تحول الكل إلى خلاطين وعجانين وبنائين ولم تمض فترة أقل من الشهرين حتى كان ذلك المكان الشاسع قد تحول من أرض جرداء إلى عدد هائل من الغرف الطينية ، استعمل بعضها لإيواء المتدربين وقسم منها للإدارة بالإضافة إلى أقسام للدراسة ومطبخ ومطعم ، وبعد "ثورة" البناء تلك بدأنا التدريب من جديد وهذه المرة كان أكثر جدية واستمرارية وقد شهد إضافة عناصر جديدة تتعلق بالتكوين السياسي العقائدي حول فكر البوليساريو والذي لم يكن سوى ترجمة شبه حرفية للكتيب الأحمر (Petit rouge) بما في ذلك الجوانب المتعلقة بالهوية العربية والإسلامية للإنسان الصحراوي وكان النموذج الثوري البارز خلال فترة التكوين هو النموذج الفيتنامي متمثلا في "القيادة الثورية" لزعيم الاستقلال الفيتنامي الجنرال جياب (Giap) ، وكان لافتا خلال هذا التكوين غياب أية إشارة للبعد القومي العربي بالرغم من أن شعار الجمهورية التي أعلنتها البوليساريو يشير إلى ذلك البعد ، وكذلك بالرغم من أن العقيد القذافي الذي يعتبر نفسه زعيم القومية العربية كان من أهم الداعمين إن لم يكن أهمهم على الإطلاق وهو ما أشار إليه السفير ورجل المخابرات الليبي السابق محمد سعيد القشاط في كتابه (الطيور الجانحة) في رده على اتهام البوليساريو للنظام الليبي بأنه أرسل موريتانيين للتجسس عليهم حيث كتب ساخرا :" وكيف نتجسس عليهم وكل ما لديهم جاءهم من ليبيا؟".
وبالنسبة للتكوين السياسي كان يقوم بأغلب أدواره سيد أحمد البطل الذي كان البعض يتهكم بأنه من الورثة الشرعيين لكارل ماركس (Karl Marx) وفلاديمير لينين (Vladimir Lenin) وهوش يمين (Ho chi Minh) و شواين لاي (Chiwanlay) وبالفعل فأثناء محاضراته التي كانت تجعل البعض يغط في نوم عميق وكأن شرب الفاليوم (Valium) كان يجوب القاعة وهو يحمل عصى وكأنه يحاكي الجنرال جياب حتى في مقتنياته الشخصية ويحكي في جولانه عن كيف خطط مثله الأعلى لمعركة ديان بيان فو (Dien Bien Phu) التي هزم فيها الفرنسيون ، وإلى جانب هذا النوع من التكوين الممل كانت هناك حصص في محو الأمية ويفرض على الجميع حضورها سواء كان أميا أو غير ذلك فالذين أحضروا للتدريس كانوا هم النخبة في ذلك الوقت باستثناء أفراد قليلين كانوا يدرسون في المدرسة اليتيمة في جميع المخيمات وبالتالي فإن من أحضروا للمعسكر لمحو الأمية عنا لا يمكن التغيب عن دروسهم القيمة لأنه من غير المعقول أن يكون فينا من هو أفضل منهم مستوى ، وبالنسبة لي فقد تكيفت مع الوضع وكان مدرس قسمي المدعو (خندود) الذي سنعرف بعد ذلك بسنين أنه أحد عناصر الأمن الذين دمروا كل شيء بالجرائم التي ارتكبوها في حق الإنسانية وقد بدأ الدروس معنا بأول خمسة حروف من الحروف الهجائية كتبها على السبورة وبعد أن رددناها عدة مرات خلفه أمرنا بأن نقسم أنفسنا مثنى مثنى وأن نتعاون على تكرارها من أجل حفظها وكان رديفي في تلك القسمة رجل مسن اسمه الذي يشتهر به (الدولة) وقد عرفت فيما بعد أن له علاقة بعائلة أهل الدرويش المعروفة وكان رجلا طيبا صاحب مزاح وأذكر أنه اقترح علي أن نخبر المعلم بأننا لم نستطع حفظ تلك الحروف ونطلب منه أن يعفينا من الدراسة ، وأعتقد أن سببا ساذجا كان يمكن أن يدفعني إلى الموافقة على ذلك الاقتراح المضحك وهو أنه قد بدأ الحديث عن أن بعض من لهم مستويات تعليمية سيوجهون إلى مجالات العمل المدني ولن يذهبوا إلى جبهات القتال التي كان الكل يتوق إلى الالتحاق بها حيث كان المسؤولون من فترة لأخرى يقومون باختبار مدى استعداد المتدربين للالتحاق بخطوط المواجهة العسكرية إذ يطلبون ممن يرغب في الانضمام إلى المقاتلين أن يخرج من الصف فكان الجميع يخرج وتبقى الساحة خالية حتى من ذوي الاحتياجات الخاصة ، ويومها لم أكن أتصور أن يأتي اليوم الذي سأسجد فيه شكرا لله أنه لم يحقق لي حلم أن أحمل السلاح لأقتل شخصا ليس بيني وبينه ثأر أو يقتلني من أجل قضية أثبت لي من يعتبرون أنفسهم أصحابها بأنها ليست قضيتي لأدرك قيمة رسالة وصلتني فيما بعد من عمي (محمد ولد أكاه) رحمه الله يشرح لي فيها أن ما أقوم به ليس جهادا إن كنت أحسبه كذلك بل هو إلقاء بالنفس إلى التهلكة ، وأظن أنه لولا نبل الصحراويين وانتصار رفضهم لما تعرضنا له من ظلم لكان الأمر فعلا كما وصفه عمي بل كان جريمة انتحار مكتملة الأركان .
يتواصل .........
