مرة أخرى يعود الحديث إلى خرافة الأغلبية السياسية، فقد تضمنت ورقة التسوية التاريخية التي قدمها التحالف الوطني دعوة صريحة إلى نظام الاغلبية السياسية في الفقرة التي نصت على «تحرير الدولة وكل مؤسساتها من نظام المحاصصة العرقية والطائفية إلى نظام الإستحقاق السياسي»! وقد كان رئيس مجلس الوزراء السابق نوري المالكي أول من صرح بذلك في عام 2009، عندما أبدى تحفظاته على نظام «الديمقراطية التوافقية»(بنسختها العراقية بالطبع)، وعزا المشاكل التي عرفتها حكومته حينها إلى هذا النظام، وأبدى تأييده للنموذج الديمقراطي الذي يمنح «الأغلبية السياسية» حق تشكيل الحكومة.
وقد تردد الحديث عن الاكثرية السياسية بين فاعلين سياسيين شيعة آخرين، اذ تحدث القيادي في المجلس الأعلى الإسلامي صدر الدين القبانجي، بعد ذلك، عن حق الشيعة في الحاكمية في العراق بوصفهم «الأكثرية». ثم تحولت هذه الدعوة إلى برامج سياسية معلنة، في انتخابات عام 2010، عندما تبنى البرنامج الانتخابي لائتلاف دولة القانون بزعامة المالكي، والبرنامج الانتخابي للائتلاف الوطني العراقي بزعامة السيد مقتدى الصدر والسيد عمار الحكيم مقولة حكومة الاغلبية السياسية. وقد تراجع الجميع عن هذا المبدأ عند تشكيل الحكومة بعد انتخابات عام 2010، حين أيقنوا أنه لا إمكانية حقيقية لتحقيق هكذا حكومة.
ولم يقف المالكي عند حدود هذا الطرح الإشكالي، فقد دعا في العام نفسه إلى تعديل النظام السياسي في العراق من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي! في دعوة ضمنية إلى نظام سياسي مختلط رئاسي/ برلماني، على غرار النظام المعمول به في فرنسا، يتم فيه انتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع المباشر، ويكون فيه رئيس مجلس الوزراء نتاجا للاغلبية السياسية داخل مجلس النواب، لكن هذه الدعوة لم يقل بها سواه.
والحقيقة ان فكرة الأغلبية السياسية لا تقوم على أساس حقيقي في العراق، بسبب التماهي التام بين الأغلبية السياسية والاغلبية الديمغرافية! فالجماعات السياسية الرئيسية في العراق التي هيمنت على المشهد السياسي منذ نيسان 2003، قامت، ومنذ لحظة نشأتها، على مقولات طائفية بحتة بوصفها مقولات سياسية، ومن ثم فهي بطبيعتها أحزاب «طائفية»، أي أنها لا يمكن إلا أن تكون أحزابا كردية أو شيعية أو سنية. ولم تستطع الأحزاب والكيانات السياسية التاريخية او الحديثة التي قامت على الأسس الوطنية أن تحظى بأي فرصة حقيقية في هذا المشهد، باستثناء حركة «الوفاق» التي استطاعت، بسبب زعامة أياد علاوي، أن تبقى محافظة على شكل «وطني» ملفق من خلال تحالفات تكتيكية!
اما البروباغاندا السياسية الصاخبة حول الائتلافات «الوطنية» المفترضة، فان الوقائع على الأرض تبين بوضوح أن نموذج الكيانات «الوطنية» العابرة للولاءات الأولية Primordial Sentiments ما زال نموذجا بعيدا، وأن ما جرى فيما مضى، وما يتم العمل عليه حاليا من قبل بعض الأطراف السياسية، هو مجرد محاولة لتأطير الطائفية وليس تجاوزها. وقد حاولت بعض الكيانات الكبيرة ان تذهب إلى استقطاب بعض الشخصيات أو الكتل الصغيرة ذوات بنية طائفية مختلفة معها لإنتاج «كيان» عابر للطائفية! وهي الكذبة التي تم العمل عليها بشكل حثيث في انتخابات عام 2010، ولكنها فشلت فشلا واضحا، فقد عمل ائتلافا «دولة القانون» و»الوطني العراقي» حينها إلى اضافة اسماء «سنية» ذات إلى ائتلافيهما، لكن هذه الاسماء فشلت جميعها في الفوز، بل لم يحظ أي منها بأكثر من بضعة مئات من الأصوات! ومن ثم ظل ائتلاف دولة القانون والوطني العراقي في النهاية ائتلافين شيعيين/طائفيين بامتياز.
اما القائمة العراقية، والتي وصفت على نطاق واسع بانها قائمة عابرة للطائفية، فقد صنفت في نهاية المطاف هي ايضا على أنها قائمة سنية، أي أنها دخلت بالضرورة في قائمة التصنيف الهوياتي. بل إن الانشقاقات التي حصلت في القائمة في وقت مبكر جدا، كانت نتيجة لهذا التصنيف، عندما انشق معظم النواب الشيعة من القائمة، ولم يبق فيها إلا النواب الشيعة الموالون لزعيمها أياد علاوي، وعددهم لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة!
