، بوضع عالمي غير مسبوق يشهده العالم عموما، والعالم الإسلامي خصوصا، والعربي بشكل أخص. فـ "الوضع الذي كان قائما في الملتقى الأول والثاني لا ينفك يتفاقم، بل اشتد أوار النزاعات، واستفحلت الخصومات، وصار القتل والقتال عملة وسلعة رائجة، فلا تسمع إلا مذبحة هنا، ومجزرة هناك، وانفجارا في الشرق وآخر في الغرب، تذهب ضحيته الأرواح البريئة التي لم تجن جناية، ولم ترتكب جرما، وتحقق معنى النبوءة: لا يدري القاتل فيم قَتلَ، ولا المقتول فيم قُتل"، يقول العلامة عبد الله بن بية.
وأشار المتحدث إلى أن الساحة اليوم "لا تزال تمور بالفتن، ولا تكاد تمر فترة دون أن نسمع بتصريحات تؤجج نيران العنصرية الدينية، فحتى الحملات الانتخابية وجدت في العنصر المسلم مادة انتخابية تستميل بالتحريض ضده أصوات الناخبين"، مضيفا، في كلمة الافتتاح، أن هذا المنتدى "قرر أن يكون منبرا رفيعا ومنصة سامقة لتقديم بيان يعيد مفاهيم الشرع إلى نصابها، ويسمح لهذه المنطقة المنكوبة أن تظفر من السلام والعافية بنصيبها".
واعتبر المتحدث أن القضايا التي شغلت أصحاب المنتدى منذ تأسيسه ما زالت غير مُستوعَبة إلى حدود اللحظة، والقيم التي دافع عنها هذا المنتدى لا تزال غير مُتمثلة، والنصوص الشرعية التي تم سردها غير ممتثلة. ومع ذلك لا يزال الهم قائما من أجل أن تنبت شجرة السلم، والتي "تحتاج وقتا لتقوم على سوقها وليس المهم من يستثمر أو من يستظل، ولكن المهم هو إنجاز المهمة التاريخية، وهي المهمة التي نحن بصدد إنجازها، وإن شاء الله سائرون إليها؛ لأن غايتنا أن ننشر السلام وثقافته، والغاية تبرر الوسيلة في هذا المقام".
الدولة الوطنية
ويأتي هذا المنتدى، في دورته الثالثة، لاستئناف ما بدأه المنتدى في ملتقياته السابقة من تشخيص وتأصيل لعدد من المفاهيم. ويرى المنظمون أن ما وقع فيها من خلل يشكل مدخلا من مداخل الأزمة التي تعيشها المجتمعات الإسلامية اليوم، وفي الوقت نفسه فإن تصحيحها من أهم المخارج التي يمكن النفوذ من خلالها إلى فضاء السلم الرحيب.
ومن هذه المفاهيم التي وقع بصددها خلل، نلفي مفهوم الدولة الوطنية، وهو مفهوم نبت ونما خارج الضبط العلمي في وقت ووضع تاريخي معين، لكنه مع غياب شروطه الزمانية والإنسانية أصبح من المتعين ضبطه من جديد.
ولهذا السبب ارتأى منظمو المنتدى أن هذا المفهوم، مفهوم الدولة الوطنية، لا يقل خطورة عن سابقيه من المفاهيم التي تعامل معها المنظمون في الملتقيات السابقة، والتي احتيج في ما سبق إلى مراجعتها وضبطها على ضوء المتغيرات الواقعة في الزمان والمكان والإنسان. هذا المفهوم، يقول عنه العلامة عبد الله بن بية، رئيس المنتدى، هو "الذي نعتبره من المفاهيم المفجرة التي يجب تفكيكها وإعادة تركيبها؛ لأن البعض يتذرع به لتحقيق غايات يضفي عليها الشرعية من خلال نصوص مجتزأة من سياقاتها، ومن خلال إهمال فج لأدنى قواعد منهج تنزيل الأحكام والمفاهيم التي أصل لها علماء المسلمين عبر الأزمنة المتوالية".
ولهذا سيكون المدخل إلى موضوع هذا المفهوم الحديث عن صناعة المفاهيم وأهميتها، من أجل الولوج في صلب الموضوع بالحديث عن مسألة الدولة، وعلاقة الدولة بالدين، مع التطرق إلى الرؤية الغربية لهذه العلاقة، ثم مناقشة قضية إسلامية الدولة، وقضية الخلافة، والدولة الوطنية التي سيتم تناولها من خلال ثلاثة قضايا: - الأولى تتعلق بالإحالة المتبادلة بين ما هو ديني وما هو دنيوي - الثانية تتعلق بسؤال: هل الخلافة تعبدية أم مصلحية؟ - الثالثة هي إطار شرعي للقضيتين السابقتين، ولزاوية النظر إلى قضية الدولة الوطنية، وهو ما يتعلق بمركزية المصلحة في تدبير الشأن العام.
صناعة المفاهيم
من أجل توضيح الالتباس الذي يحيط بمفهوم الدولة الوطنية، اختار العلامة عبد الله بن بية، الذي يحظى بتقدير عظيم من جميع المفكرين والمثقفين الحاضرين، أن يتوسع أكثر من خلال تحديد كرونولوجي للمفهوم وتشكله عبر التاريخ؛ إذ إنه منذ القرن السابع الهجري بدأ العقل المسلم يدخل في أزمة فقهية وفكرية، نتيجة الجمود على المنقولات؛ حيث أخذت هذه الأزمة، بحسب المتحدث، منحى تصاعديا بشكل تدريجي صاحبته أحداث جسام، لعل أهها سقوط الأندلس في القرن التاسع، ولم تعد النظرة التجديدية لقضايا الزمان حاضرة في العقلية الفقهية والفكرية، واتسم الوضع بنوع من القصور في القدرة على إنتاج مفاهيم جديدة تحيي في الأمة ما اندرس منها وعفا رسمه. واستمر مؤشر الأزمة في تصاعد تزامنت شدته مع الحركة الاستعمارية وسقوط الدولة العثمانية في بدايات القرن العشرين.
وفي هذه الفترة، يضيف بن بية، نشأت مفاهيم ملتبسة قامت بناء على خلفيات علمية "لم تحترم الأصول الصحيحة للتراث، ولم تستوعب التغير الذي اعترى الزمان والواقع، فوقعت في إشكال التقابل بين ثنائيات في منهجية سطحية، كإسلامية الدولة مقابل العلمانية، والخلافة أو الإمامة في مقابل الدولة الوطنية، فهذه مفاهيم ألقيت في الساحة الفكرية، وأصبحت تلقائية ومتغلبة وكأنها حقائق علمية أو مفاهيم صحيحة دون تمحيص وتدقيق".
وخلص العلامة الموريتاني، الذي ارتقى إلى مدارج العالمية بفضل انفتاحه على العلوم الشرعية والوضعية، إلى أن الحاجة أصبحت ماسة "إلى نظر كلي يلاحظ الواقع المستجد لتركيب الدليل مع تفاصيله وترتيب الأحكام على مقتضياتها".
هسبريس