مِنْ أين لك هذا؟ | صحيفة السفير

مِنْ أين لك هذا؟

ثلاثاء, 10/01/2017 - 16:58

ما من شك أن لكل الأدباء، أو الشعراء على الأخص مرجعياتهم التي تأثروا بها في مطلع حياتهم خاصة. غير أن اعتراف الشعراء بذلك لم يكن له حضوره ونشاطه إلا بعد ظهور المدرسة «التفكيكية» في الدراسات النقدية عقب البنيوية، وما رافق المدرسة الجديدة من تسميات كالنصوصية، التي كانت تعني أنه ما من نص أدبي إلا وله مراجع تأثر بها كاتبه، وأن على الدارس أو الناقد إرجاع ذلك النص إلى أصوله الأولى التي تأثر بها بشكل عفوي أو متعمد، قبل أن يُصدر الدارس أحكامه الأخيرة على النص.
في هذا المناخ يبدو أن جميع المبدعين معرضون إلى أن يوجه إليهم هذا السؤال المربك: «مِن أين لك هذا؟» وأن عليهم أن يعرفوا الجواب السليم عليه في سبيل اكتشاف الينابيع التي شرب منها الواحد منهم، قبل أن يصير له ينبوعه الخاص الذي اكتفى به وصنع منه خصوصيته.
هذا ما دفعني أكثر من مرة إلى أن أقوم بهذه المحاولة التي أقدم لكم منها الآن بعض ما بذلته من جهد صادق في سبيل معرفة نفسي أكثر فأكثر. أتذكر الآن إذن سيرة مريرة من عمري وهذا أنذا قد تجاوزت الثمانين، وعليّ أن أعود إلى بواكيري لأكتشف هل كان « » حقا في هذه القصيدة أو تلك وليس «طرفة بن العبد» مثلا أو البحتري أو المتنبي أو أحمد شوقي أو بدوي الجبل أو عمر أبو ريشة أو الجواهري أو نزار قباني أو فيكتور هوغو أو جاك بريفير أو بول جيرالدي أو.. أو، مئات بل آلاف الشعراء والكتّاب العرب أو الأجانب الذين التهمت كتاباتهم وتمثلتها واعياً أو بشكل لا شعوري. كل هذه القراءات من أشعار أو قصص وروايات وأساطير وسير شعبية وفكر فلسفي أو ديني، إضافة إلى نصائح المدرسين أو بكلمة واحدة كل ما يصنع الثقافة المكتسبة حتى الأغاني والموسيقى، التي كانت غذائي اليومي الذي كان يصنعني وكان عليّ ان استفيد منه في الوصول إلى خصوصيتي فأين «أنا» من كل هذا؟
كان طبيعياً أن أتأثر في مطلع شبابي بتراثي العربي تأثراً عميقا، وإلا فكيف أفسر وأنا بعد طالب في المرحلة الثانوية نظمي قصيدة نشرتها يومئذ في مجلة مدرسية تبدأ بهذين البيتين:
ولي هِمة شمّاء يُشعلها الدهرُ فلا هو يطفيها ولا الصدّ والهجرُ
تمور بألوان الإباء كأنما عوالمها بحر وشاطئها سرّ
وكأنها للمتنبي. وليست لي في ذلك العمر ـ السادسة عشرة أو السابعة عشرة ـ أو حين نظمت قصيدة تبدأ بهذه الأبيات:
ثلاث كؤوس على المائدة تراق على معدٍ واحدة
وحول الخوان ثلاث رجال من السكر كالجثة الهامدة
دعوا الخطأ اللغوي في العدد «ثلاثة» ودعوني أسأل من أين لي وأنا بعد فتىً غرير لم يعرف كأسا ولا شرابا مسكراً، لا شك أن «أبا نواس» هو المسؤول عن غوايتي المبكرة من خلال دهشتي بجرأة أبي نواس وشعره الخمري.
