( التحديق في الفشل) كان الوزير الأول بإمكانه توسيع صفوف المقتنعين المحتملين بخطابه الأخير لسنة 2017 لو قلل من منسوب وعود العام الماضي المغرية التي أتبعها بتسيير حكومي مرتبك إلى أبعد الحدود، وبمستوى من الإنجاز دون الحد الأدنى من انتظار الساحة، وأملها المرجو، وهو ما عرض لا محالة وعود خطابه الحالي إلى أن تكون شبيهة بما يقدم عندنا في فترة الحملات الانتخابية من أوهام وتعهدات يطويها النسيان مع طي آخر خيمة دعاية، وتتلاشى حتى من أذهان محرريها الذين كانت حدود كفاءاتهم و المعيار الأوحد المتحكم في صياغة ما سيكتبون هو ما سيثيره من حماس وتصفيق في المهرجانات، خصوصا أن نقمة المواطنين وسخطهم تراكمت من خطابات مكررة لوزراء في حكومة معالي الوزير الأول في السنوات الماضية وغدت شبيهة بالفرجة على الإعلانات المكررة التي تثير نقمة المشاهدين، وسأمهم كلما تمادت في تكرار نفسها، بدل أن تنال رضاهم وتحفز فيهم شهية الاقتناء أو التبضع .
أول المدركين أن حالة البلاد الاقتصادية في وضع مفارق على نحو كلي للصورة التي قدمها معالي الوزير الأول في خطابه أمام البرلمان هي وزارات الدولة نفسها ومؤسساتها وإداراتها المختلفة التي تؤكد وقائع تسييرها الجارية أنها خلال السنة المنصرمة كما هو الحال في السنوات الماضية لم يكن لديها ما يمكنها من أن تعد المواطنين إلا بشد الأحزمة والجهد والعرق وشقاءات الأزمنة الصعبة بدل ما وعد به خطابات الوزير الأول المواطنين من إمكانية سقوط لذيذ الفراخ وصغار المعز المشوية في حلوقهم. فلا توجد مؤسسة ولا وزارة إلا وطاف على بنود صرفها الهزيلة أصلا طارق التطفيف وانتزع من ميزانيتها الربع أو الثلث، واغلبها يتوقف عن العمل في منتصف السنة وتبدأ أضلع مسيريها ترتجف في نهاية كل شهر في رحلة استجداء للحصول على صرف رواتب العاملين من قبل وزير الوصاية العامة الجديد الذي أصبح المسير الفعلي لكل الوزارات والمؤسسات، وفي ظل عجز تام للدولة عن حماية القدرة الشرائية للموظف البائس والمواطن الفقير، أو توفير بصيص أمل في تشغيل الجيوش الجرارة من الشباب العاطلين الحاملين أحيانا لأعلى الشهادات والحائزين على أفضل الخبرات، وأصبح رحيلهم عن وطنهم هو حلمهم الأول، بعد أن سُحِقَتْ فيهِ كرامتهم تحت العوز والحاجة وسُلِبتْ هويتهم المجسدة في لغتهم الوطنية المنبوذة في دوائر العمل الرسمي، والمعوضة بلغة مستعمرهم المفروضة من قبل دوائر امتداداته المحلية والمنتفعين والمكونين بها، وفي ظل تلوث الجو السياسي العام بثقافة القطيعة التامة بين أطراف المشهد السياسي الحزبي والهجوم غير المسبوق على دعائم التعددية وركائزها القائمة على الرؤية والخيارات الوطنية الكبرى، والسعي لترك الناس مجردين من خياراتهم العقلية الكبرى بدون مرجع ولا ملجإ وتسليمهم مكبلين إلى خطابات الفتن الأهلية والعمل بشعار : التهموا بعضكم بعضا والبقاء للأصلح، ونشر فلسفة التحديق الدائم في الفشل الوجودي الذي لابد أن يقود المواطنين إلى اكتشاف وإعادة اكتشاف كلما هو فاشل في داخلهم والعمل بمقتضاه.