ولم تشهد انتخابات 2014 أي حديث حول الكتل العابرة للطائفية، باستثناء القائمة الوطنية بزعامة أياد علاوي. ولكنها في النهاية لم تكن سوى شكل خال من أي محتوى حقيقي! فالقائمة ضمت الكثير من الشخصيات التي كانت جزءا من المشهد الطائفي! والاهم من هذا، ان القائمة فشلت فشلا تاما في الحصول على أي مقعد في محافظات الجنوب والوسط ذات الغالبية الشيعية، باستثناء مقعد واحد في محافظة بابل! في حين حصلت القائمة على عشرة مقاعد في محافظات نينوى وصلاح الدين والانبار وديالى ذات الغالبية السنية، أما في بغداد، فقد حصلت القائمة على عشرة مقاعد، جميهم من دون أي استثناء حصلوا على مقاعدهم بفضل أصوات أياد علاوي، الذي حصد على 229709 أصوات.
هوياتيا كانت القائمة الوطنية تضم 17 عضوا سنيا مقابل 4 أعضاء شيعة فقط. ولكن الاهم هنا، وإذا تجاوزنا انشقاق البعض وانضمامهم بعد الانتخابات مباشرة إلى الكتل الطائفية القائمة، (انشق محمود المشهداني بعد الانتخابات مباشرة وانضم إلى اتحاد القوى)، هو أن السلوك السياسي والتصويتي لهؤلاء الأعضاء ظل قائما على أساس هوياتهم الطائفية!
إن الحديث عن حكومة أغلبية سياسية، لن يعني في النهاية، تبعا لهذه الحقائق، سوى هيمنة أحادية على القرار السياسي والعسكري والاقتصادي في العراق. وبالتأكيد سيكون ثمة إصرار على أن يتم «تمثيل» الآخرين عبر «ممثلين» تختارهم هذه «الأغلبية السياسية» تبعا لمعاييرها! وإذا كان الطرف الكردي ما زال قادرا على فرض شروطه نسبيا على الفاعل السياسي الشيعي صاحب «الأغلبية السياسية» بالنسبة لممثليه، فان الطرف السني سيتم تمثيله عبر «السنة الجيدين»المرضي عنهم من الفاعل السياسي الشيعي! ولن يكون بامكان أي طرف داخل مجلس النواب التأثير على القرارات التي يتخذها الفاعل السياسي الشيعي. ذلك أن الطريقة الرئيسية لاتخاذ القرارات في مجلس النواب هي بالأغلبية البسيطة بعد تحقق النصاب ما لم ينص على خلاف ذلك )المادة(59. وقد نص الدستور على بعض الحالات التي يجب أن يتم التصويت عليها بالأغلبية المطلقة، والتي عدت بموجب تفسير المحكمة الاتحادية «حسب الطلب» أو «الدلفري» مساوية للأغلبية البسيطة! وهناك مواد أخرى تتحدث عن الاغلبية المطلقة لعدد الاعضاء، مثل المواد المتعلقة بانتخاب رئيس مجلس النواب او استجواب رئيس الجمهورية، ومادة واحدة فقط تتطلب التصويت بأغلبية ثلاثة أرباع أعضائه (المادة 138/ثانيا/ج)، وبأغلبية ثلاثة أخماس أعضائه (المادة 138/خامسا/ج)، وكلتاهما لم تعد مطلوبة لأنها تتعلق بمجلس الرئاسة الذي لم يعد قائما. وهذا يعني ببساطة أن دور المعارضة المفترضة، في ظل مقولة الأغلبية السياسية، سيظل في حدود «الظاهرة الصوتية» ولا يمكن أن يكون له أي تأثير حقيقي على القرارات التي يتخذها الفاعل السياسي الشيعي.
ينهي آرنست ليبهارت كتابه «الديمقراطية التوافقية» بالقول إن الخيار الواقعي بالنسبة إلى الكثير من المجتمعات التعددية في العالم غير الغربي، ليس خيارا بين النموذج المعياري البريطاني للديمقراطية والنموذج التوافقي، بل بين النموذج التوافقي للديمقراطية وبين انعدام الديمقراطية تماما. بكلام آخر لا خيار أمام النظام السياسي العراقي إلا الاختيار بين الديمقراطية التوافقية الحقيقية التي تتيح للمكونات جميعا المشاركة الحقيقية في السلطة، وليس الشكل الهجين الذي وجدناه منذ العام 2005، أو احتكار فاعل سياسي يحتكر تمثيل مكون ما للسلطة، ومن ثم انعدام الديمقراطية. لسنا هنا في إطار التنظير، فالصيغة المقترحة للحكم بالأغلبية السياسية لن تنتج سوى احتكار أحادي للسلطة، ولن يجد الطرف الآخر من سبيل لمواجهته إلا بالتمرد.
يحيى الكبيسي٭ كاتب عراقي