وحتى أخذتنا اللغة الفرنسية إليها بعد أن أجبرنا المحتلون الفرنسيون في تلك العهود على إتقانها والتكلم بها، فإذا بي أكتب مثلاً قصيدة بعنوان «نرفزة» جاء فيها:
غضةٌ وانطفأت بي ومثلما أنت انطفأتِ
وعلى صدري تعلقتِ كما بالأمسِ كنتِ
وأنا أهمس في أذنك: أنتِ .. أنتِ
متأثراً بقصيدة للشاعر الفرنسي الطريف بول جيرالدي عنوانها: Expansion أي «بوح» في هذه الخاتمة اللطيفة للقصيدة المذكورة:
Que lorsque je te tiens ainsi, petite tete
Et que cent fois et mile fois
Je te repete eperdument et te repete
Toi ! Toi !.. Toi !
وترجمتها بالعربي: «عندما أحتضنكِ هكذا برأسك الصغير/ولمئة متر وألف متر/أكرر عليكِ والهاً وأكرر: أنتِ! أنت! أنتِ. إلى ان أصل مثلاً إلى قصيدة نجت «في تصوري من التأثر المباشر بغيرها. في القصيدة التي ألقيتها في احتفال ضخم عن «السلم العالمي»:
فرح مطل الصيف والنزهات والليل المضاء
وتألق البيت الرحيب بإخوتي ركضوا وجاؤوا
وجديلة محلولة نشرت فبيتي مستضاء
نادت: نجحتُ! فأي شيء لم يحركه النداء
أخت.. فم الدوري يلثغ والتوثب والرواء
مريولها المكوي، يا قتها .. دفاترها الوضاء
سبع فيا عمر الورود.. وددتُ لو طال البقاء
تلك القصيدة الواردة في مجموعتي الشعرية الأولى: «أكثر من قلب واحد» حيث لاحظت أن هذا المطلع شعر مختلف، لأنه صادر عن حــــــركة عاطـــفــــية شعرية عائلية حرة من أي تقليد، فهـــل أرتاح لهذا الحكم وأقول إنني وصلت أخيراً إلى خصوصيتي التي حافظت عليها طويلاً حتى لقد يشبّهني «وطفي قرنفلي» رحمه الله.. وهو شاعر حمصي مشهور بأسلوبه الشفاف في صياغته الأصيلة الأنيقة.. قال لي في إحدى زياراتي له في بيته في حمص: يا شوقي «يمكن أن تسمى ذات يوم «الشاعر العائلي».. وكأنه وضع عنواناً لطيفاً للخصوصية التي وجد أنني أتميز بها عن غيري في أي موضوع كتبت في تلك الأيام.
لقد تغيرتُ بعض الشيء فيما بعد واغتنت خصوصيتي بأبعاد أخرى، ولكنها ظلت قريبة مما قاله لي وصفي قرنفلي .. حتى لقد اضطررت حين هربت إلى لبنان في أحد العهود خوفاً من الاعتقال التعسفي الرائج في بلادي في تلك الأيام. وعشت في لبنان باسم مستعار في حي مسيحي حتى لا يعرفني أحد، ونشرت بعض القصائد في إحدى الصحف اللبنانية باسم: فـــــؤاد الشامي ولكن بعض المتابعين مطالعة تلك الصحيفة قالوا لأصحابها: أليست هذه القصائد من نظم ، وفؤاد الشامي اسم مستعار.. وعندما وصلني هذا الخبر لم يكن أحد أسعد مني إذ أدركت أن خصوصيتي هي التي كشفت للقراء اسم الشاعر الحقيقي.. وعندئذ فهمت أن عهود تأثري بالآخرين انتهت.. ولكم أرجو أن لا أكون مخطئاً في حكمي هذا بعد هذه السنين، فإذا سُئلت الآن: مِن أين لك هذا؟ لا أجد جواباً أفضل من قولي للسائل: هذا هو أنا.. سلباً أو إيجاباً.

 

شوقي بغدادي٭ شاعر سوري